عاملة التنظيف هي الوحيدة التي وصلت قبلي الى المدرسة فهيأت غرفتي
لبداية دوام جديد .. جلست على الكرسي الدوار خلف منضدة الخشب الصاج
واخذت ادور بجسدي وبصري دورات كاملة متتالية .. خلف ظهري نافذة الغرفة
الواسعة التي تطل على الحديقة الخلفية للمدرسة وبين الزهور والحشيش
وشجيرات الآس رأيت الطفل ذاته جالساً في ارض الحديقة مثبتاً بصره على
النافذة كأنه ينتظر اطلالتي عليه .. جاءتني العاملة وفي يدها طرد بريدي
صغير تسلمته منها وانا اتطلع الى وجهها الجميل الذي يوحي بحيوية أمرأة
ظلمتها الدنيا بعمل لا يناسبها ثم خرجت واغلقت الباب خلفها .
القيت الطرد على الزجاجة النظيفة التي تغطي ظهر المنضدة ثم
نسيته وانا انظر الى ارضية الغرفة وجدرانها واستنشق رائحة عيدان البخور
الهندي التي احتلت زوايا الغرفة .. بدت لي غرفتي مثل عروس تستعد لليلة
زفافها .. جسد نظيف متألق .. وهكذا بدأت استعيد توازني وبدأ تعب الليل
يتسرب من مسامات جسدي .. فقد امضيت الليل افكر بالطفل الذي تربطني به
علاقة شعورية مبهمة لا افقه معناها او اسبابها .. طيلة ساعات الليل وهو
يحتل افكاري وذاكرتي حتى انه ارجعني اعواماً الى الوراء حين غادرت
الوطن في رحلة استمرت سنة كاملة امضيتها في بلدان عديدة وعدت منها
بتجارب لا تنسى .. لكن حتى هذه اللحظة لا اعرف كيف فقدت ابني .. سألت
عنه الناس عند عودتي لكن لا احد دلني عليه .. لا احد اخبرني بسبب مقنع
لغيابه .. بعضهم قال لي قتله مرض خبيث وآخرون قالوا بسبب القصف
الاميركي ، واناس اكدوا انه مات في حادث دهس مروع ، ومنهم من قال انه
اختفى من البيت فجأة ولم نره بعد ذلك ، وحينها ذابت متعة السفر وتبخرت
تجاربه وبدأت رحلة البحث الماراثوني المهلك من غير جدوى واخيراً وجدت
ان الحل يكمن في المقبرة .. نعم المقبرة .. وهكذا ذهبت اليها وطيلة
عشرة ايام وانا ادور بين القبور استطلع شواهدها واقرأها كلمة كلمة وكنت
اركز على شواهد الاطفال واقرأ أسماءهم وتواريخ وفياتهم .. وحتى لا اتوه
بين آلاف القبور الدراسة وضعت مخططاً اشبه بالخرائط السياحية وكم كنت
اخلط بين رحلتي ذات العام الكامل وبين رحلتي هذه التي انهيت فيها قراءة
شواهد جميع القبور ولم اعثر على ابني ..
دخلت العاملة مرة اخرى وفي يدها كوب من الشاي .. كم هي بديعة
هذه المرأة التي تتعامل معي كما لو انني امت بصلة حميمة لها .. ابنها
او اخوها او زوجها وكم اشعر بالسكينة وهي تطل على روحي بوجهها الذي
يفوح رأفة وحناناً .. وضعت كوب الشاي على المنضدة مع ابتسامة (خالدة)
هكذا كنت اصف بسمتها ثم نبهتني على الطرد الصغير الذي نسيته في زحمة
تعب الليل والذكريات . كان الطرد يستقر فوق الزجاجة اللامعة لكني لا
اشعر بحاجة الى فتحة ومعرفة ما يحمله ( فقد ولى زمن المفاجآت ) هكذا
ينتابني هذا الشعور احياناً ومع ذلك فانني مازلت اتواصل مع الحياة ..
فانا رجل قوي الارادة و روحي لا تخذلني ابداً .. صحيح انني فقدت اسرتي
.. زوجتي التي طلقتها ثم ماتت بمرض خبيث مفاجئ .. وابني الذي اجهل موته
من حياته لكن الصبر سمة من سماتي التي لن اتخلى عنها .. سمعت صوتاً
رقيقاً يتسرب الى سمعي من النافذة .. كنت اتلذذ بكوب الشاي حلو المذاق
.. رأيت الطفل مرة اخرى يجلس بمكانه على الحشيش كانت الورود تستدير
حوله وتتوزع بجمال امامه وخلفه .. بدأ الطفل يتحدث الي وانا اسمعه ..
قال : (( استاذ .. صحيح انك مدير المدرسة .. واحياناً تبدو قاسياً معنا
.. لكن انا اشعر كأنك ابي .. انا لست يتيماً .. نعم عندي اب حي لكنه
كالميت .. اما انت فانك ابي الحقيقي الذي يقف الى جانبي ابداً )) . كنت
مصغياً لهذا الوجه الملائكي وصوته الساحر وكلماته التي تزرع في كياني
روح الحياة .. أمتلأت زهوا وانا اشعر بأبني وقد عاد الي .. نعم انه
ابني .. دققت النظر في قسمات وجهه واستمعت بدقة لنبرات صوته وعرفت بلا
ريب انه ابني فقررت ان اترك غرفتي ونجلس معاً ، انا وهو بين الزهور
وقريباً من رائحة الآس المنعشة واذ نهضت واقفاً دخلت عاملة التنظيف
فقلت لها انظري عبر النافذة هناك نحو الحديقة ( انه ابني لقد عاد
اخيراً ) لكن المرأة ظلت حائرة وهي تصب بصرها على الحديقة الخالية ..
حملت كوب الشاي وغادرت وقد ضج وجهها بملامح متضاربة ثم اطلقت بصري مرة
اخرى عبر النافذة فرأيت جوقة من الطلاب في المكان ذاته ومن بينهم الطفل
الذي حدثني قبل قليل ، واذ ناديتهم اقتربوا من النافذة وركزت بصري على
الطفل الذي بدا لي صامتاً بوجه ينم عن مشاعر تشع بالالم البهي فعرفته ،
وتذكرت فوراً اسمه ووصفه لكن الشيء الذي لا اعرفه هذا الرابط الخفي
الذي يشدني اليه ، تباعد الطلاب عن النافذة عدوا في حين خطأ هو بهدوء
وظل يتلفت نحوي بين خطوة واخرى حتى غاب عني .. تهالكت على الكرسي بعد
فقدت آخر امل بالعثور على ابني .. كانت نوبات السهو على غرابتها
وقسوتها ( اذ انها تأخذي من عالم الواقع وتسبب لي حرجاً كبيراً مع
الآخرين ) لكنها في الوقت ذاته تمنحني العالم الارحب الذي يضمني الى
ابني فاشعر انني انتمي للحياة فعلاً .. سمعت دقات رقيقة على الباب
ودخلت العاملة ومشاعر التعجب ما زالت تغطي ملامح وجهها .. لم تكن تحمل
شيئاً ، وليس هنالك سبب واضح لدخولها لكنها كانت تريد ان تطمئن فحسب ،
ثم ذكرتني بالطرد وخرجت ، قمت من الكرسي جلت في غرفتي وتركت عيني تحتوي
اشياءها بعمق ولهفة هذه هي الطريقة الوحيدة التي تعيد الي توازني
واستقراري ، ثم لمحت الكرة الارضية الصغيرة التي ترتكن الى دولاب حديد
في احدى الزوايا .. تقربت منها ورأيت البلدان التي سحت فيها ثم رأيت
البحار والمحيطات التي تسور الارض وتخيلت مليارات الكائنات التي تعيش
فوقها ومن بين هذه الكائنات هناك كائن واحد ..كائن صغير هو طفلي يقبع
في مكان ما منها اين هو الآن ؟.. ثم عدت الى الكرسي ولمحت الطرد الصغير
الذي فاجأني بومضات متتالية اشبه بالبرق الأمر الذي اجبرني على فتحه
فلم اجد فيه رسالة او كلمات او أي شيء آخر عدا صورة .. صورة واضحة لطفل
له وجه ذو قسمات غائمة تكاد تكون مغيبة وسط غابة من الاحزان الشفيفة ..
احزان روح بهية طيبة مملوءة بالبراءة والنقاء .. هذا الوجه اعرفه وهذه
القامة البهية اتذكرها تماماً .. انها صورة ابني ولكن من الذي اتى بها
الى المدرسة ؟ ونهضت وكدت اصرخ على العاملة مستفهماً منها لكن الصورة
برقت بشدة واخذت بصري فجلست على الكرسي احدق بالوجه الطفولي المفعم
بالهدوء .. اخذني الوجه اليه الى حيواته وعوالمه وتوحدت مع القامة
الفارغة .. عمري كله ذاب في هذا الوجه ، وبدأت اسمع كركرات الطفل ، نعم
انه يضحك انا اراه بوضوح ، انا اسمع نبرة صوته ، انها ضحكة ابني كمال
.. سألته بهدوء من انت ومن تكون ؟ خرج الطفل من الصورة وشمخ بقامته وسط
الغرفة واخذ يتحدث بوضوح .. يا الهي كم انت كريم ورحيم .. واخيراً انهض
من مكاني واخطوا الى الولد واضمه الى صدري واكاد اسمع قلبه الصغير ينبض
بهدوء وحرارة جسمه بدأت تتسرب الى قلبي .. شددت جسمه بقوة الى صدري خفت
ان يغيب مرة اخرى .. دقات رقيقة تتواصل من قلب الطفل .. دقات رقيقة
تتدفق الى روحي .. دقات رقيقة على خشب الباب تختلط بدقات القلب ..
الغرفة كلها تتحول الى دقات متواصلة .0 انتبه الى نفسي .. احس بأنني لا
احتضن سوى حزمة هواء .. اصحو .. اتقدم الى الباب .. افتحه .. قامة بهية
مشعة تقف امامي .. قامة الطفل نفسه .. طفل الحديقة الخلفية .. يتقدم
الي .. يفرد ذراعيه .. افرد ذراعي .. احتضنه بشدة .. استمع لدقات قلبه
وعيني على الطرد البريدي الصغير . |