وقفة مع التراث الفكري الإسلامي..

عقيل يوسف عيدان*

تشهد منطقة الشرق الإسلامي بوادر نهضة فكرية وثقافية تتخذ طابع الحضارة الحديثة، إلاّ أننا لا نكاد نجد من المثقفين ثقافة معاصرة إقبالاً على تراث الفكر الإسلامي، فقد شغفتهم الثقافة الغربية كل الشغف بما حَوت من ضروب التفكير في شتى مناحي الحياة .

ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن دراسة هذا التراث من الفكر الإسلامي مقصورة على قلة من المتعمقين في البحث والتنقيب والباحثين عن الذخائر والكنوز، المتخصصين بالتحقيق التاريخي في ترجمة أعلام المفكرين واستطلاع آثارهم على تعاقب العصور.

وأما جمهرة المثقفين على وجه عام، فقد حسبوا أن تراث الفكر الإسلامي موقوف على خيال شاعري محدود النطاق. أو جدل فيما وراء الواقع لا يجدي في الواقع الراهن، أو حقائق ونظريات تدور حول العقيدة وأحكام الشريعة، لا يُعنى بها إلاّ ذووها من أهل الفقه ورجال الدين.

حسبوا أن هذا التراث لا يستطيع أن يتابع الإنسان في حياته المتجددة، ولا يعالج مشكلاته الراهنة، ولا يُساير وَعيَه المعاصر، ولا يدور مع فكره المتطوّر مع الزمن. حسبوه ثقافة جيل مضى، وعهده انقضى. لا تماشي عقلياتهم ولا تتفهم نفسياتهم، ولا تلائم الحضارة والمدنية في عصر التكنولوجيا الرقمية.

ولقد ظلم هؤلاء المثقفين بهذا الحسبان تراث الفكر الإسلامي. كما ظلموا أنفسهم بالعزوف عنه، على حين أنه زاد فكري جدير أن يعيش بيننا، فتصوّر حياتنا، وتلمس آلامنا، وتستجيب لمشاعرنا وتعالج حيرتنا إزاء ما يعترضنا من مشكلات الفكر والوجدان.

وفي هذه المقالة، نعرض لاثنين من الفلاسفة المسلمين، جرت بينهما منذ أكثر من ألف عام محاورات في مسائل ومشكلات، ذانك هما : (أبو حيَّان التوحيدي:  ت 414هـ/1023م) و(أبو علي أحمد مِسْكويه: ت 421هـ/1030م). الأول سائل، والآخر مجيب.

كانت أسئلة (أبي حيّان) صورة رائعة من صمت العالم المفكِّر، ذلك الصمت الذهبي الذي تكمن وراءه حركة دائبة من التأمل والتدبر، ذلك الصمت الخصب الذي يؤتي أطيب الثمرات. إنه تأمل في أوضاع الحياة، وتدبر لحقائق الكون، وحيرة إزاء المتناقضات من أخلاق الناس. تمخَّض ذلك كله عن أسئلة متزاحمة. أفضى بها إلى صاحبه (مسكويه)، فتروى في الجواب عنها، متلمساً وجه الصواب فيها. وكان من الأسئلة والأجوبة حصاد فيه للقارئ غناء ولذة وإمتاع.

لم يكن سؤال (أبي حيّان) لصاحبه (مسكويه) سؤال التلميذ الفتى لأستاذه الشيخ، ولا سؤال الأستاذ الشيخ لتلميذه الفتى، ولكنه كان سؤال العارف للعارف، ومجاذبة النِّد للنِّد، يبتغي بسطاً لوجهات النظر، واستئناساً بجوانب الرأي، وطمأنينة لخبيئة النفس، ولو أننا تمثَّلنا (أبا حيّان) قد ألقيت عليه هذه الأسئلة من غيره، لما عي بالجواب، فيه كفاية وشفاء.

وعلى الرغم من أن (أبا حيان) كان فيلسوفاً متعمقاً في الطبيعة وما وراءها، مشغولاً بجِسام المعضلات في الأخلاق والمنطق، فإنه في أكثر ما وجَّه من الأسئلة إلى (مسكويه) كان ينحو نحواً وثيق الصِّلة بالحياة الدائرة، قريباً من المشاعر العامة، فالمسائل التي يُثيرها هي من صميم المسائل الواقعية في دنيا الناس.

يتساءل (أبو حيان) :

ما السبب في اشتياق الإنسان إلى ما مضى من عمره ؟

لِمَ صار بعض الناس إذا سئل عن عمره نقص، وآخر يزيد على عمره ؟

لِمَ صار الإنسان يحب شهراً بعينه ويوماً بعينه ؟

لِمَ كلما شاب البدن شبّ الأمل ؟

ما السبب في قتل الإنسان نفسه عند الإخفاق ؟

ما السبب في أن إحساس الإنسان بالألم أشد من إحساسه  بالعافية ؟

ما السبب في حب الرياسة ؟

لِمَ اشتدت عداوة ذوي الأرحام والقربى ؟

ما سبب رغبة الإنسان في العلم ؟ ثم ما فائدة العلم ؟

لِمَ يُشير الحصيف على غيره فيهديه، فإذا انفرد بنفسه لم يحسن المشورة لها ؟

ما العلة في أن من كان أكثر عقلاً كان أكثر غماً ؟

لِمَ يختلف فقيهان في حكم، فيحلل هذا ما حرَّم ذاك ؟  

هذا طرف من أسئلة (أبي حيان) التي قاربت المائتين، وسماها ((الهَوامل))، ولم تَخلُ هذه الأسئلة من جانب علمي دقيق، فيه بعض التعقيد، ولا يد في استظهاره من تغلغل في شعاب الفلسفة. ولكنها في جملتها تموجات فكر، وخطرات نفس، ونظرات تبعث عليها فطنة ورهافة حس.

وفي أجوبة (مسكويه) التي سمّيت ((الشوامل)) تفسير مبسَّط شائق لما يبدو من ظواهر الحياة، وما يُثير العجب من شئون المجتمع وسلوك البشر وهذا التفسير تتجلى فيه سعة الأفق في الفهم وبُعد النظر في التعليل والتحليل. فالأسئلة والأجوبة في مجموعها نابعة من صميم النفس مستمدة من قلب المجتمع. وهي لذلك ليست مسائل عصر بعينه، ولا مشكلات جيل بخصوصه، ولكنها مسائل الإنسانية ومشكلاتها في كل عَصر وفي كل جيل. فهي اليوم موضوعات عصرية، كشأنها في كل زمان ومكان.

يعرض (مسكويه) لفلسفة الخير والشر، فيقول : إن كثيراً من الجهال يرون أن الأشياء كلها مقسمة إلى قسمين : خير وشر. وليس الأمر كذلك، فإن اليَسَار والتمكّن من الدنيا ليس بخير ولا شر، حتى ينظر في ماذا يستعمله صاحبه، فإن استعمل يَساره وماله في الأشياء التي هي خير، فإن يساره خير، وإن استعمله في  الشر، فهو شر.

وكذلك كل شيء صالح للشيء ولضده، كالآلات، فهي لا توصف بأنها مصلحة أو مفسدة إلاّ

باستعمالها.

ويعرض (مسكويه) لفلسفة الراحة والتعب، فيقول : إن الراحة إنما تكون عن تعب تقدمها، وجميع اللذات يظهر فيها أنها راحات من آلام. فهي تستلذ وتستطاب ساعة يتخلّص من الشيء المتعب. فإذا اتصلت الراحة، وذهب ألم التعب، بطلت الراحة وبطل معناها.

وقد يلاحظ على (مسكويه) أنه كان مأخوذاً بأسئلة (أبي حيان) مستسلماً لها، صارفاً همّه إلى الجواب عنها، دون أن يعترض على السؤال عينه. فقد سأله صاحبه عن السبب في تشريف من كان له أب أو جد مذكور بالخير، دون تشريف من كان له ابن مذكور بمثل هذا الخير. فلم يشر (مسكويه) في جوابه إلى مألوف الناس في تكريم آباء المشاهير في حياتهم كما يكرمون أبناءهم على السواء. وإذا كان التكريم في الأبناء أظهر، فلأنهم هم الباقون المتأخرون، فالرجل المشهور يترك خلفه من الأبناء فيلقون من بعده كرامة وحفاوة، ولكن من الآباء يسبقونه في الأغلب، ومن ثم لا يبقى في حقهم سبيل إلى إعظام وتكريم.

إن القيمة الكبرى لأسئلة (أبي حيان) هي في حيويتها. فنحن اليوم نتساءل كما سأل، إذ نرى ما يرى، ونلحظ ما لحظ، ذلك لأن هذه الأسئلة صادقة في تصوير الشخصية الإنسانية. أصيلة في تسجيل ما تُسفر عنه أحداث الحياة وسلوك الأحياء. ولكن، هل شَفَت أجوبة (مسكويه) غليلا ؟ هل عالجت مشكلا ؟

الواقع، إن علاج المشكلات الحيوية الموصولة بأعراق البشرية لا ينتهي بمقال يكتب، أو رأي يُبسط، أو تفسير وإنْ صَح. حسبنا من الأجوبة أن فيها ما يقنع العقل، وما يرضي الفكر، وما يطمئن النفس. أما الأسئلة، فإنها تظل على حالها تمثل معضلة الشخصية الإنسانية ولغز السلوك الاجتماعي على طول المدى.


*كاتب وباحث في الفلسفة الإسلامية والفكر العربي، من الكويت.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -اربعاء 25  /كانون الثاني/2006 - 24/ذي الحجة/1426