يتبادلان بذرة….
العائد:كنت أقطفك يومياً من النسيان لأحميك.
الباقي: كنت أنساك يومياً لأحميك.
العائد: هل تتصنع لغتك.
الباقي: هل تتمنع عليك المفاهيم.وهل قلت ما لايفهم.
في حوار القطيعة هذا لم تكن القطيعة إلاّ تواصلاً. وفي وسط تداخل
الحقيقي بالغامض والواضح بالغائب صار بإمكان المتحاورين أن يتبادلا
مواقعهما في أية لحظة يفوح منها الحرج. العائد تسمرت مفاهيمه على
المتجبر الذي سقط والباقي المضطهد الذي نهض. وهو يحسب أيام اضطهاد
صاحبه أيام سبات وموت فيصيح الباقي:لم أكن ميتاً.كنت أكثر تشبثاً
بالحياة منك.كنت أصنعها وأحافظ عليها من المصادرة.لقد تعلمت كيفية
القبض على الأفكار والأشياء والسخرية المرة.ولكنك تعلمت المراثي
والبكاء على أرض بعيدة.
حمامة على السياج….
وانتبها الى حمامة حطت على السياج .
الباقي:أظننا فشلنا كثيراً عندما عرّفنا المعرّف وسميناه ودفعناه
الى اللغة التي هي مومس لها أصباغ كثيرة.وسنختلف كثيراً بسببها أنا
وأنت في تسمية حريتنا. بينما هذه الحمامة لم تتعب نفسها في تسمية
حريتها..
العائد: ليس لها حرية طالما أن الصياد يفصّلها لها حسب إرادته. .
الباقي: ولكنها الآن حرة.ألم أقل لك أنني تعلمت القبض على الأفكار
ولم أعد أعرّف المعرّف.
حصيرة على الماء….
في حوارية العائد والباقي تتقاطع الخيوط وينبع صراع أقرب ما
يكون الى صراع العناصر ألا وهو صراع الأفضليات وحساب الألم وكشف
المعاناة.هي حوارية على أرض رخوة وجلوس على حصيرة تطفو على مياه وأسئلة.
الباقي: من الذي أمرك بالذهاب.قلت لك أنتظر ولا تغادر المدفع.لأنك
ستجعل أصدقاءنا صيداً سهلاً.ذهبت عنك للحظات الى حي الأسرة لأصلح مدفعاً
توقف عن الرمي.ولم تكن بي رغبة للذهاب وقلت في سري إن جنود الحرس
الجمهوري سيدخلون من حينا وبالذات من الشارع الذي يربط حي الموظفين
بحينا لأن هذا الشارع اللعين يسمح لسير الدبابات التي تعبت سرفاتها بعد
الإنسحاب من الكويت وسيسمح لجنود الحرس الجمهوري بالوصول الى مرقد
الحسين.كنت خائفاً تماماً.وكنت قررت أن أصمد بدلاً عنك.لولا عطل ذلك
المدفع اللعين في حي الأسرة.لقد نظرت اليك وما زلت أذكر تلك النظرة
الأخيرة وأنا أصعد مع أربعة من الثوار في السيارة التي أقلتني.رأيت
وأحسست أنني لن أراك..لا أدري هكذا خطر في بالي.فاوصيتك بأن تموت هنا
مع هذا المدفع وإن الذخيرة تكفيك ومعك شابان صامدان أقسما على الموت .ثم
عدت ووجدت أن جنود الحرس قد استباحوا المكان وزرعوا مقبرة جماعية في
منطقة المخيم. وإذا بك تتصل بي من هولندا بعد ست سنوات.يا للمهزلة.
العائد:لقد باغتونا وانت تعرف اننا لم نكن نخوض حربا منظمة وانما
خرجنا لنسترد طفولتنا التي صادروها ونثبت
لانفسنا اننا رجال رغم اننا عبرنا عشرينياتنا بقليل.ثم
انسحبنا وتفرقنا….
الباقي: وتركتم الناس صيداً سهلاً ؟.
العائد: ألم تنسحب أنت والدليل بقاؤك حيّاً حتى الآن ؟
الباقي: معك حق…ولكني أشعر الآن إذ أراك أمامي أنك عدت بالذي نحتاجه.
العائد: وما الذي تحتاجه ؟
الباقي: لا أدري إنه أوسع من الوصف…ألم تعرف أنت ما هو.ولكني أراك
منكسراً.عدت لنا بعشر قصائد فقط
بعد ثلاث عشرة سنة.مسكين.ما زلت أحبك ولكني أحاول أن أردم
شرخاً أشعر به هناك في البعيد مني
.دائماً يفصلني عنك وأريد منك أن تساعدني.يا مسكين……
تمتزج ظلالهما فيضحكان…
يقول الباقي لصاحبه العائد انه لا يستطيع أن يرفضه وأنه انتظر
عودته كثيراً.ولكن على العائد أن يتحمل الكثير من المحبة الشرسة وأن
يعمد الى اسقاط الأيام التي مرت بينهما لأنها مهملة ولم تنب عنها أي
بشارة.
العائد:لكنك استبشرت كثيراً بسقوط النظام.
الباقي: لا تسمه نظاماً لقد كان فوضى مثل الطاعون.وكنت انتظر ان
تأتي البشارة منك لا من سواك لكي لا
يكون علي مجاملتك ووضعك بانحياز واضح في مشهد الحرية…
العائد: وأنت ايضاً فشلت في صنع مشهد الحرية وقد صنعه سواك ولو بقيت
المسألة متعلقة بك لما تجولنا أنا وأنت بأمان وسرنا على شارع مدرستنا
هذا والذي كنت تسميه قصيدتنا العصية على الإكتمال.
الباقي: ويلك أنا لا أريد أن ألغيك عموماً.ولكن كما تعرف عني فإني
أحب أن أسمي الأمور بأسمائها الواضحة.وأما الشعر فلا مقام له عندي
الآن.طالما انه أصبح هذياناً يجيد أمثالك تدبيجه على الورق.
العائد: لا تخلط المسائل عليّ. إنني أفهم الأمر هكذا وببساطة وهو
أننا أنا وأنت كنّا داخلين في غيابنا ولا أعني به الغياب كما هو في هذه
المفردة البائسة.ولكن سمه غياب البذرة.النزوع نحو الإخضرار عندما تواتي
الظروف.ألم يكن هذا من حقي وحقك؟.
الباقي:نعم.أكيد.ولكني أرى أننا الآن نجلس معاً على حصيرة تطفو على
الماء.ولابد من قرار.
العائد:ولماذا.هذه الرجرجة.الا يكفي أننا معاً والأمور ستعود الى
بداياتها وطبيعتها بعد أن يمرعليها السيد الباسل؟.
الباقي: من هذا السيد؟.
العائد: انه الزمن…إنه هو الذي يبرمج الفصول والأشياء وحتى
المزاج.وإنك تستعجل الأمور .ولهذا يطلع طبخك نيّئاً.وتشعر أنك على
حصيرة تطفو على الماء.
الباقي: ولكن.لماذا تركت المدفع؟.ولم تنتظرني ؟.
العائد: يا مغلق الفهم .يامشوش. قلت لك لم يكن هناك مجال للعودة.ثم
إنك لم تعد اليه كما أخبرتني قبل يومين من الآن.يبدو أن الحصيرة أثرت
عليك حتى أصبحت أسئلتك دائرية. وحديثك مثل الحديث مع عجوز تذكر حادثة
طلاقها فتوبخ الآخرين.ألا توجد أشياء جميلة تثير اهتمامك هذه الأيام..
الباقي: نعم .أكيد هناك أشياء جميلة تثيره. مثل وطني .أولادي.
قصائدي. علاقاتي البريئة.مشاويري معك… والكثير سوى ذلك.
العائد: كيف ترى المرأة ؟.
الباقي: حقل يصلح للحراثة والصهيل والبكاء ولكن أعظم ما فيها أن لها
القدرة على اغتيال غربتك حتى لو كانت هي غريبة.انني أراها دائما وكأنها
وطن مؤنث…
العائد: الآن خرجت من الحصيرة واستقرت بك المياه….
الباقي: وأنت. الآن نصبت نفسك كاهناً عليّ.إنك لا تملك القدر على
استنشاق الجمال.لقد كنا نراه ينسرب من بين خيوط ايامنا ولا نستطيع
الإمساك به فابتكرنا طريقنا جميلة للسيطرة عليه وهي استنشاقه….
العائد: مثل تاجر البصرة الذي حدثنا عنه الجاحظ .وكيف القي عليه
القبض وهوبأبهى حلله يثقب غطاء الكنيف في الزقاق…..
الباقي: اذا عدت الى مناكدتي. والله العظيم سأسألك لماذا تركت
المدفع….
ولكن القصيدة لا تنطفئ.لأنها وطن….
كانا يغنيان تماماً كما في ايامهم المدرسية الأولى يقطعان
ذات الطريق وعلى الرصيف ذاته يقرزمان طلائع قصيدة تتلجلج في ضميريهما
ويضحكان من الكلمات وهي تصطف كما يريدان.كانا شاعرين وما زالا مشغولين
برفيف جناح ونسمة عابرة.يعيدان تسمية الأشياء كما يريدان ويتخاصمان كما
يريدان.بين آونة وأخرى يبزغ ابناؤهما في الحوار فيطاردان بعضهما
ويحاولان أن يركضا على مساحة الوطن كله ولكنّ أربعينياتهما لها شروطها
فيلهثان من الركض ويجلسان على الرصيف وكما كانا في ايام مراهقتهما
الأولى يشعلان سجائرهما ويدخنان اياماً كالتبغ لكنها لم تكن
عابرة.ويدركان تماماً أن قصيدتهما لن تكتمل في عبثهما الفوضوي.ولكنهما
يوقنان أن القصيدة اصبحت وطناً ينام في العمق منهما وهو مثل القصيدة لا
ينطفئ.وفهم الباقي لماذا كان العائد يقطفه يومياً من النسيان ليحميه
.وفهم العائد لماذا كان الباقي ينساه يومياً ليحميه……. |