ثمة
إخفاقات كبيرة أصيبت بها السياسة الأمريكية هذا العام والذي سبقه، بدت
فيها الولايات المتحدة وكأنها تتحرك بتوتر شديد خاصة بلحاظ اتجاهات
اليمين المحافظ الذي استمات في فرض إرادته على دول المنطقة لإشاعة بعض
مظاهر الديمقراطية في أساليب الأنظمة الحاكمة في الدول العربية
والإسلامية. فهذه الإدارة التي تبنت مشروعاً لتغيير وجه الشرق الأوسط
والبلاد العربية تحت راية نشر وتعزيز الديمقراطية شعرت بخيبة أمل من
تراجع مكانة التيارات الليبرالية وبقية الأحزاب السياسية في البلاد
العربية التي جَرت فيها انتخابات حرة مؤخراً، ولم يعد أمامها من خيارات
سوى اللجوء إلى النظم الحاكمة "وهي التي مارست بعض الضغوط عليها سابقاً"
أو الجماعات الدينية، وقد تجلى ذلك بوضوح في مصر قبل أشهر وفي فلسطين
مؤخراً حيث وضع المشهد الانتخابي خيارين أمام الحكومة الأمريكية فإما
أن تختار بين مواصلة الضغط على بعض النظم القائمة لتحقيق إصلاحات
ديمقراطية ودستورية على المدى البعيد وإحداث حراك في هذه المجتمعات عبر
مواصلة دعم بعض الاتجاهات والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني،
وذلك يعني التمهل في خطط فرض التغيير على الدول العربية أو تقبل وصول
القوى الإسلامية إلى الحكم بطريق الانتخابات الديمقراطية وصناديق
الاقتراع مع ما ينطوي عليه ذلك من تهديد محتمل للمصالح الأمريكية.
ولذلك فقد هدأت موجة الإصلاح الديمقراطي في بعض الدول العربية وأخذت
تنحسر في غالبيتها، بل وتشير التطورات التي جرت مؤخراً إلى أن زمام
المبادرة في بعض دول المنطقة العربية ربما يكون قد عاد إلى النظم
التقليدية الحاكمة التي تشعر أنها كسبت الجولة وساعدها في ذلك أن
إقتصادات المنطقة العربية تقوم على تكوين الثروات من خلال المضاربة أو
من خلال العلاقة مع قوى السلطة وليس من خلال إقامة المشاريع الإنتاجية
. ولذلك نرى البرجوازية المالية والعقارية تتكون من خلال دعم العائلات
الحاكمة والنخب المتسلطة وليس من خلال عوامل الإنتاج، فليس هناك تقدم
إنتاجي إذا ما استثنينا التطور التي طرأ على قطاع النفط والصناعات
المشتقة منه. ولأن القوي يأكل الضعيف نرى الثروات تتراكم لدى الطبقة
القريبة من السلطة أو خدامها أو حماتها، ولذلك فإن النظم العتيقة قد
تنجح كعادتها في تجميد الأوضاع معتمدة على عنصر الزمن الذي وقف غالباً
في صفها وتتمترس خلفه في رفض إرادة التغيير ووأد كل عناصر الحراك
الاجتماعي والسياسي، خاصة مع تنامي الريع والفوائض النفطية الذي
استغلته الأنظمة التسلطية لقمع أي حركة انفتاحية وإبقائها على مظاهر
الاستبداد وتهميش أي حركة للانفلات والإنعتاق من الماضي، مفضلة
الإبقاء على النظم الشمولية وإنشاء برلمانات وإدارات تبدو حديثة لكنها
تفتقد إلى الإرادة الشعبية مما يجعل من حداثتها حداثة شكلية تستعمل
للسيطرة على الشعب وليس لإنجاز التنمية الشاملة.
ويبدو أيضاً أن القوى الأجنبية التي تحمست بعض الوقت لحفز المنطقة
العربية ودفعها للسير نحو الديمقراطية قد فترت حماستها، فالرئيس بوش "أكبر
الدعاة وأشدهم حماسة" يواصل الحديث عن الممارسة الديمقراطية في العالم
العربي والإسلامي، لكن في خطب على استحياء اختفت منها الحماسة السابقة
وفقدت الإلحاح والإصرار وربما الإقناع الذي كانت تتصف به، حتى تلقفت
منه هذا المنحى وزيرة الخارجية الأمريكية التي انتقلت من موقع الانتقاد
الدائم لأوضاع الديمقراطية في الدول العربية وموجبات الإصلاح فيها إلى
إضفاء صفات المديح والثناء على ما تحقق، مع أن ما تحقق فعلياً لا يقنع
دعاة التغيير في المنطقة ولا يساوي كل ما صرف من ورق في المؤتمرات
والندوات التي عقدت للتبشير بهذه الديمقراطية التي صممها المبادرين
الغربيين بنشرها لتكون "الديمقراطية ذات السقف المنخفض".
وقد تلقف ذلك اليمين المحافظ في أمريكا وأعاد قراءة كل هذه
المتغيرات وبنى عليها تبرير تراجع تيار هام من تيارات الفكر المحافظ عن
موقفه السابق في الإصرار على نشر الديمقراطية في العالم العربي، ويقول
عضوان بارزان في مؤسسة "أمريكان أنتر برايسز انستيتيوت" التي تمثل
القاعدة الفكرية التي تنظر لأيديولوجية اليمين المحافظ في واشنطن
"أنهما بعد تفكير عميق توصلا إلى أن الديمقراطية في الشرق الأوسط قد
تأتي بحكومات مناهضة للولايات المتحدة ومعادية للصهيونية، وأنهما"
اكتشفا التناقض الذي وقعت فيه حملة الدعوة للديمقراطية عندما أدركا
احتمال أن تفوز حماس في الانتخابات في فلسطين "حصل بالفعل" وقبل ذلك
فوز الإخوان المسلمين في مصر والأردن وربما غيرها من الدول العربية
التي ستجري فيها الانتخابات".
ولذلك يستنتج دانيال بايس من "منتدى الشرق الأوسط" وهو أحد مخططي
احتلال العراق وحملة التبشير بالديمقراطية في الدول العربية "يجب أن
تبطئ أمريكا مسار العملية الديمقراطية حتى تمنع وصول حكومات إسلامية
إلى السلطة". وبذلك فقد تحققت توقعات كثير من المراقبين والحكام العرب
الذين راهنو على عنصر الزمن ودخول عناصر جديدة تعيد الأمريكان إلى
رشدهم، وإلى رؤية ما تعتبره الحكومات العربية المحافظة والثيوقراطية في
المنطقة التي طالما حاولت توضيحها لإدارة الرئيس بوش ومنظريه
الأيديولوجيين، وينصح بايس الحكومة الأمريكية بأن تمنح حكام البلاد
العربية الفرصة لتنفيذ جدول مواعيد مريح ليس فيه من العجلة شيء، لتدخل
الديمقراطية على مهل، وتظهر نواياه الصريحة بقوله "أنا شخصياً أفضل
مستبدي اليوم – يعني الحكام أصدقاء أمريكا – على مستبدين أسلامين في
المستقبل". وفي مطلق الأحوال فإن الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية
تعاطت مع ضغوط الإدارة الأمريكية الحالية بوصفها قابلة للإنحسار، لذلك
فإن جهدها كان منصباً على مسايرة هذه الموجة حتى تبلغ ذروتها ثم تعود
للتراجع، وهذا ما يفسّر ارتداد ونكوص بعض الأنظمة العربية في مواجهة
دعاة الإصلاح، والموقف الذي وقفته الأنظمة العربية علناً من غير خجل في
منتدى المستقبل الذي عقد في البحرين نهاية العام الماضي، لأنه شكل نكسة
لدعاة الإصلاح في المنطقة العربية، حيث أعادت قوى التشدد في الأنظمة
العربية تنظيم نفسها وجابهت قوى التغيير السياسي ومنظمات المجتمع
المدني وحرمتها حتى من التأييد المعنوي.
وبذلك خلا المجال لعدد من النظم العربية لمباشرة نوع ديكوري خاص من
الإصلاح الداخلي الذي ترغبه هي، وبالطريق الذي ترتضيه، وإن اختلفت
أساليبها، لكن جامعها المشترك هو إصلاحات تجميلية مجزأة ومنتقاة، مع
الإبقاء على المخزون السياسي الموروث عن النظم المستبدة والقبلية،
والمزج بينهما في عملية ترقيع النسيج الديمقراطي بنسيج الحكم الفردي
المطلق الذي تمظهر في نمط من الحكم الشمولي ممزوجاً ببعض المظاهر
الشكلية التي تنتسب للديمقراطية، وهو ما أطلق عليه الدكتور عبدالهادي
بوطالب "الترقيع الديموقراطي"
فلم يعد مجهولاً ولا سراً ، على المتابعين للإصلاحات السياسية في
الدول العربية ، أن النظم الحاكمة ربما تكون قد شعرت بالأمان أكثر الآن
بعد أن تجاوزت مرحلة الخطر وعادت إلى ممارسة أساليب وطرائق الحكم
السابقة التي كنا نعتقد أنها قد تخلت عنها تحت ضغط مطالب الإصلاحيين في
الداخل والخارج، خاصة بعد أن توفرت لها أسباب إضافية للصمود ( بخلاف
عامل الزمن) ومنها:
أولاً: ضعف إدارة الرئيس بوش نتيجة فشله الخارجي في العراق
وأفغانستان، فعاد يركز في خطاباته على الشأن الداخلي . وقد قرأت
الحكومات العربية جيداً هذه الرسالة وأدركت أن إصلاح الأنظمة ودمقرطتها
لن يكون هما أمريكياً ملحاً خلال السنوات الثلاث المقبلة.
ثانياً: تفاقم الأزمة بين طهران وواشنطن على خلفية اشتداد المسألة
النووية، وحاجة واشنطن إلى الاستعانة بالخدمات التي تقدمها بعض الأنظمة
العربية في المنطقة في مواجهتها المحتملة مع إيران.
ثالثاً: تعقد الأزمة الأمريكية مع سوريا التي تتهمها واشنطن أنها
أحد أسباب تصاعد الوضع المضطرب في العراق وأنها قد تكون وراء اغتيال
الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
ومع هذا التردد الأمريكي والخشية من وصول أحزاب دينية إلى مواقع
القرار يتضح مقدار المأزق الذي انحدرت إليه حملة الإصلاح الأمريكية و
تعثر عودة الروح إلى أوصالها مما يهدد البديل الديمقراطي الذي راود
المصلحين العرب خاصة في دولنا التي لديها حداثتها المضادة، فهي متخصصة
في مصادرة الحريات عبر استخدام القوة أو استغلال القانون أحياناً. ومن
خلال أدواتها القوية، فالدستور يستعمل أداة للتسلط وليس لضمان حقوق
الأفراد. والقانون يمثل حكم القوة، والآن في بعض الدول العربية يتم
تكريس مبدأ التوحش والقوة معاً.
*النائب الأول لرئيس مجلس النواب -
البحرين
[email protected] |