لا تختلف حدود مصر حاليا عن تلك التي رسمها الملك مينا قبل أكثر من
5100 عام للدولة حين أسس الاسرة الفرعونية الاولى على طبقات من خبرات
متنوعة أثمرت بناء الاهرام وغيرها من "المعجزات" والعجائب في مراحل
تالية.
وفي محاولته لترتيب سياقات التاريخ القديم يعيد الباحث الكندي
سيمسون نايوفتس اكتشاف مصر باعتبارها أصل الشجرة في التاريخ البشري
مشيرا الى أن المصريين القدماء تجاوزوا "كل حضارة أخرى" انطلاقا من
قدرتهم على تغيير جوهر مجتمعهم وديانتهم وخلقهم قوالب جديدة منذ أسسوا
"أولى دول العالم بحلول عام 3100 قبل الميلاد وبحلول عام 2600 قبل
الميلاد أقيم أول نظام اداري وخدمة مدنية قومي مركزي في التاريخ في
العاصمة منف."
وأشار في كتابه "مصر أصل الشجرة" الى أن منف هي "أول عاصمة وأول
مدينة مقدسة في تاريخ البشرية وكانت أول مدينة تتركز فيها حكومة الدولة
بكاملها كما كانت أول مدينة تلخص ديانة الشعب بكامله." وأضاف أن منف
كانت أكثر مدن مصر "كوزموبوليتانية حيث كان بها الالاف من الاجانب
وأثناء عصر الدولة الحديثة (نحو 1567 - 1085 قبل الميلاد) كان التجار
والصناع السوريون والكنعانيون يشيدون المباني في منف لالهتهم بعل وعنات
وعشتارت."
وقال ان مصر شهدت منذ حوالي عام 3100 قبل الميلاد وهو تاريخ توحيد
البلاد واعلان قيام الدولة فترات من التغير الديني والسياسي والتقني
والثقافي والاقتصادي واستمر ذلك حوالي 2000 عام "وأصبحت مصر إلى جانب
سومر (بالعراق) مجتمعا متعلما مستقرا ومتقدما... وبدأ عصر اقتصاديات
الفائض والمجتمعات المنظمة. وحينذاك أصبحت مصر منطقة للتنمية الاساسية
والطليعة والمحرك وروح البشرية." ونوه إلى أن التصور المعقد عن السحر
والاساطير وفر للمصريين "أدوات فعالة لبناء الدين والدولة الاحدث
والاكثر حيوية في ذلك الوقت."
ونشر كتاب "مصر أصل الشجرة" بجزأيه عامي 2003 و2004 في الولايات
المتحدة. وصدرت الطبعة العربية التي أنجزها المترجم المصري أحمد محمود
عن المجلس الاعلى للثقافة ومكتبة الشروق الدولية بالقاهرة هذا الاسبوع
وتقع في 835 صفحة كبيرة القطع ويحمل الجزء الاول عنوان "السياقات"
والثاني عنوان "النتائج.. مسح حديث لارض قديمة".
وعلى غير عادته في ترجماته السابقة أهدى محمود مترجم الكتاب هذا
العمل إلى المصريين "على اختلاف معتقداتهم واتجاهاتهم السياسية.. أهدي
هذا الكتاب الذي يتحدث في بعض أجزائه عن توحيد أرض مصر وشعبها لتصبح
أول دولة في التاريخ وعن كيفية اختراع المصري القديم الاساطير لتوطيد
هذه الوحدة وبث السلام والوئام والمصالحة بين أبنائها راجيا لمن يفكرون
في عكس ذلك الاتجاه بعد خمسة الاف عام من توحيد الارضين الهدى الى سبيل
الرشاد." ويناقش الكتاب السياقات الفنية والتكنولوجية المبكرة والعرقية
والجغرافية والدينية اضافة الى فصول منها (أنساق الالهة والشياطين
ونظريات نشوء الكون والاساطير والسحر) و(السياق الاجتماعي للنسق
السياسي الديني المصري) و(تعدد الالهة والثيوقراطية والتنافس السياسي
الديني وظهور الهة التوحيد الرئيسية) و(أوج النفوذ المصري وما أعقبه من
اضمحلال) و(مصر مجتمع محوري وحلقة وصل وتأثير.. الخيالي والحقيقي).
وتخرج نايوفتس في جامعة كونكورديا بمونتريال وتخصص في أنساق
المعتقدات الدينية كما عمل رئيسا لتحرير اذاعة فرنسا الدولية في باريس
حيث كتب وأذاع موضوعات عن أساليب الحياة والدين والسياسة. وقارن المؤلف
بين مصر القديمة وبلاد اليونان على سبيل المثال مشيرا الى أن
اليونانيين كانت "تروعهم الحقوق التي تتمتع بها المرأة المصرية. وربما
كان الروع وعدم الفهم هو ما جعل اليونانيين والرومان يشيعون عن المرأة
المصرية أنها متحررة جنسيا أو خليعة أو مشاكسة." وأشار إلى أن المجتمع
المصري كان محافظا وكان الزواج غالبا من امرأة واحدة كما كان "الاخلاص
الجنسي من الاعمدة الاساسية لنسق المرأة العقلي." وقال نايوفتس ان
السحر كان جزءا من القوانين الالهية في عقيدة المصريين "ولم يحدث من
قبل أن تجمع ذلك الكم الهائل من الالهة والالهات على شكل حيوانات وبشر
وتلك التي لها أجسام بشر ورؤوس حيوانات في ذلك النسق الثوري المعقد
والناشئ وهو تعدد الهة أصيل أو حقيقي يقوم على حاجات المجتمع الزراعي
المستقر." وأضاف أن سومر ومن بعدها مصر غيرت مجرى التاريخ باختراع
الكتابة "وبعد ذلك اخترعت مصر بالرموز الهيروغليفية ما هو بالتأكيد
أكثر أشكال الكتابة جمالية في تاريخ البشرية. فقد كانت الكتابة عند
المصريين لغة الالهة السحرية. ولم يحدث من قبل أن استخدم الفن وخاصة
العمارة بهذه الطريقة الثورية والمدهشة... ومنذ بناء أول هرم (خوفو)
حوالي عام 2660 قبل الميلاد تحققت ثورة عمارة الحجارة المنحوتة مما مكن
العمارة المصرية من التفوق على البشرية لالاف السنين وكذلك من بناء
معابد مازالت حتى وقتنا هذا أكبر معابد شيدها أي شعب من الشعوب." وأشار
الى أنه منذ عام 1458 قبل الميلاد أصبحت مصر "أعظم امبراطورية في
العالم حيث ظلت كذلك مدة تزيد على المئتي سنة."
ويؤرخ علماء اثار مصريون وأجانب بعام 1567 قبل الميلاد لبداية ما
يعرف في علوم المصريات بعصر الامبراطورية (نحو 1567 - 1200 قبل الميلاد)
بداية من أحمس الذي يشتهر بأنه محرر مصر من الغزاة الهكسوس وأسس الاسرة
الثامنة عشرة.
ورغم اعتراف نايوفتس بأن الحروف الهيروغليفية في مصر القديمة كانت
نوعا من الفن فانه يشير الى أن وسيلة التعبير لم تكن الكلمات بل الفن
الذي يشمل النحت والعمارة والرسم حيث كان "من المستحيل أن توجد العمارة
والفن المصريان بدون اليقين الديني المتحمس والصناع والعمال المتحمسين
الذين يحركهم الدافع الديني." وأضاف أن عشرات الالوف من الفنانين
والصناع والعمال شاركوا في ابداع الفن والعمارة بما يسمح بالاحاطة "الى
حد كبير" بالمجتمع المصري القديم وأساليب حياته ومعتقداته وشعائره "وان
وجدنا صعوبات كبيرة في فهم الكثير منها."
وقال نايوفتس انه كافح لسنوات طويلة كي يشق طريقه في "المتاهة
المصرية." وأضاف أن علماء المصريات والمؤرخين "حققوا نتائج رائعة بحق
غير أن سعيهم لبناء المعنى الجوهري للديانة المصرية كان مخيبا للامال
في النهاية... لا أحد بما في ذلك أبرز علماء المصريات والمؤرخين قد
أدرك جوهر مصر القديمة ومعناها ادراكا تاما. ويبدو من غير المرجح أن
يحقق أحد ذلك بطريقة مرضية. من المؤكد أنه من غير المرجح أن تكون لدينا
صورة واضحة عن مصر كتلك التي لدينا عن بلاد اليونان القديمة." |