دلاليا .. لايوجد اختلاف مابين مصطلح (مسرح العاصمة) و (مسرح
المحافظات) إلا من الناحية المكانية فقط .. ومع ذلك فالمسافة الإبداعية
بين الاثنين تبدو شاسعة إلى الحد الذي كثيرا مابدا فيه مسرح المحافظات
متخلفا بمقدار كبير على المستوى الفني والجمالي عن قرينه الأول لدى
المتابع لمسيرة الحركة المسرحية في العراق على امتداد العقود الأربعة
الأخيرة.
فما قدمه مخرجو المحافظات من أعمال لايمكن مقارنته بنتاج زملائهم
المتطور في بغداد.. حيث إن عنصر الإبهار البصري، بشكل خاص، لم يتوفر في
خطاباتهم إلا بحدود ضيقة جدا مما جعلها اقرب إلى النصوص الأدبية التي
تتعكز على الملفوظ الحواري لإيصال المضامين .. منها إلى الخطابات
الفنية التي تعتمد على (البصري) وإيحاءاته مثلما تعتمد على ( السمعي )
أيضا.
إن هذه المراوحة الإبداعية والبقاء في دائرة التشابه والتكرار لا
تتعلق بغياب الطاقات الفنية القادرة على خلق عروض تتسم بحداثويتها
وانما بغياب العناصر المادية المحفزة للمخيلة الإخراجية .. والعوامل
التي تتيح لرؤى المخرجين اخذ مداها الكامل لدى التطبيق العملي .. واقصد
بذلك المسارح المعاصرة التي تتوفر فيها التقنيات المتكاملة ومتممات
العرض من منظومات إضاءة ومؤثرات صوتية وديكورات وأزياء وإكسسوارات
وغيرها.
فالمسرح النموذجي يقود المخرج إلى توسيع خياله، والامتداد نحو آفاق
ابعد من افقه الحقيقي ذلك إن تلك العناصر- في حالة وجودها- تشكل مثيرات
مهمة تمنحه فرصة تطوير رؤاه وتصوراته الإخراجية على العكس من عدم
توفرها حيث تشكل في هذه الحالة عائقا أمام جموح المخيلة وتضعها في
دائرة محددة تفرض على المخرج تأسيس خطابه على ضوء ماهو ممكن ومتاح من
إمكانيات وهي بالتأكيد إمكانيات فقيرة جدا تشابه ماهو موجود في المسارح
البدائية.
إن جميع مسارح المحافظات هي مسارح قديمة التصميم حتى المشيدة حديثا
سواء من ناحية مساحة وعمق الخشبة (stage) أو من ناحية التقنيات المشار
إليها أو حتى تصميم الصالات التي تستوعب المشاهدين ..على العكس من
مسارح العاصمة المؤثثة بمنظومات إضاءة متعددة ولاقطات صوت وورش لتشييد
الديكورات إضافة إلى منصات ذوات عمق كبير يؤهلها لاستيعاب مجاميع ضخمة
من الممثلين .
لقد أصبحت هذه المشكلة الدائمية معرقلا أساسيا يعيق تطور مسيرة فن
المسرح عندنا بحكم امتلاك المدن العراقية للكثير من الطاقات الفنية في
الإخراج والتمثيل والتأليف التي يمكن إن تساهم بجدية في الارتقاء بهذا
الفن المهم والوصول به إلى مناطق الإبداع الحقيقي والمؤثر. وترتبت
عليها نتائج سلبية غير ملموسة في بغداد لكنها واضحة وجلية في
المحافظات ..منها انطفاء الكثير من المواهب ذات الثقافة الرصينة
والتحصيل الأكاديمي التي كان يعول عليها في تحقيق منجز مسرحي يتجاوز ما
حققه المسرحيون الذين سبقوهم، وضعف الاصرة التي كانت تربط مابين فن
المسرح و الجمهور الذي طالما وجد فيه زادا ثقافيا يحتاجه وعيه وذائقته،
إضافة إلى الهجرة المستمرة للمسرحيين صوب العاصمة بحثا عن متنفس
لمكبوتاتهم الفكرية وحاضنة لنمو ما تكتظ به دواخلهم من إبداعات.
إن المعالجة الجذرية لهذه المشكلة باتت مسالة ملحة جدا وهي ليست
بالمهمة الصعبة في ظل الظروف التي يعاد بها بناء العراق، فالمسرح هو
الفن الأعرق ،وتطوره يعد واحدا من المؤشرات الحضارية على تطور
المجتمعات وقد أكد لنا ظرفنا الخاص الذي عشناه على أهمية الثقافة كعنصر
أساسي في تدعيم المنظومة الأخلاقية وترصين البناء القيمي للمجتمع
ولااعتقد إن فنا آخر يمتلك القدرة نفسها التي يمتلكها المسرح في نشر
الثقافة بين الناس. |