صناعة الأفكار

بقلم/باسم البحراني

مقدمة:

        إن التزامنا بإحياء مناسبات أهل البيت عليهم السلام لهو من تلك البركات التي لا يعلم فضلها ومقدارها إلا الله، وذلك لأنهم عليهم السلام نور، فنحن نقرأ في الزيارة الجامعة: "كلامكم نور وأمركم رشد ووصيتكم التقوى وفعلكم الخير.."، فكلما اقتربنا من هذا النبع الصافي كلما ازددنا نوراً وضياءً ومعرفة وهدى وتبصراً بالحياة، وكلما ابتعدنا عنهم كلما ازددنا ظلمةً وجهلاً، ومن هنا ينبغي علينا أ، ننفتح على كلام أهل البيت عليهم السلام، ونتدبر فيه لاستخلاص البصائر، وأظن بأنا لم نستفد للآن تلك الفائدة المرجوة من كلامهم وحياتهم الشريفة، بل إن معرفتنا في كثير من الأحيان لا تعدو كونها معرفةً ضحلة، يشوبها الكثير من النواقص والثغرات، لذا نحن مدعوون إلى تجديد هذه المعرفة وتركيزها، ليتشكَّل لدينا (المنظور/المنظار) الذي يساعدنا على إعطاء رؤيةٍ ناضجة لما يحتدم حولنا من أفكار وتيارات فكرية وثقافية، قد تقتحمنا عنوةً دون إذن، ونقبلها دون تأمل أو مدرك متين نستند إليه، وهذا ما يؤدي بنا على المدى البعيد إلى تشكيل رؤية غير متجانسة وغير منسجمة مع القيم التي كنا نؤمن بها.

من هنا ينبغي أن يكون تعاملنا مع مناسبات أهل البيت أكثر وعياً وبصيرةً حتى نجني الثمار المرجوة منها، فأسلوب الإلقاء والتلقين ما عادت تجدي في زمن الفضائيات والانترنت، بل لابدّ من أن يتحول إحياء مناسبات أهل البيت إلى منتديات وملتقيات يتفاعل فيها الجيل الشاب مع ما يطرح على طاولة البحث من أفكار، خاصةً إذا كان المطروح متعلقاً بهذه الفئة من المجتمع...

        صناعة الأفكار..

        لو تأملنا في كل ما يجري حولنا من أعمال أو مشاريع أو لجان أو... نجد أنها كانت في البدء فكرةً أسس لها أحدهم، ووجدت لها من يتبناها لتصبح فيما بعد إنجازاً ناجحاً يصفق له الآخرون، وهكذا كانت دائما حياة أهل البيت مليئةً بالعطاءات الفكرية والإنجازات العملية، ولذلك كانوا هم دون سواهم المؤهلين لقيادة الأمة، فهذا الإمام الباقر عليه السلام والذي نعيش هذه الأيام ذكرى استشهاده عليه السلام استطاع بنفاذ بصيرته وبعد نظرته أن يخلِّص الأمة من شر تحكّم الأعداء بمقدرات الأمة والسيطرة على نظامها الاقتصادي والمالي، وذلك حينما أراد الروم ومن خلال تحكمهم بسك العملة، حيث كان المسلمون يستخدمون العملة الرومية، على استقلال المسلمين، ولأن أهل البيت هم "ساسة العباد وأركان البلاد" الذين يُلجأُ إليهم في كل شدّة لجأ الحاكم الأموي إليه طالباً من الغوث، لحل هذا الإشكال، فما كان منه إلا أ، اقترح عليه إنشاء نظام مالي مستقل، وذلك من خلال وضع عملة إسلامية في البلد الإسلامي تدفع عن المسلمين تحكم الأعداء بهم، فلا يكونون مرهونين لهم...

هذه الفكرة التي قدّمها الإمام الباقر عليه السلام قد نراها اليوم بسيطةً وبديهيةً ربما، إلا أنها كانت في غاية التعقيد، وربما لو تأملنا قليلاً لوجدنا أ، الكثير من البلاد الإسلامية اليوم تعاني من أشباه هذه الإشكالات فيما يتعلق بتعاملاتها الاقتصادية، فمن المعلوم بأن الاقتصاد لا ينفصل هذه الأيام عن السياسة بحال، فمن يكون قوياً اقتصادياً يمكن أن يفرض نفسه سياسياً، هذه هي المعادلة اليوم، فالقوة للاقتصاد، والحل هو أن تخطط لتشكيل نظام اقتصادي قوي مبني على أسس متينة، مكتفٍ قدر المستطاع على مصادره الذاتية.

 (في النصف الثاني من شهر يناير من العام 2003م، وقبل ذهابه إلى منتدى دافوس الاقتصادي تحدث في بيروت رئيس الوزراء الماليزي السابق محاضير محمد عن تجربة ماليزيا في النهوض والتنمية، ومن الملاحظات اللافتة في حديثه قوله بأن الماليزيين شعروا بالنقص في عهد الحكم البريطاني، فاعتقدوا بأنهم لن يستطيعوا أن يكونوا أكثر من فلاحين أو صيادين. ولن يصبحوا مهندسين وتقنيين ماهرين إلا إذا اكتسبوا بعض الثقة بأنفسهم، وبدون هذه الثقة لن يكون التصنيع ممكناً. وعلى هذا الأساس عمدت الحكومة الماليزية إلى تغيير ذهنية الناس وزرع الثقة في قدراتهم. واعتمد شعار لإقناع الماليزيين بأنهم يمكنهم القيام بأي عملٍ يقوم به أي شعب آخر. هذا الشعار هو (ماليزية قادرة) وبإمكاننا القيام بأي عملٍ إذا توفرت لدينا الإرادة والاستعداد للتعلم. وهكذا تشجع الماليزيون على القيام بأعمالٍ لم يحلموا بإنجازها من قبل)[1] في فترةٍ وجيزةٍ، حتى عُدّت ماليزيا من نمور آسيا المتحفزة إلى الانطلاق والتقدم. هكذا تصنع الأفكار المتنورة بأهلها، فإشاعة فكرةٍ واحدة تكفي لنهضة أمةٍ بأكملها، كما نجد الكثير من الأحداث على مستوى العالم تجد لها أصداء وانعكاسات واسعة متناغمة معها، كفكرة (صدام الحضارات) التي أطلقها صموئيل هنتنجتون في أوائل التسعينات ثم ها نحن نلاحظ تموجات هذه الفكرة على مستوى العالم من خلال السياسات التي تتبعها الإدارة الأمريكية، فهذه الفكرة التي تقوم على أن الغرب المسكون بهاجس أنه لا بد له من أعداء وفي مقدمة الأعداء الذين اختارهم بعد انهيار الإتحاد السوفييتي هم المسلمون، ولذلك نرى ما نرى. فهذه السياسات والمشاريع قائمة على فكرة أيضاً، كما أن نهضة الغرب قامت على جملة من الأفكار والفلسفات التي أطلقها مجموعة من الفلاسفة، فصنعوا بذلك الحضارة الغربية الحديثة.

        من هنا أريد أن أقول إن الاهتمام بصناعة الفكرة لا يقل أهميةً عن إنجازها وتطبيقها على أرض الواقع، بل لولا هذا لما كان ذاك.

        ولهذا نجد أن المجتمعات المتقدمة تهتم اهتماما كبيراً بهذه المسألة الحساسة، ولذلك ترصد لها الميزانيات الضخمة والموارد البشرية الهائلة لعلمهم بأن النجاح والتقدم يبدأ من هنا، فتر مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية منتشرةً ومهيأةً بكافة الوسائل والإمكانات اللازمة.


[1] نحن والعالم، من أجل تجديد رؤيتنا إلى العالم، زكي الميلاد، مؤسسة اليمامة الصحفية، الرياض، ط1، 1426هـ، ص190.

شبكة النبأ المعلوماتية -الاثنين 9/كانون الثاني/2006 -  8/ذي الحجة/1426