قراءة في قصص علي حسين عبيد
أنور عبدالعزيز
الموصل
اثنتا عشر قصة في مئة وتسع صفحات صادرة عن دار الشؤون الثقافية
العامة ببغداد للقاص علي حسين عبيد .
تميزت وتميز كاتبها, ليس بلغته واسلوبه الشفاف المتماسك والمعبر
وحواره السلس النابض بحركة الشخوص والكلام والحياة فقط, بل وبهذه (
الاختيارات) الذكية للموضوعات وبالأختيارات الاكثر دقة ودلالة
لعناوينها, التي لم يتعامل معها القاص بمعالجات تقليدية جامدة مكررة,
بل وجد لاغلبها متنفساً جديداً وتناولا فنيا معاصراً في حداثته, وافقاً
مغابراً فسيحاً مشحوناً ومكتنزاً بدلالات المعاني الموحية, وقد استطاع
في عدد منها ان يتحفنا بالوان من الحكي والقص النابه اكد ودلل على
قدرته وأستيعابه وتوغله وتفاعله مع مقتضيات تقنياته القصصية, ومع
الاسرار الخفية والقصية – واحياناً العصية – لفن القصة القصيرة ان لم
تتوفر لها ذاكرة نشيطة متحفزة وخيال متفتح متدفق وتجربة حياتية تعتمد
الصدق والحس الانساني, وان لم تتوفر لها قدرة على الكتابة الواعية وهي
تتمثل في ما يحتاجه القاص من ادوات ووسائل فنية قد تتعدد وتتشعب لاثراء
النص, ولتحويل الالفاظ والكلمات والجمل وحتى الحروف المنطوقة إلى ما
يشبه الحياة او ما يقترب منها لحد التصديق بما يحدث او لحد الشك بما
يحدث, او لحد حيرة الوقوف بين الشك واليقين حسب موحيات القص ومؤهلاته
وحسب قناعات المتلقي وقدراته او ردود افعاله تجاه ما يرى ويقرأ ليفكر
ويتخيل ويحاور نفسه وعقله وهذا المقروء، ثم ليستنتج ويحكم على هذا
النتاج بأمتلائه الثر او بخوائه وفراغه وعجزه ..
( تفاحة البحر ) ص5 هذه القصة القصيدة موضوعتها: طفل وبحر وامرأة
وارتسامات هذا البحر في عيني الطفل ومشاعره وادراكه, ثم ارتسامات حركة
المرأة – ظهوراً واختفاء – في قلب هذا الطفل ودهشته واضطرابه.. هذه
القصة كتبت بأسلوب الشعر, وتدرجت – بتأثيرها في نفس القارئ – بوصف
ارتفع بها إلى مصاف احلى القصص واكثرها قدرة في ايجاد ما يلائم ويوائم
وينسجم من كلمات وتعابير جسدت واضاءت لنا صورة البحر والسماء والطفل
والمراة ..
(سيرة ذاتية لعربة الأسكيمو) ص 11 والأسكيمو هنا نوع من المرطبات
المثلجة, فهي هذه الغرابة والتغريب في اختيار (العربة) بطلة واختيار (صاحب
العربة) بطلا ملتحماً مصيرياً مع عربته, والمرأة الساهية اللاهية في
هذه (العلاقة) التي يكتوي بها الرجل قدرا لاهباً حارقاً في حياته
المتعبة, ولا ترى فيها المرأة غير حدث عارض او غير احداث شاحبة عابرة
عادية وحتى انها لا تنتبه على مجرياتها مع معاناة صاحب العربة الكادح
المتعب الكئيب .. وفي (كائن الفردوس) – عنوان المجموعة – (فانتازيا)
مخترعة التقطتها موهبة القاص من مخيلة نشيطة , وقد جرى فيها قلم القاص
بزخرفات ومنمنمات واسلوب سحري ظل محافظاً على دفقه وانهماره وجماليته
ليمنح( موضوعته) ويمتد بها في اجواء واحلام مضيئة ملتمعة مشرقة مشعة
بوهج اسلوبه الوصفي الثري الموغل في اعماق المحسوسات والمنبه والكاشف
لظواهرها .. و ( كتاب الكيذبان) ص 31 هو كتاب السحر والحيرة والغموض
المثير وابداع الكاتب في خلق عوالمه المؤطرة (لموضوعته) المختارة
والمنتقاة بحرفية القاص – وكما يبدو لا يجد صعوبة في تصيد الاطر
والشعاب والمقتربات والمفاصل والمديات والافاق - صوراً وملامح وروحاً
وكلمات – مما او بما يغني (موضوعته) ويمنحها حياة متنفسة بقوة مقنعة
ومقبولة لدى المتلقين – القراء – حتى وهي في اشد حالاتها غربة وتغريباً
.. وفي (سيول الكلام) ص 39 اهتدى القاص (لموضوعة) انسان بسيط مستلب
مهزوم, ظل واصر على الصمت سنيناً, لكنه حصل من هذا الصمت على شيء من
انتباهة الاخرين واهتمامهم بفضولهم وحيرتهم وبحثهم وبالحاح عن سبب (صمته)
المعاند, لكنه – وعندما قرر ان يتكلم – صار يهدر بسيول من الكلام, وهو
بهذا السيل من الكلام – بعد ان كان سابقاً يرفض الاجابة بكلمة واحدة عن
أي تساؤل او سؤال – قد انهى وحل للأخرين مشكلة صمته, لكنه خسر – وما
اقسى خسارته – ذلك الاهتمام به عندما كان يعيش حياة الصمت, اذ بدأ
الاخرون يهملونه وينصرفون عنه لاطول هذره ما اجمل هذه (الموضوعة) التي
سجلت للقاص حسن الاختيار ..
ثم ( نتوء الشيطان ) ص 45 وقد احسست بـ (شكوري) المتهم
بالجنون والمبتلى – كما يقال بنتوء شيطاني في رأسه – احسست به وتمثلته
عنصراً ووجودا حياً متوثباً امامي برقصاته واغانيه مع الاطفال, وبتلك
العلاقة الدافئة الغامضة التي تربطة بالمرأة زكية, ولم يكن (شكوري)
امامي – مخلوقاً كارتونياً جامداً وحتى ان نحرك فببلاهه وكما تقرأ على
امثاله من المجانين والبهاليل في كثير من القصص المشابهة, اتخيله في
الغرفة التي حجزه وحجره فيها ابوه, ثم هذا الاب الهادئ الانيس المفجوع
بولده المريض وبالأتهامات الظالمة من ميتي الضمائر وقساة القلوب .
ان (شكوري) هو السبب في موت الاطفال في وقت يؤكد فيه الاب وزكية
الاخطر منه, بل هو المنقذ لذلك الطفل الذي سقط في فوهة احد المجاري ,
ولكن لا احد يستمع إليه او يصدقه, فغريزة الشر والانتقام والحقد وسواد
الكراهية عند هؤلاء كانت هي الاقوى والتي سببت افداح الحزن والضرر
والاذى لشكوري وأبيه ..
وفي ( رائحة الاب ) ص61 (ثيمة) العلاقة الروحية العميقة الآسره بين
طفل وابيه, واذا كانت مثل هذه (الموضوعة) قد عولجت عبر قصص كثيرة
لاخرين, فان سحرية المعالجة وعمق الفهم والتحسس بهذه العلاقة – وعند
القاص وفي الحياة – وبالأسلوب الانسيابي التلقائي الشفاف كموسيقى
دافئة حنون, قد ارتقى بها القاص لخصوصية متفردة مميزة .. و (تفاحة
الخيال) موضوعتها صغيرة بسيطة وهي حلم الوصول والحصول على التفاحة
الحمراء – ورغم انها – التفاحة – تبدو من صنع خيال جامح ملتهب – وقد
تكون وهماً – فان وصف الالم والشوق والمعاناة والاصرار على نيلها, ثم
وصف الشجرة والتفاحة هو ما جعل للقصة طعماً ونكهة هما احلى مذاقاً
واذكى رائحة من تفاحة حقيقية ..
وعندما نمبلغ قصة (خديعة الماء) ص 77 وهي قصة تتشكل ايضاً من نغم
الشعر وجمالياته لا نرى فيها ( ثيمة ) واضحة معلنه, غير هذا التوق
والعطش إلى الماء ظل سراباً مخادعاً متلوناً في اكثر من مظهر وشكل
وصورة وسيمياء, لكن القاص رغم بساطة الثيمة خلق منها موضوعاً يصلح للقص
مؤطراً ومغموراً بهذا النفس الشعري المتناغم مع موضوع القصة وعندما نصل
إلى (تناسل الأسوار) ص 81 نجد ذلك الوصف المتفتح المزدهر المنبسط
والمتدثر بأقسى الحالات الحياتية وارقها لأنسان عذبته هذه (الأسوار
والجدران) التي تفصله عن الآخرين بصرامتها وثقلها وقل شروطها وأحزانها
واذاها وحتى لو كانت هذه الجدران بينه وبين اقرب انسان إليه: زوجته
فهذه القصة هي قصة (الاضطراب) الروحي والواقعي والنفسي الممزق والمعذب
للأنسان وربما القاص وهو يواجه عدوه في علاقة باردة غير متكافئة مع
الاخرين وقد نستذكر أو نتذكر عند قراءة هذه القصة المقولة الشهيرة
لسارتر التي لخص فيها فلسفته الوجودية التي راجت في خمسينيات القرن
العشرين وستينياته( الجحيم هو الآخرون) ومن( باقة الورد) ص95 قطف
القاص(ثيمته) الصغيرة المحببة من عطر مميز فواح لرجل في قاعة زهور وقد
طغت رائحة الرجال واخمدت كل روائح الازهار وانهى الكاتب قصته بموقف
فأجابه الجميع عندما اختار الرجل اجمل( باقة ورد مركونة في مكان منفرد
) مرتفعة الثمن ليقدمها إلى البائعة الشقراء الجميلة وبعد ان اعطاها
الثمن واراد المغادرة نبهته البائعة انه قد نسي اخذ الباقة فأجابها وسط
دهشة الحاضرين وبصوت واثق هادئ: (انها لك يازوجتي المتألقة) وخطا خارجاً
...
واخيراً ترسو المجموعة القصصية المزدهرة (كائن الفردوس) للقاص على
حسين عبيد عند (فضاءات الوهم) ص 99.. قصة ( الفانتازيا الواقعية) وبهذه
(الفضاءات) المرسومة من القاص بهندسة ومعمار متناسقين متآلفين متوحدين
رغم تلون هذه الفضاءات وظاهر اختلافها, وبقصة التوأم والمرأة الفردوسية
المشتهاة كأمنية عذبة ولذيذة .. كل قصص المجموعة كانت متوازنة متقاربة
في مستواها الفني, وقد فاقتها هذه القصة بالوصف الأخاذ للمدينة والحياة
بذلك التنقيب والكشف السيكولوجي لما في النفوس والدخائل من مشاعر
مخبوءة مستورة, اضاف لما في السطوح الظاهرة من وشم واشارات ودلالات .
( كائن الفردوس ) مجموعة قصصية اقتنصت والتقطت واصطادت اكثر
(الثيمات) اهمية وحيوية في حساسيتها الحياتية والانسانية وقد منحها
القاص من دفء اسلوبه الشعري الرائق وسحره وعمق رؤيته وتنوع تقنياته
وخصب ذاكرته ما يؤهلها لان تدفع بالقصة القصيرة العراقية إلى شوط اكثر
تقدماً وثراء ورحابة ووعياً وجمالية ... |