المسرحية الشعرية_ صوت الحر الرياحي_ للشاعر رضا الخفاجي

خاص بشبكة النبأ: لواء عبدالله الفواز

 يسر شبكة النبأ ان تنشر أحد المقالات النقدية للأديب الناقد الراجل لواء الفواز عن مسرحية الحر الرياحي للشاعر رضا الخفاجي، لما يمثله المرحوم الفواز من طاقة نقدية متميزة وواعية أهلته في حياته لمناصفة احد كتاب النقد المصريين في الفوز بالجائزة الاولى لمسابقة الشارقة بكتاب نقد مهم، رحم الله المبدع لواء الفوز واسكنه فسيح جناته.

                                                                            شبكة النبأ 

يبقى عمل المؤلف الشعري محفوظا بالمخاطر والمجازفات، لايقدم عليه الا من اوتي جراة مستفزة على الدوام، لا يحسد عليها كثيرا، لكنها محسوبة له في النهاية، فجرأته تكمن في توظيف الطاقة الايجابية والتعبيريه للشعر، كما تكمن في قوة فهمة لحركة الصراع ومستوياته في العمل الدرامي المسرحي، ذلك ان مؤلف الدراما الشعرية ((يجب ان يعمل على مستويين، دراميا مع شخوصه ومع موضوع مسرحيته، ومن الخطأ الفادح ان يظن بأنه يمكن ان يحقق نجاحا في ذلك بأن يدفع المسرحية الى الامام عن طريق تفجير طاقات الشعر وحده))[1]

في مسرحية الشاعر((رضا الخفاجي) الشعرية ((صوت الحر الرياحي)) سنحاول معرفة ما اذا كان الشاعر قد حقق هذه المعادلة الصعبة ام لا، على المستوى الفني، كما سنتعرف على قيمة العمل الفكرية، حتى نمسك بطرفي المعادلة على نحو اكثر اكتمالا في المنظور النقدي.

القيم البنائية والفنية:

هذه المسرحية ذات فصل واحد، وقد قُسم الى خمسة مشاهد، وهي من البحر المتدارك او الخبب، ماعدا الرجز في نهاية المشهد الاخير وقد ذكر العروضيون ان المتدارك، هو ثمانية تفعيلات على وزن((فعلى)) ((اكثر ما يصلح لايراد نكته او محاكاة وقع مطر او قعقعة سلاح او زحف جيش، وهو قليل في ادبنا القديم والحديث))[2].

في هذه النقطة نجد الشاعر قد وفق الى اختيار الوزن الملائم لروح العمل المسرحي ومضمونه، كما انه وفق في اخيار الشخصية التي تصلح لان تكون موضوعا لعمل درامي كالذي نحن بصدده فشخصية ((الحر الرياحي)) شخصيه تتميز بالنمو المتصاعد اثناء حركتها في الواقع بنفس القدر التي امتلكت فيه صورا متموجه من الصراع النفسي الحاد، وعلى ذكر موضوع الصراع المؤثر او المتدرج والذي يبدا ممن مستويات بسيطة ثم يتصاعد شيئا فشيئا حتى يصل ذروة الازمة فيكتمل بذلك البناء الداخلي للعمل الدرامي.

ان اكثر حوارات بطل المسرحية مونولوجات اي حوارات داخلية كشفت عن صراع نفسي يتنازعه بمراره، وقد تحدد بشكل اكثر وضوحا في سلوك التردد الذي ابداه البطل من اجل ان يتخذ الموقف الصحيح والمطلوب، مما يعني ان هنالك حيره نفسيه عاشها البطل.

سنتكلم عنها لاحقا عند الحديث عن القيم الفكرية في النص:-

لقد كان اغلب الحوارات ينطلق من لسان البطل حين يحاور نفسه او اثناء الحلم كما في المشهد الثاني او ينطلق من ((الصوت)) الذي اوجده المؤلف كتكنيك فني مسرحي ليبرر من خلاله التغير الذي يطرأ على مواقف البطل وليسقط من خلاله افكاره الخاصه التي يريد لها ان تصل الى المتلقي، ففي المشهد الثاني يظهر الحر على المسرح نائما، وهو يحلم .. فيدور حوار بين الحر والصوت:

الصوت: لن تترك يابن رياح حتى تدركنا، الموعد جد قريب

الحر: لكني لم اعرف احدا منكم .. وكذلك لا ادري الساعة اين اكون

يقول الشاعر: ان الحر يستيقظ باندهاش ، ثم يحاول التركيز على تفاصيل الحلم، فيقول الحر مع نفسه: يأمرني ابن زياد ان امنع موكب ال علي،

والصوت يبشر في احضان الجنة

اتراها خذلتنا الايام فصرنا، لا نعرف كيف يكون العدل، ام خذلتنا نفس وجله؟!.

يقول الشاعر ، في المشهد ذاته ان الحر يستيقظ من النوم بعد ان ادركه الفجر فيحاور نفسه:

هل يعقل ان يتكرر هذا الحلم الان؟

حيرة نفسي لا انكرها... لكن يبدو ان الامر كبيرا جدا

ولكي اختار، لن اسرع في فعل اخرق

فيعود اليه الصوت في اليقظة هذه المره قائلا له:

الصوت: الامر يعود اليك،

حر في الدنيا ستكون، هذا مفتاح الخلد.

ان المؤلف يواجه من خلال نصه الدرامي مسألة نقل احاسيسه بأهمية الفعل الدرامي على خشبة المسرح عبر لسان الشخصيات. فكان اسلوب وضع الصوت او فريق الكورس والمنشد من الوسائل الفعالة التي استخدمها لنقل ارائه على لسان الصوت او الممثلين المنشدين في المشهد الاخير والذين اسماهم بـ(( الجوقة)) فجاء على لسانهم:

الجوقة: لتكون الحر، لا بد لصوتك ان يعلو ان يرفض الوان القهر، ان لايرضخ.....الخ

ان كل شيء في الفن عموما، والفن الدرامي الشعري على النحو الخصوصي انما هو تمثل او استعياب متبادل ((فحين نجد الشعر يجعل الاداء المسرحي اكثر تكاملا وثراءا، فاننا نلاحظ ان المسرحية التي اغناها الشعر قد جعلت منه هو الاخر اكثر درامية))[3] ولذلك يمكن القول بأن التأثير هنا انما هو تأثير متبادل وليس ثمة طرف متلق واخر صانع للفعل. وهنا بالضبط يكمن النجاح الذي حققته مسرحية صوت الحر الرياحي للشاعر رضا الخفاجي. ففي مسرحيته هذ يكون الشعر قد برر وجوده دراميا على حد قول ت. س اليوت.

وتجدر الاشارة الى ان لغة النص قد جاءت متساوية ملائمة للعرض المسرحي تماما فلم يعد يعمد المؤلف الى استخدام جزالة الالفاظ او تلك اللغة التي تمتاز بالفصاحة في مستوياتها العالية والتي كانت سائدة في العصر الاموي وقت حدوث ملحمة الطف، مما يجعل المؤلف يقترب بنصه من روح عصره وان استخدام مفردات التراث الروحي لتأريخه العربي الاسلامي لقد جعل المؤلف نهاية مسرحيته مفتوحة تقضي الى دلالات لا تخفى على المتلقي النابه.

اذ لم يعمد فيها تصوير مشهد قتل البطل ومويه بل اكتفى بذهاب البطل الى المبارزة مع الاعداء، واجرى الرجز على لسانه وانزل حوار الجوقة على خاتمة المسرحية كأشارة بليغة الى ان الحر الرياحي لم يذهب الى حتفه بل سار الى حياته الابدية في مجلس الخلد، وهي نهاية موفقه تنسجم وطبيعة ايمان المؤلف وعقيدته التي تتغلغل في اعماقه وهذا ما سنراه عند الحديث عن القيم الفكرية للنص.

القيم الفكرية:

تبقى شخصية الحر الرياحي من الشخصيات التاريخية التي اضحت مضربا للمثل في اتخاذ الموقف المشرف في لحظات المواجهة اثناء الصراع بين الخير والشر ، كما ان سرعة التحول في القرارات هي التي ميزته وكشفت للاجيال مدى دقة ذلك الخيط الذي يفصل بين الحق والباطل، وبانها الشخصية التي حفظت في ثناياها صراعا يصلح موضوعا للتفلسف اكثر منه موضوعا للاعمال الادبية المميزة. كما كشفت عن دراميتها من خلال حركتها لخطه الصراع الذي واجهته من هنا كان المؤلف مصيبا في اختيارها موضوعا لمسرحيته بسبب من امتلاكها عناصر الفعل الدرامي الصحيح.

واذا كان من السهل ان يتعرف المتلقي على الافكار الجزئية المتناثرة هنا وهناك في مشهد المسرحية، فأن استجلاء فكرة النص الكبرى والتركيز من خلالها على رؤية وفلسفة المؤلف امره ليس بالهين لان المطلوب في هذا المقام هو التدليل والتماس الحجج وكشف ما قارن افكار المؤلف بأفكار الاخرين الذين اثروا التراث الانساني بتأملاتهم.

اذا كان الامام الحسين(عليه السلام) ثورة على الواقع، فأن شخصية الحر الرياحي مثال ممتاز للثورة على النفس ومغريات الظرف الذي تعيشه والثورة تلك كانت ((فعلا)) بالمعنى الفلسفي للكلمه حيث تناهي الشخصية ومحدوديتها ودخول حيز البقاء التاريخي بسبب من انتشاره واستمراريته عبر الاجيال فأصبح فعله(( رساله)) استقرأها المؤلف الشاعر رضا الخفاجي جيدا وحاكاها بتأملاته الخاصة والنابعة اصلا من ايمان واع بمفردات عقيدته الاسلامية لقد رسم لنا المؤلف سمات بطلة رسما جميلا وعرفنا ان الحر ليس شخصية عابرة تلتقط النافل من الحياة بل هو شخصية جادة متأملة واعية بنفسها ولما يدور حوله وله خصال جعلته معتبرا بنفسه واثقا بقدراته جدا، يقول الشاعر في المشهد الثالث على لسان الحر:

 منذ صباي...ماكنت اجالس اهل السوق، لم افقه في بيع وشراء.

اعشق فرسي، واهيم بها في صحرائي، ابغي نشوة روحي، لم يلجمني سوط ونداء ما كنت سوى حر يسعى، كي يستنشق طيب الصحراء، يستجلي كنه الاشياء.... لم يخذلني حدسي ابدا، كنت اميز بين الاضداد.

اقدامي يسبقه صدقي، وولائي يسبقه عشقي... والفوز معي في كل لقاء .

ولاجل ذلك يراه الصوت الذي ادخله المؤلف كائنا قادرا على ارساء دعائم المثل العليا في الحياة من خلال قيامه بفعل خلاق يدخله روضة البقاء الى الابد. يقول الصوت مخاطبا الحر: 

الفعل الخالد لا يعرف اي حدود، ان حررت النفس من الافكار الحبلى بالاوهام وعبرت الخوف، وعبرت الى الضفة الاخرى، ستحس بأنك تسمو في المطلق ابدا، وهنا يكمن سر الخلد.

الصوت اذن يريد من الحر ان يعبر الضفة الاخرى بفعله الخلاق لا ان يبقى متكاملا على الشاطي يستعرض مهارته على جرف الحياة دون الغمار. ومن هذه النقطة سوف نتعرف على فلسفة المؤلف في المسرحية . ذلك ان الشخصية ((الفاعلة)) هي التي تعمل على تدعيم عالم القيم البشرية لانها بفعلها الرائد(( ستحرر الذوات الاخرى وتوقظها من سباتها لتجسم المثل العليا في الوسط الاجتماعي، وبذلك سوف تعمل على تقريب شقة الخلاف بين الواقع والمثل الاعلى))[4] لكن الفعل المطلوب بنظر المؤلف له مقدماته التي تحققه على ارض الواقع، ولاجله فهو يرسم لنا ثالوثا يعدها ركائز الفعل التاريخي المتخطي لآنيته الزمانية وابنيته المكانيه هذه الدعائم هي الفكر، الحرية، القرار.

فطالما كانت الشخصية الانسانية متأمله مفكره، واعيه بذاتها، وحيثما كانت ترتفع بحريتها تشعر بانفلاتها من كل قيد رخيص، حينذاك ستقوى عندها – ارادة القرار فيتجسم ((الفعل)) في الحياة في ابهى صورة، وعلى الرغم من تناهي الموجود البشري ومحدوديته فان اصداء فعله المبدع سوف تتسع حتى تشمل مجرى الاحداث الكونية والبشرية في كل مكان .

هذا بالضبط ما عناه الفلاسفة المعاصرين حين قال:

(( ان كل فعل هو نقطة تحول في مسار التأريخ الشامل))

يقول الشاعر في المشهد الثاني على لسان الصوت مشيرا لدور الفكر في اتخاذ الموقف:

المرء يكون، حيث تريد له افكاره، يبحر معها، يوغل في كل دقائقها، تتلبسه، تتلبسها، الجوهر... انك كيف تعيش بأفكارك،..كيف تجذرها في قلب الناس، حتى تخلد؟؟؟؟

ثم يؤكد الشاعر في المشهد نفسه على دور الحرية واهمية انطلاق النفس من كل اشكال القيود واسار الشكوك والحيرة التي تتلبس الشخصية فيقول الصوت:

الفعل الخالد، لا يعرف اي حدود

ان حررت النفس من الافكار الحبلى بالاوهام، عبرت الخوف....

الامر يعود اليك، حر في الدنيا ستكون ، هذا مفتاح الخلد اذن.

لكن يأبى التردد ان يفارق نفس ((الحر)) فيحاول بطلنا امساك العصا من الوسط ليريح ويستريح، لكن هيهات، ففي مواجهات الحياة الكبرى نمسي انصاف الحلول قرارات مستخذيه توسم اصحابها بالضحالة. وهذا ما نراه في المحاورة التي تدور بين الحر والصوت في المشهد الثاني نفسه:

الحر: لا يمكنني ان اتخبط في الظلمات ، والان تناجزني رؤياي ، بل كل دمائي تتبرأ مني، ان وافقت ابن زياد........ ان كف حسين عن هدفه........ اخليت سبيله في الحال.

الصوت: انك اكبر من هذا الموقف يا حر.

فاترك للنفس سجيتها، وتقدم كي تنجز دورك.

وفي المشهد الخامس تهيمن شخصية الحسين(عليه السلام) حتى لتطغى على مجريات المشهد كله.

والمؤلف هنا يولي اهتماما كاملا لدور القائد النموذج او المثل الاعلى في الحياة.

فيصبح فعل الحسين( عليه السلام) وقوله شمسا تستمد منها الكواكب نورها لتعكسه على الاخرين ويصير الفعل الحسيني محفزا فاصلا لقرار((الحر)) وفعله فتنسجم المواقف عند اصحاب النفوس الكبيرة وتتناغم فيما بينها، لتستمع اليها الاجيال في خشوع وانبهار.

وحين يقول المؤلف على لسان(( الحر)) في المشهد الرابع متحدثا مع نفسه.

عجب امرك يا ابن علي ما جئنا نمنع عنك الماء ، فتقوم بأسعاف العطشى،

هذا فعل قل نظيره، يستوقفني...... لكني لا استغربه!! فأنا لا اتجاهل خصمي او اجهله.

 يعود المؤلف ليقول لنا في المشهد الخامس على لسان الحر ايضا:

 يبهرني ابن الزهراء.

فعل حسين يسلب مني تبريراتي.

 وهذه لحظة حاسمة في موقف(الحر الرياحي) ذلك ان الفعل الحسيني قد قام بدور المحرك الفعال او المؤثر القوي في ساحة المواجهة التي ضمنت شخصيات عدة كان المتميز منهم ((الحر)) على استعداد لتفهم دلالة ذلك الفعل ان لم نقل بأنه قد وقع تحت تأثيره، فعمل بدوره متمرسا ؟؟؟؟... والا فما معنى ان يخاطب الامام الحسين(عليه السلام) الجمع الذي امامه بقوله:

هل من حر اخر؟ يبدل عار الموقف، باناشيد الخلد؟!

وهكذا ينزل قرار ((الحر الرياحي)) كالصاعقة على الخصوم ليلقي الحجة عليهم وعلينا نحن ايضا، فيذكر الشاعر على لسانه في نهاية المشهد الاخير:

الحر: كي تسعد روحي يامولاي لا بد من فعل يدرك نشوتها،

ولكي تكتمل النشوة في قلب الحر، سأكون البادىء بالايثار، سيكون دمي، ايذانا للبذل بهذا اليوم المشهود. فترخصني يامولاي، ولا بد سفري في الحال.

ويذهب الحر الى اختياره مترنما بخط فعله وقراره راجزا نحو الجنان بهذا القول:

اني انا الحر وهذي المحنه

اقحمها في زحمة الاعنه

والله لا اختار غير الجنة.

لقد اصبح قرار الحر وموقفه بمثابة رسالة وجهت الى كل من يستطيع الفهم والمعرفة والارادة، فضلا عن انها حملت في طياتها ((شعلة روحية)) تلتمس الفهم والاستجابة ورد الفعل من الاخرين عبر الاجيال التاريخ.

حقا استطاع المؤلف الشاعر(( رضا الخفاجي)) في مسرحيته الشعرية ((صوت الحر الرياحي)) ان يؤكد بأقتدار مشهود له ان الشعر الدرامي وحده(( يمتلك الامتياز الفريد لان يرينا عدة مستويات للواقع في ان واحد))[5] كما فلسف لنا الفعل الانساني المبدع بشكل لا يقل مهارة عن اروع تأملات وافكار كبار الفلاسفة والمفكرين على السواء.

وهذا ما يدعو للفخر والامل في سلامة مسار الحركة الادبية عندنا.

لواء الفواز

7/11/1996م


[1] - في المسرح الشعري ، الدكتور. عبد الستار جواد ص24، سلسلة الموسوعة الصغيرة العدد(49).

[2] - فن التقطيع الشعري، د. صفاء خلوصي، ص195.

[3] - في المسرح الشعري، د. عبد الستار جواد، ص14، الموسوعة الصغيرة، العدد(49)

[4] - مشكلة الحياة، د. زكريا ابراهيم، ص75.

[5] - في المسرح الشعري، د. عبد الستار جواد، ص26.

شبكة النبأ المعلوماتية -الأربعاء 1 /شباط /2006 -30 /محرم الحرام/1427