الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية.. من أين نبدأ؟

الكتاب: الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية.. كيف نبني وطناً للعيش المشترك.

الكاتب: محمد محفوظ.             

الناشر: المركز الثقافي العربي، المغرب/ بيروت.

سنة النشر: ط1، 2004م.

الصفحات: 143 صفحة، قطع كبير.

قراءة: حسن آل حمادة

تمهيد

        انشغل جمع كبير من العلماء والمفكرين والكتَّاب على معالجة موضوع "الإصلاح"، كما كان له طرق خفيٌ، ومسموع، في أحاديث أصحاب القرار. وغير خافٍ على أحدٍّ أن هذا المصطلح أصبح حديث المرحلة الراهنة؛ على ضوء التغيرات التي شهدها العالم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقد يتفق الجميع على أننا بحاجة ماسة للتعجيل بخطوات الإصلاح؛ قبل أن تفرض علينا فرضاً من الخارج.

        إلاّ أننا ومع كل ما قد قيل في هذا الشأن، قد نختلف -قليلاً أو كثيراً- في تحديد أولويات الإصلاح، عندما نتساءل: من أين نبدأ؟

ويأتي في سياق الكتابات المنشورة حول الإصلاح، الكتاب الماثل بين أيدينا، وهو أحد كتابات المفكر السعودي الأستاذ محمد محفوظ التي صنّفها ضمن خطابه الإصلاحي الذي اشتغل عليه منذ فترة ليست بالقصيرة[1].

        وقبل أن نسترسل في عرض أفكار الكاتب ورؤاه، التي جاءت في الأصل على شكل دراسات ومقالات، عمد لنشرها في الصحف والمجلات، وهي في مجموعها تتحدث عن موضوع الإصلاح والوحدة الوطنية، نود التنويه لحقيقة بدهية، تقول: إن من يتغيا الإصلاح؛ فإنما ينشد الوصول إلى الحياة الأسمى والأفضل، على مختلف الصعد.

        وعندما نتصفح آيات القرآن الكريم، نجد أنه استخدم مفردة "الإصلاح" تحديداً، في آية واحدة من آياته، وذلك على لسان نبي الله "شعيب" عليه السلام، الذي كان ينادي ويدعو قومه للإصلاح الاقتصادي[2]، حيث كانوا يبخسون الناس أشياءهم في: الكيل والميزان، وعندما تعجبوا من دعوته هذه، أجابهم قائلاً: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88].

        فإذا كان نبي الله "شعيب" (عليه السلام) قد ركز في دعوته على موضوع "الإصلاح الاقتصادي" وجعله منطلقاً لدعوته للدين وتوحيد الله (عزّ وجلّ)، باعتباره المحور الأهم في عصره؛ فإننا نجد الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، وعلى نفس المنوال، كل واحدٍ منهم، كان يسعى لعلاج وإصلاح المشكل الأهم في عصره ومجتمعه[3]!

        فموضوع الإصلاح من المواضيع الحيوية والهامة التي نظل بحاجة ماسة للحديث حولها والكتابة فيها، ما دام هناك فساد نواجهه.. وهو فساد ظاهر للرائي على مستوى البر والبحر، بما كسبت أيدي الناس![4]

*   *   *

        وفيما يخص محور هذا الكتاب يشير مؤلفه إلى أنه "محاولة لبلورة مفهوم المواطنة وإعادة الاعتبار السياسي والحقوقي للمواطن، حتى تتوفر كل الظروف والمعطيات المفضية إلى مشاركة جميع المواطنين في عملية البناء والتطوير" (ص 6).    

        ومن أجل الوصول إلى مبدأ المواطنة، وتجسيد مقتضياتها ومتطلباتها في الحياة الاجتماعية والسياسية، يقول المؤلف: لا خيار أمام الجميع إلا الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي والثقافي والاجتماعي... وحجر الأساس في هذا المشروع الإصلاحي، هو إعادة الاعتبار للفرد والتعامل معه على أساس المواطنية بصرف النظر عن انتماءاته التاريخية والراهنة، وأن تتعامل معه مؤسسة الدولة على أساس انتمائه الوطني. (ص8).

        وما تفضل به الباحث بهذا الخصوص كلام صحيح؛ فلكي تعمل مؤسسات الدولة على تحقيق مطلب الإصلاح السياسي الذي ينادي به المؤلف الكريم؛ هي بحاجة لأن تُعطي المواطن حقوقه كاملةً غير منقوصة، ولتطلب منه بعد ذلك القيام بواجباته! ونحن كشعوب، بحاجة للقدوة في هذا الشأن، ولن يكتب للعملية الإصلاحية النجاح، إن هي سُطِّرتْ كمواعظ وقصص على الأوراق، ولم تجد لها في الواقع العملي مجالاً للتطبيق، والقدوة التي أعني: تتمثل في الساسة والعلماء والنخب، ولنا في الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خير قدوة وأسوة، فهو وبالرغم من كونه الحاكم المُهاب، إلاَّ أنه ومع ذلك سمح لمعارضيه (الخوارج) أن يدخلوا المساجد، ليقولوا ما يشاءون، كما أنه لم يمنع عنهم العطاء، ولم يبدأهم بقتال قط.. أليس في هذا المثال العملي درساً بليغاً لمن ينشد الإصلاح في هذا الزمان؟

الثقافة وشروط المواطنة

أحسن المؤلف حينما ركزَّ حديثه في الفصل الأول من الكتاب حول موضوع (الثقافة)، إذ هي -كما نتصور- تمثل المحور الأهم في عملية الإصلاح؛ فبغير تحقيق مطلب الإصلاح الثقافي، قد يتعذر علينا تحقيق الإصلاح في أشكاله المختلفة، من قبيل: الإصلاح السياسي، والإصلاح الاقتصادي، والإصلاح الاجتماعي،...إلخ.

 لذا نسجل اتفاقنا مع المؤلف عندما يؤكد على أن "التعليم بمناهجه وأنظمته التربوية، من الروافد الأساسية لعملية التنمية الثقافية والعلمية، إذ لا يمكن أن يتطور الحقل الثقافي في أي مجتمع، بدون تطور حقل التعليم والتربية. فهو أحد أعمدة التقدم الثقافي. وذلك لأن التربية التعليمية الوعاء الحاضن لمجموع الطاقات ذات الفعل الإيجابي على المستوى الاجتماعي... ومن هنا فإن أي خلل يصيب جهاز التربية، ينعكس على كافة حقول الحياة وجوانبها.. لذلك نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية في عهد (كنيدي) حينما سُبقت بارتياد الفضاء من قبل الاتحاد السوفيتي، اعتبرت أن السبب في ذلك هو فساد النظام التربوي والتعليمي، وعجزه عن إخراج المبدعين، فتشكلت اللجان المتخصصة لإنقاذ ما أسمته بـ(الأمة المعرضة للخطر)"(ص 20).

ففعل الإصلاح الذي ينشده المؤلف يبدأ من تغيير الثقافة السلبية السائدة، إلى الثقافة الإيجابية الفاعلة! لذا وجدناه يؤكد على ضرورة "تطوير العملية التعليمية، بما ينسجم وتطورات العصر... لأن التعليم الذي يتجه إلى غرس القيم العليا في نفوس الناشئة، سيفضي إلى التحول الإيجابي"(ص 21). فإذا كنا أحوج ما نكون اليوم، إلى تأكيد قيمة الوحدة الوطنية وضرورة تمتينها وحمايتها من كل المخاطر المحدقة؛ فلا ريب -كما يؤكد المؤلف- أن العمل الثقافي المؤسسي من الروافد التي تساهم في تمتين خيار الوحدة الوطنية، وحمايتها من كل المخاطر والتحديات(ص 18). "وهذا يحملنا مسؤولية كبرى في هذا الفترة من الزمن، حيث إننا بحاجة أن نمارس الفكر وطرح الأسئلة... فالثقافة الحية ليست هي التي تتفاعل مع راهنها فحسب، بل هي التي تمتلك القدرة على اكتشاف مستقبلها وتهيئة الظروف والمناخات اللازمة، للاستفادة القصوى من كل التحولات والتطورات. فليس كل ما هو سائد من ثقافتنا صحيحاً، لهذا ينبغي أن نمنح لثقافتنا أصالة، وذلك عبر مساءلة السائد والانطلاق من موقع السؤال والشك المنهجي للوصول إلى اليقين، إن كان في الثقافة يقين ونهاية"( ص19-20).

        وعندما تساءل المؤلف: أي ثقافة نريد، في هذا الزمن العربي المليء بالهزائم والانكسارات؟

        قال ضمن كلام طويل: "الثقافة التي نريدها أن تتبلور في أذهان الناس وتتفاعل معها أرواحهم وعقولهم وتنعكس في أعمالهم وسلوكهم هي ثقافة البناء والتعمير، لا ثقافة الهدم والتدمير، ثقافة تعلي من شأن المبادرات الإيجابية والإنسانية حتى ولو كانت نابعة وصادرة من أعدائه، ثقافة تنشد اتباع الأحسن، بصرف النظر عن قائله أو فاعله {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}[الزمر: 18]"(ص 25).

        فثقافة كهذه الثقافة التي يدعو إليها المؤلف، قد تعني لدى البعض حلماً أو خيالاً! لكن، حق لنا أن نحلم، فبغير الحلم والخيال، لن نتمكن من تغيير الواقع السيئ، الذي يحذرنا منه المؤلف الكريم. وإن لم نعش الحلم الذي يسبق عملية التغيير، فلن نُغيِّر، ولن نتغيَّر، ولن تكون هناك حاجة للتشدق بمقولة: "في البدء كانت الكلمة"!

        إذنْ، وبناءً على ما سبق، حق لنا القول: إن التغيير المنشود يبدأ بتغيير ثقافة الناس، وأن أول خطوة من خطوات الإصلاح، هي الإصلاح الثقافي؛ فهل تعي وزارات التربية والتعليم، ووزارات الثقافة والإعلام في بلداننا، ضرورة إحداث هذا النوع من التغيير؟ وإن كانت تعي ذلك، فأين مردود هذا الوعي؟!

        وإذا كنا نسجِّل اتفاقنا مع المؤلف حيث يقول إن "التعليم ليس مفصولاً عن العملية الاجتماعية، وإنما هو جزء منها لذلك ينبغي أن تنبع فلسفة التعليم وخلفيته الأكاديمية من حاجات المجتمع الجوهرية، حتى يكون هناك انسجام وتناغم بين ما يأخذه الإنسان في قاعات الدرس وما يجده في الشارع"(ص 22).

        فإننا نُسجِّل هنا بعض التساؤلات السريعة، لنقول على سبيل المثال:

ما هي البرامج المعمول بها من قبل وزارتي: التربية والتعليم، والثقافة والإعلام، في الحكومات العربية والإسلامية، والتي نستشف منها نشراً لثقافة التسامح والسلم بين أفراد المجتمع الواحد؟

ماذا قدمت حكوماتنا من برامج وخطوات عملية من أجل تجسير الفجوة بين السنة والشيعة؟ وما هي خطتها الحكيمة في التعامل مع الأقليات؟ وأين وسائل الإعلام الرسمية عن معالجة مثل هذه المسائل؟ وهل يعنيها شيء من ذلك؟ أخشى أن تأتي الإجابة لتقول بأن هذه الرؤى في وادٍ، والحكومات العربية والإسلامية في وادٍ آخر.

وقبل أن نكفَّ ألسنتنا عن سياسات الأنظمة الرشيدة! سأواصل حلمي لأقول: متى سنضع مناهج تعليمية تتناسب مع معتنقي كل مذهب؟ لنشهد على سبيل المثال دروساً دينية تنسجم مع المذهب الشيعي في البيئات الشيعية، ومناهج وفق المذهب السني في البيئات السنية وهكذا.. متى سيتحقق ذلك؟ عسى أن يكون قريباً.

وللاقتراب من الفكرة بشكل أوضح أنقل لكم معاناة مُربٍّ للأجيال يعمل في دولة عربية، يقول ما ملخصه: باعتباري مدرساً شيعياً، أقوم بتدريس مادة (التربية الوطنية) في المرحلة الثانوية؛ فقد تعرضت لأسئلة محرجة من قبل الطلاب، يسألونني خلالها عن حقهم كطلاب شيعة في دراسة مواد التربية الإسلامية وفق معتقدهم الشيعي!! وقد أُستفزَّ من قبل البعض، عندما يقولون لي: أو ليس هذا الأمر من جملة حقوق المواطن؟

فـ"المشهد الثقافي الوطني، -إذاً، والكلام للمؤلف- يحتضن العديد من التيارات والأطياف والتوجهات، ولا سبيل أمامنا جميعنا، إذا أردنا الاستقرار والتطور إلا الدخول في مشروع حواري وتواصلي بين كل هذه التوجهات، يستهدف هذا المشروع: إرساء تقاليد الحوار والتواصل في فضائنا الاجتماعي والثقافي، واستيعاب وامتصاص عناصر التمايز والاختلاف، والعمل معاً من أجل بناء فضاء اجتماعي وسياسي وثقافي حر، يحترم مختلف الآراء والأفكار، ويصون الحقوق والكرامات، ويمارس الانفتاح على كل الاجتهادات والثقافات"(ص 48).

الانفتاح الثقافي أولاً:

تحت هذا العنوان، في نفس الفصل، صاغ المؤلف فكرة جميلة يحسن اقتباسها هنا، إذ يقول: إن "الانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، بل من الثقافة، لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلاً عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: إن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمته الاجتماعية. لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول"(ص 52).

إذنْ، نظل بحاجة لعمل إصلاحي جادٍّ فيما يرتبط بالشأن الثقافي، وهذا الأمر يحتم علينا إعادة النظر في السياسات التعليمية المُتبعة؛ فالتعليم يأتي على رأس قائمة الإصلاح، وكذلك ينبغي علينا مراعاة اختيار المواد المناسبة التي تبث عبر وسائل إعلامنا المتعددة، فنحن بحاجة لبث قيم: التعددية، والحرية، والديمقراطية، والتسامح، والمساواة، و...إلخ، وإلاَّ فأمامنا الطوفان!

فـ"التنوع الاجتماعي -حسب المؤلف- حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع هذه الحقيقة، بما يؤدي إلى توظيف هذا التنوع في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتعميق خيار التعايش الواحد والسلم المجتمعي"(ص 60).

وكل هذه الأمور، التي يطرحها الباحث، ليس بالإمكان تحقيقها وتجسيدها على أرض الواقع؛ إلاّ إذا حققنا درجة عالية من النضوج والوعي في الأوساط الاجتماعية، منطلقين في سبيل تحقيق هذه الغاية عبر بوابة الثقافة التي تقبل الآخر وتدافع عن: حقوقه، ووجوده، ومكتسباته، وكرامته.

فضاءات نقدية

الفضاءات التي عالجها المؤلف في الفصل الثاني من كتابه، توزعت ضمن ثلاثة محاور، على النحو الآتي:

- المواطنة ومفارقات الواقع.

- المرأة والإصلاح السياسي والاجتماعي.

- الأمن وجدلية الحرية.

فيما يرتبط بمحور: المواطنة ومفارقات الواقع، يقول المؤلف: "إن ما وصل إليه مجالنا العربي من تردي في أوضاعه السياسية والثقافية والاقتصادية، هو من جراء الاستبداد السياسي والتعصب بكل صوره وأشكاله. فالاستبداد يغذي التعصب بشكل مباشر وغير مباشر، والتعصب يشرع لخيار الدكتاتورية والاستبداد.. وإن بداية إصلاح أوضاعنا، هي حينما نراجع هذا الواقع، ونطرد منه كل بدور الاستبداد والتعصب"(ص65-66).  فـ"ضياع الحقوق، هو الذي يقود إلى التطرف والتعصب، وغياب حس وواقع المواطنة لدى الآحاد والمجموع. وإن النهوض في ظل هذا الواقع والتحديات التي تحيطه من كل جانب، يتطلب أداء واجب ومقتضيات المواطنة واحترام المصالح العامة، والعمل على صياغة حياتنا العامة من جديد، عل هدى قيم الديمقراطية والحرية والتسامح وحقوق وكرامة الإنسان"(ص 71-72).

ولكي لا يكون كلام الباحث إنشائياً في هذه الجنبة، يمكننا أن نستحضر نموذج الإصلاح الذي مارسه الزعيم الهندي (المهاتما غانذي)، فهو خير مثال نستطيع أن نبشر به للتأكيد على ضرورة نشر وبث قيم: المساواة وحقوق المواطنة والتسامح. هذه القيم التي من خلالها استطاع أن يحقق نجاحاً مبهراً وملفتاً، جعل القارة الهندية تتبوأ مكانة عالية ومرموقة بين الأمم؛ على صعيد ديمقراطيتها السياسية، وتقدمها العلمي.  

وفيما يرتبط بمحور: المرأة والإصلاح السياسي والاجتماعي، فيرى المؤلف: "إن التحدي الكبير الذي يواجه مجتمعاتنا اليوم، هو كيف نفجر طاقات المرأة ونبلور إمكاناتها ومواهبها، حتى تنخرط بشكل فعال في شؤون المجتمع والأمة... فالدين لا يحول دون ممارسة المرأة لدورها العام في المجتمع، بل على العكس من ذلك، إذ يحملها مسؤولية في هذا الإطار، ويدفعها نحو الشهود وممارسة العمران الحضاري"(ص 85-86).

أما فيما يرتبط بمحور: الأمن وجدلية الحرية، فيذهب المؤلف إلى: "إن التحكم في الراهن والقبض على المستقبل، مرهون بقدرتنا على التحول صوب الديمقراطية والتزام متطلباته، والكفاح من أجل نيلها وإنجازها في واقعنا العام. وإننا بحاجة إلى وعي أخلاقي وسياسي جديد، يعيد العلاقة بين الأمن والحرية، بحيث إن ضرورات الأمن لا تضحي بمتطلبات الديمقراطية"(ص 96). "فالحفاظ على الأمن ليس بالمزيد من القمع والإرهاب، وإنما بالعمل لتوطيد أركان العدالة في المجتمع والدولة"(ص 94).

رؤية في الأفق

الفصل الثالث، كسابقه عالج ثلاثة محاور، على النحو الآتي:

- الوحدة الوطنية من منظور مختلف.

- المجتمع المدني وقضايا الوحدة.

- العولمة والوحدة الوطنية.. أفكار لزمن قادم.

يصل المؤلف ومن خلال قراءته للعديد من التجارب العربية والأجنبية، إلى نتيجة تقول: إن استخدام القوة والقسر والفرض، لا يؤدي إلى الوحدة الحقيقية بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة.. "وأي وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية والارتماء في أحضان المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقسر والقوة"(ص 99). "فالوحدة -التي يرتئيها المؤلف- تبدأ باحترام حقائق التنوع والتعدد، لأنها ليست حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي، بل هي عناصر تثري مفهوم الوحدة الوطنية والعربية، وتزيد مضمونهما حيوية وفاعلية"(ص 102).

وفيما يخص إشكالية: تمايز الانتماء والولاء، يقول الباحث بعبارات واضحة: "ولعل من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكثير، المساواة بين الانتماء والولاء وكأنهما حقيقة واحدة. مع العلم أن الانتماء إلى دائرة تاريخية أو ثقافية أو قبلية، هو معطى موروث لا كسب حقيقي للإنسان فيه، فالإنسان لا يتحكم في القبيلة التي ينتمي إليها، كما أنه ليس بمقدوره أن يمتنع من الانتماء إلى عائلة محددة أو دين محدد. لأن كل هذه الأمور، هي معطى موروث يولد مع الإنسان، لذلك فلا دخل له به.

بينما الولاء هو خيار يتخذه الإنسان، ويترتب على ضوئه بعض المواقف والسلوكيات، وفعل والتزام. فالإنسان يولد في عائلة، ومن دين ولا يختارهما، في حين أن يلتزم بوطن أو مدرسة فكرية أو سياسية.. ويمكن للإنسان أن تتعدد انتماءاته، لكنه من الضروري أن يتوحد ولاؤه، ولا تناقض بين تعددية الانتماء وواحدية الولاء"(ص 112).

  وفي نفس السياق تحدث المؤلف عن وضعية الأقليات في البلدان العربية والإسلامية، وعدّ انتماءاتها التاريخية والثقافية والدينية واقع لا يمكن الفرار منه، أو تغييره!

فالبديل الذي يراه المؤلف "ممكناً وضرورياً لحالات التنازع والصراع بين الانتماءات الموضوعية والتنوعات الثقافية والسياسية، هو التعايش المشترك بين هذه التنوعات على قاعدة المشترك الإنساني والديني، والوحدة الوطنية والمصالح الحاضرة والمستقبلية"(ص 115).

وفي لفتة رائعة حول موضوع التعايش، يقول المؤلف: "فالمسلم السني الذي لا يستطيع العيش مع المسلم الشيعي، فإنه لن يتمكن أيضاً من العيش المشترك مع نظرائه في الانتماء المذهبي والعكس. ولهذا -والكلام للمؤلف- فإننا نرى مفهوم التعايش السلمي مفهوماً حضارياً، لا يؤسس للعلاقة بين التنوعات السياسة والثقافية في داخل المجتمع فحسب، بل يؤسس للعلاقة السلمية في داخل الإطار الواحد أيضاً"(ص 115-116).

ومن أجل بناء السلم الأهلي والاجتماعي بشكل صحيح، دعا المؤلف، لإعادة النظر في مفهوم الوحدة، الذي يصل حد التطابق التام، ونفي الخصوصيات، كما دعا لإعادة النظر في مفهوم العدو ومتوالياته من التناحر والتقاتل والعداء المفتوح. حيث إننا بحاجة -كما يرى- أن نحدد (من نحن) و(من هم أعداؤنا)، وذلك حتى يتسنى لنا صياغة ذاتنا الوطنية، وتحديد أولوياتها، ومشروعات عملها(ص 135).

وليعذرني الأستاذ محمد، إن قلت: إننا مع شديد الأسف، بعدُ لم نعرف (من نحن)؟ لنعرف بالتالي من هو (الآخر)؟

 الآخر الذي قد نحسبه عدواً، لأول وهلة، ولو اقتربنا منه لربما علمنا أن صديقٌ يشترك معنا في أكثر خصوصياتنا، فـ"نحن والآخر"، مفردتان تُعدان في غاية الأهمية، وهما بحاجة لمزيد من النقاش والإثارات العلمية الجادة، التي نظل في شوقٍ لمعالجتها على أوسع نطاق ممكن؛ ليغذو موضوع الحوار والانفتاح على الآخر، من الممارسات الاعتيادية، أثناء التعامل مع الناس، في حياة الإنسان المسلم.. بل في حياة أي إنسان، بعيداً عن الاعتبارات الأخرى!! لذا ينبغي أن ننظر لموضوع الحوار على أساس أنه ممارسة إستراتيجية دائمة، لا عملاً تكتيكياً مرحلياً! فجميل أن نعرف من (نحن)، لنعرف من هو (الآخر). فمن نظنه الآخر، قد نكتشف أنه يدخل في قائمة (نحن) إن تحاورنا معه بالتي هي أحسن! ويكفي أن نجلس مع الآخر ونتحاور معه، ليتعرف كل منا على التصورات الصحيحة تجاه بعضنا البعض، فالله -عزّ وجل- خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، لا لنتقاطع، ولا لكي يحمل كل منا الضغينة والحقد تجاه أخوته في الإنسانية. وأتصور أننا لن نعرف أنفسنا جيداً إن لم نتحاور مع الآخر -أياً كان هذا الآخر- وكما روي عن الإمام علي (عليه السلام): "وترى قفاك بجمع مرآتين"!!

على سبيل الختام أقول: إن الأفكار الإصلاحية التي يطرحها هذا الكتاب، فيما يخص الإصلاح السياسي والوحدة الوطنية، لمؤلفه العزيز الأستاذ محمد محفوظ، وهو أحد المفكرين المسكونين بهَّم الإصلاح؛ ستجد طريقها للتطبيق العملي -إن شاء الله-، إذا تحولَّت إلى تيار إصلاحي واسع، يُبشِّر بقيمها جمهور الأمة، فضلاً عن نخبها المثقفة؛ المعوّل عليها اجتراح سبل الإصلاح والتغيير المنشود.

ولا يكفي أن نتفرّج على قطار الإصلاح وهو يمر من أمامنا، دون أن نفكر ولو للحظة في ركوبه؛ فضلاً عن دخول مقصورة قيادته! فهل نفعل.. لنكون من المصلحين؟


1-   صدر للباحث الأستاذ محمد محفوظ مجموعة من الكتب تندرج تحت موضوع الإصلاح، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

        1- الأهل والدولة: بيان من أجل السلم المجتمعي، ط1، بيروت: دار الصفوة، 1418هـ/1998م. 2- الأمة والدولة.. من القطيعة إلى المصالحة لبناء المستقبل، ط1، المغرب/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2000م. 3- الإسلام ورهانات الديمقراطية.. من أجل إعادة الفاعلية للحياة السياسية والمدنية، ط1، المغرب/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002م. 4- الحوار والوحدة الوطنية في المملكة العربية السعودية، ط1، بيروت: دار الساقي، 2004م. 5- الواقع العربي وتحديات المرحلة الراهنة، ط1، بيروت: دار الإشراق الثقافي، 1423هـ/2003م. 6- العرب ورهانات المستقبل.. تأملات في المسألة الوطنية، (كتاب الرياض: 119)، ط1، الرياض: مؤسسة اليمامة الصحفية، 1424هـ/2003م.

1- في أكثر من آية تعرض القرآن الكريم لدعوة نبي الله شعيب (عليه السلام) الداعية لتحقيق عملية الإصلاح الاقتصادي، ومنها: آية (83 و 85) في سورة هود، وآية (85) في سورة الأعراف، و...إلخ. 

2- عندما نقرأ آيات القرآن الكريم، نجد فيه تركيزاً على معالجة وإصلاح الكثير من الأمراض السائدة، مثل: الاستبداد، الظلم، الطغيان، الغرور، التكبر، الجهل...إلخ.

3- يقول تعالى في كتابه الكريم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم: 41].

شبكة النبأ المعلوماتية -الخميس 16  /شباط /2006 -17 /محرم الحرام/1427