( الرواية الحديثة تأسيس فني لرؤية متفردة إلى الوجود والعالم )
وجدت الرواية جنساً أدبياً لها قواعدها ومزاياها التي تختلف بها عن
بقية الأجناس السردية قبل أقل من أربعة قرون، وعلى الرغم من ذلك فإنها
شهدت انقلابات عديدة في مستويات وطرق السرد والبناء، وكشفت عن أهم
خاصية تمتاز بها، ألا وهي مرونتها وعدم خضوعها لقواعد صارمة، وقدرتها
على تجاوز قواعدها وأشكالها القديمة باستمرار، وإمكانيتها في هضم وتمثل
واستثمار قواعد وأشكال الأجناس الأخرى في نسيجها العام .. لقد تخلى
البناء الروائي عن تماسكه وتوازن عناصره الظاهر من أجل توازنات
وتنافرات مركبة ومعقدة، وحالة من التوتر مستمرة . وكلما وجدت الرواية
نفسها مكبلة بقيود ورثتها من الأشكال القديمة تتمرد لكسر قيودها تلك،
مبتكرة أشكالاً أخرى، تتحول إلى قيود في ما بعد ينبغي كسرها أيضاً،
وهكذا دواليك .
من هنا تغدو الرواية مركز جذب لأولئك الذين يحملون في ذواتهم هاجس
المغامرة فيدخلون معتركها باحثين عمّا هو مجهول ومدهش . فالرواية لم
تعد طريقة لتقديم معلومات، أو تصوير وضع اجتماعي بأسلوب مسطح، مباشر ..
أو تحليلاً نفسياً لشخصيات في مواقف مأزومة، بل هي تأسيس فني لرؤية
متفردة إلى الوجود والعالم، فعلينا إذن ألاّ نطالبها بأن تكون شهادة
سياسية، أو فحصاً اجتماعياً/ تاريخياً محضاً، أو بياناً إيديولوجياً،
لأنها ببساطة ـ أو هكذا ينبغي أن يكون معها الأمر ـ مرافعة ذاتية تضع
الإيديولوجيا والسياسة والمجتمع والتاريخ موضع مساءلة لا تنتهي حتى
عندما نطوي الصفحة الأخيرة منها، فلم تعد الرواية تهدي لقارئها أفكاراً
جاهزة وأجوبة قاطعة، بقدر ما تجعله يفكر ويوغل في التفكير .. يقول
كونديرا: (لا يصنع الروائي موضوعاً عظيماً من أفكاره . إنه مستكشف
يتحسس طريقه بجهد ليكشف بعض جوانب الوجود المجهول. )
ففي الرواية الحديثة نتلمس ذلك البحث المضني واليائس والمثابر عن
اليقين .. اليقيـن الذي نفترضه في مكان ما ، خارج ذواتنا، لنقع أخيراً
على بعض ظلاله، ربما، داخل هذه الذوات، فتكون الرواية لعبة الذات /
الكاتبة ، ومغامرتها ..لا تلك المغامرة المفتوحة البطولية حيث يتميز
الخير عن الشر، والأنا عن الآخر . ويكون كل شيء واضحاً ، ومعرّفاً
كفاية . وإنما المغامرة الأخرى .. مغامرة الفرد الذي يعي محدوديته
وعجزه وحيرته، ويصر في الوقت نفسه على المضي بإرادته لمواجهة مصيره .
والرواية الحديثة أقل إدعاءً من شقيقتها القديمة، ولذلك فهي أقل
زيفاً .. إنها لا تعكس حقائق صارمة، بل تخلق حقائقها . وليست وظيفتها
تسجيل مغامرة محض، وإنما القيام بمغامرتها الخاصة، وعند ذاك فقط تستطيع
أن تلمس لغز الوجود من موضع آخر، لم يلمسه أحد قبلاً ، ويدخل منطقة
عذراء لم ينتهكها أحد في ما مضى . وكبار الروائيين أفلحوا في إدهاشنا
مراراً لأنهم استدرجونا بطريقة مغايرة، وإلى مكان آخر من العالم ، أو
داخل أنفسنا.
إن الرواية الكبيرة هي تلك التي تلقي في دواخلنا شيئاً من الأسى على
التجربة الإنسانية، وشيئاً من فرح الحياة، وتثير فينا رعشة الوجود .
كان روائي القرن الثامن عشر حريصاً على منح قارئه الطمأنينة
واليقين، لكن مع ستندال ودستويفسكي في القرن التاسع عشر، ومن ثم مع
كتّاب القرن العشرين الكبار صار ديدن الكاتب الروائي إشراك قارئه في
قلق الوجود .. هذا القارئ الذي كلما انتهى من قراءة رواية جديدة تكثر
في جعبته الأسئلة والشكوك تلك التي بوساطتها يتعرف على جانب آخر من لغز
الحياة . فهو سيدرك أن الحياة اكثر تعقيداً مما صوره أولئك الروائيون
الذين منحونا حكايات واضحة ببداية ووسط ونهاية، وبتصاعد زمني خطي،
وشخصيات تتعامل مع العالم بالمنطق والمعقول .
لقد تهشم الزمن الروائي وتشظى، وأظهرت الرواية ذلك الجزء اللامنطقي
واللامعقول من المغامرة الإنسانية، وكذلك الغموض الذي يغلّف الذات
الإنسانية وإشكالية علاقتها مع الكون والوجود .. إن روايات من مثل (
المحاكمة ) و ( القصر ) لكافكا و ( الصخب والعنف ) لفوكنر و ( ذئب
البوادي ) لهرمان هسه و ( الشيخ والبحر ) لهمنغواي هي كشف وتعرية
للبطولة المخيبة لإنسان القرن العشرين وفضح لعجزه ومحدوديته ومأزقه على
الرغم من صلابة إرادته وحدّة وعيه، ومحاولاته المتكررة المريرة من أجل
الإمسـاك بالمعنى، والتحكم بالمصير . |