وظيفة مجلس خبراء القيادة، حسب الدستور الإيراني هو إنتخاب القائد،
وتستمر دورة هذا المجلس ثمانية أعوام. الدورة الثالثة لمجلس خبراء
القيادة على وشك الإنتهاء، وبعد أقل من عام ستجرى (الإنتخابات) الرابعة
لتعيين الأعضاء الجدد، رغم وجود أصوات تطالب بتأجيل إجرائها لوقت غير
محدد، ولكن سواء تم إجراؤها في الوقت المقرر أو لم يتم، فقد بدأت
المنقاشات فيما بين التيارات داخل نظام الحكم الايراني حول مفهوم "الجمهورية"
ودوره في "الحكومة الدينية".
عادة في إيران وعلى أعتاب إجراء أي (إنتخابات)، تبدأ المناقشات
الساخنة والبحوث الحامية حول دور الشعب والمشروعية التي يعطيها الناس
للحكومة والنظام، لكن هذه المناقشات والبحوث تنعقد من دون أن تصل إلى
نتيجة، وتنتهي مباشرة بعد إجراء (الإنتخابات)، وتدخل في محاق النسيان.
والدليل على عدم وصولها إلى أي نتيجة، وإستمرار النقاش الدائم قبل
أية (إنتخابات) حول دور الشعب في إعطاء المشروعية للنظام الحاكم على
إيران، يرتبط بالنمط الفكري الذي وضعه السيد الخميني مؤسس نظام "الجمهورية
الإسلامية" كمبنى للحكومة.
السيد الخميني وعلى خلاف رأي سائر فقهاء الشيعة كان يعتقد أن حق
الحكومة على المجتمع الإسلامي في عصر غيبة الامام المهدي المنتظر، هي
منحصرة فقط في "الفقيه الجامع للشرائط"، والمسلمون بناء على واجبهم
الديني، يعتبرون موظفين على تأسيس هذه الحكومة.
لقد طرح الخميني هذه النظرية تحت عنوان "ولاية الفقيه" في نهاية عقد
الستينات من القرن الماضي حينما كان منفيا إلى النجف الأشرف لتلامذته
في درس بحث الخارج.
وقد نشرت سلسلة هذه الدروس فيما بعد في كتاب تحت مسميين "الحكومة
الإسلامية"، و"ولاية الفقيه"، لكن السيد الخميني خلال هذه الدروس لم
يذكر شئ عن دور الناس والشعب في إعطاء المشروعية لحكومة الفقيه.
مع ابتداء الأحداث والإضطرابات التي أدت إلى قيام الثورة الإيرانية
عام 1979، كان الخميني وفي خطاباته الحماسية و بياناته الثورية لا
يذكر شيئا عن نظرية "ولاية الفقيه"، و كان يكتفي بإلقاء آرائه حول
النظام السياسي الذي كان يرغب فيه، بشكل عام وكلي.
بعد إنتصار الثورة أيضا طالب زعيم الثوار من الناس أن يشاركوا في
إستفتاء و يصوتوا على "الجمهورية الإسلامية دون كلمة زيادة أو كلمة
نقصان". وأيضا في هذه الفترة لم يذكر شيء عن "ولاية الفقيه".
و في الحقيقة إن هذه النظرية طرحت عمليا لأول مرة بعد تأسيس مجلس
الخبراء لتدوين الدستور للنظام الجديد في 10 أكتوبر 1980 وذلك حينما
دار نقاش حاد داخل المجلس حول "ولاية الفقيه"، فتدخل الخميني وأعلن
بصراحة دعمه القاطع لنظام ولاية الفقيه.
سارت الأمور في مجلس الخبراء وبعده وفقا لمبتغى السيد الخميني،
وأصبح نظام ولاية الفقيه حاكما على إيران. لكن مع بروز بعض الخلافات
بين رجال الدين الحاكمين في فترة إجراء (إنتخابات) الدورة الثالثة
لمجلس الشورى الاسلامي، وقف مؤسس النظام بجنب رجال الدين الشبان الذين
فازوا في تلك (الإنتخابات)، وكانوا معروفين آنذاك بجناح اليسار.
في تلك الدورة كان مجلس صيانة الدستور الذي كان يمثل الخط التقليدي
لرجال الدين الذي عرف بجناح اليمين، كان له تفسيره الخاص لفهوم
"الجمهورية الإسلامية"، ومن خلال هذا التفسير كان يريد أن يمنع رجال
الدين الجدد والحركات اليسارية المتحالفة معها أن يجلسوا على مقاعد
البرلمان، لكن الخميني أعلن "إن المجلس على رأس كل الأمور"، و"الميزان
هو رأي الشعب" فوقف أمام مجلس صيانة الدستور الذين كانوا منصوبين من
قبله، واتخذ موقفه منهم.
إن العبارتين التي قالها السيد الخميني عن أهمية رأي الناس ومكانة
المجلس، أصبحت بعد وفاته محل إستناد التيار المسمى بـ"خط الإمام" وهو
نفسه جناح اليسار سالف الذكر، ومن هنا كانوا يتمسكون بها من أجل
المقاومة أمام رجال الدين المحافظين الذين صبوا كل جهودهم لحذف الخط
المذكور من الساحة السياسية وإزاحته عن السلطة.
و من هنا أصبح النقاش حول دور الناس في نظام ولاية الفقيه، من أكثر
النقاشات سخونة في النظام السياسي الإيراني، و بقدر ما كانت تزداد
الصراعات بين التيارات داخل نظام الحكم، كان البحث المذكور أيضا يشتد
حدّة، وكانت ذروتها ظهرت في النهضة الإصلاحية التي حصلت بعد إنتخابات
الثالث والعشرين من أيار 1997.
و في الحقيقة أيضا إن تلك الفئة من أتباع الخميني التي ترغب في
تفسير ديموقراطي لنظام ولاية الفقيه، تصر على هذا الأمر: "إن تأكيد
الإمام الخميني على (جمهورية) النظام الإسلامي، يدل على إعتقاده
بالديموقراطية و آراء الشعب بإعتباره ركن النظام". حزب "جبهة المشاركة
الإسلامية" بقيادة محمد رضا خاتمي شقيق الرئيس السابق، كان يتصدر هذا
الفكر.
وهنالك فئة أخرى من أتباع الخميني أيضا وضعوا أنفسهم في التيار
الإصلاحي يرون أن "الجمهورية"، و "الإسلامية" للنظام لها قدر واحد من
الأهمية. حزب "الإعتماد الوطني" بقيادة مهدي كروبي من إحدى المؤسسات
التي تدعي ذلك.
وفي مقابل هاتين الفئتين، هنالك رجال الدين المحافظين والمؤسسات
المرتبطة بهم الذين يرون إن آراء الشعب آنئذ تكون محترمة حينما لاتعارض
أحكام الدين (وأحكام الدين تعني تفسيرهم الخاص عن الدين في نمط إدارة
الحكم، و سن القوانين حسب آرائهم التي يسمونها بالقوانين الدينية)،
ولذلك يطرحون دائما كلمة "الإسلامية"، ويقولون إن عارضت الجماهير
قوانينها حينئذ لا دور للـ"جمهورية".
هذه الفئة تعتقد أن دور النظام هو دور المرشد والقيِّم للناس، وعليه
أن يهديهم و يرشدهم إلى الطريق الذي يتطابق مع النظام (الديني)، من هنا
لايوجد أي حق في الحكم لأولئك الذين لا يسيرون وفق منهجهم (الديني).
وأحيانا يُعبِّرون عن مفهوم "الجمهورية" بـ"جمهورية المؤمنين"، أي إن
الإحترام والإعتبار يكون لأصوات مؤيديهم فقط.
وهنالك فئة أخرى من المحافظين تعارض أي مفهوم من مفاهيم
"الجمهورية"، و تعتقد أنه لايوجد في فكر الخميني شئ بإسم "الجمهورية" ،
و أنه بناء على بعض المصالح ومن أجل أن يمتنع الغربيون من الطعن في
نظامه، إضطر أن يضع تركيبة "الجمهورية الإسلامية"، ولكنه بالأساس لم
يعتقد بها.
بإعتقاد هذه الفئة أن الخميني في الأصل يعتقد بحكومة إسلامية تنفذ
أحكام الشرع دون الإهتمام بآراء الناس و أصواتهم، لذلك حينما إنتهت
المصلحة اللازمة لإعلان "الجمهورية"، لابد أن يحذف ذلك، و أن يعلن
النظام السياسي في إيران بإسم "الحكومة الإسلامية" بدلا عن "الجمهورية
الإسلامية"، وهذا ما طرحه بعض المحافظين خلال فترة حكومة خاتمي، و في
الحال الحاضر بدأ محمد تقي مصباح يزدي الأب الروحي لأحمدي نجاد
والمحافظين المتشددين الجدد مع أتباعه يتصدون لتنفيذ هذه الفكرة وأعلن
محسن غرويان تلميذ مصباح يزدي ذلك بصراحة قائلا: "إن النظام الذي كان
يريده الإمام الخميني لم تكن جمهورية، و إنما حكومة إسلامية".
بناءا على هذا يبدو أن البحث المذكور حول تبيين نسبية "الجمهورية"،
و"الإسلامية" للنظام الحاكم على إيران، أكثر من أن تكون بحوث نظرية
وفكرية، إنما هي سياسية تدور بين الفئات التابعة لمدرسة الخميني.
وفي الحقيقة إن هذه الفئات بدل أن تطرح آراءها بإستدلال علمي أو
منطقي، تسعى أن تطابق آراءها مع رأي الخميني، وهذا الأمر يؤدي من
جانبين بالحيلولة دون طرح أي بحث حر.
من الجانب الأول، خلال هذه البحوث تعتبر آراء الخميني "معيار الحق
المطلق"، و لا أحد يتجرأ في نقد آرائه. ومن هنا يخرج البحث من إطاره
العلمي و يكون مجرد محرك بحث في خطابات وآراء الخميني فحسب.
الجانب الثاني، أن الخميني وكمثل أي قائد سياسي آخر طوال حياته قد
عبَّر بآراء مختلفة، و من رؤية محايدة، إن هذه الآراء لم تكن منسجمة
ومتفقة مع بعضها، وفي كثير من الأحيان تحمل تناقضات كثيرة.
لذلك فإن كل فئة تحاول أن تبحث تلك الآراء التي تتطابق مع إنتمائها
السياسي الذي تريده وتدعمه، و تفسر آراء السيد الخميني حسب ذوقها الذي
ترغب فيه. لكن بما أن التشكيك في إنسجام آراء وأفكار الخميني يعتبر ذنب
لايغتفر في إيران، لذلك أُغلق باب الدخول في أي بحث علمي قبل الشروع
فيه.
هذا إضافة إلى أن تحليل نسبية "الجمهورية" و"الإسلامية" في نظام
ولاية الفقيه، يواجه من حيث المفهوم مشاكل أخرى، لاتستطيع هذه الفئات
المتنافسة من الإشراف عليها.
من إحدى هذه المشكلات هو بحث مفاهيم "المشروعية أو الشرعية"
و"المقبولية"، و التي سببت سوء تفاهم كبير في المجتمع الإيراني.
إن أغلبية مؤيدي نظام "الجمهورية الإسلامية"، ترى أن مشروعية النظام
بـ"إسلاميتها"، و مقبوليته مشروطة بآراء الناس، في حين انه أساسا
لايوجد معنى واضح للتفكيك بين المشروعية والمقبولية في نظام سياسي، و
حسب الظاهر إن سوء التفاهم المذكور حصل بعد ثورة الدستور في إيران في
القرن الماضي بين المفكرين الدينيين.
في ذلك العصر، ظهر أمام مصطلح legitimacy الغربي الذي كان يعني
شرعية حكومة ما، ظهر مصطلح "المشروعية" والتي كانت لاتعني في الفارسية
والعربية إلا معنى "التطابق مع الشرع"، من هنا فان معنى مشروعية النظام
السياسي كانت تعني بإنطباقها مع الشرع، ولا ارتباط لها برأي المجتمع.
لكن بما أن آراء الناس كانت لها مكانتها في فكر رجال الدين المؤيدين
لثورة الدستور، وضعوا و بإبتكار من الميرزا حسين النائيني مصطلح
"المقبولية"، لكي يوصلوا فكرهم ومبتغاهم من حاجة النظام السياسي إلى
أصوات الناس بشكل أفضل.
هذا في حين أن مقبولية أي نظام سياسي أساسا هو الذي يعطي المشروعية
أي صفة القانونية للنظام، و من هنا فإن المشروعية والمقبولية وجهان
لعملة واحدة, وليست متفككة.
وفي واقع الحال إن هذه المشكلة في المفاهيم أدت إلى مشاكل أخرى في
تبين مفهوم "الجمهورية" في النظام الإيراني.
بعبارة أخرى إن مشروعية الأنظمة السياسية الديموقراطية تأتي من خلال
أصوات الناس، لكن لو فُسَّرت آراء الخميني بأكثر التفاسير ديموقراطية،
ستكون مشروعية الحكومة لديه على المبنيين "الشعبي والسماوي".
هذين المبنيين لمشروعية النظام السياسي المطروح من قبل الخميني، في
الحقيقة مشكلة، تؤدي بين الحين والآخر إلى صراع بين أتباعه، ذلك لأن
هذين المبنيين إن كانا يعملان في إتجاه واحد سيتولد الإستقرار السياسي،
لكن بمجرد أن تحصل فاصلة أو شقاق بينهما، يتعرض النظام السياسي إلى عدم
ثبات كبير, وهذا ما يتكرر في ايران.
بعبارة أوضح، إن النظام الذي من جهة يرى مشروعيته بواسطة آراء
الناس، و من جهة أخرى بإنطباقها مع الشريعة (المُفسَّرة حسب تفسير
النظام)، يستطيع أن يحظى بالإستقرار والثبات حينما يرغب الناس في تنفيذ
تلك الشريعة، لكن بمجرد أن الناس بأي دليل رغبوا في غير ما يرغبه
النظام السياسي، يحدث إنشقاق بينهم و بين تلك (الشريعة)، ويتعرض النظام
السياسي إلى عدم الثبات والإستقرار، وكلما تعمق هذا الإنشقاق، يتعرض
النظام السياسي إلى اللاإستقرار الأكثر، بحيث يضطر النظام أن يختار من
بين هذين الأمرين: أي إنتخاب الناس، وما يسميه بمسؤوليته الشرعية،
ويضحي بالآخر.
إن مصباح يزدي وأتباعه يعتقدون بصراحة أنه لايوجد أي محل للإعراب
لرأي الناس، ودليلهم على ذلك أنها من الممكن أن تتعارض مع الشرع
(المُفسَّر من قبلهم)، و لذلك قبل أن يكون الأمر متأخرا لابد أن يتغير
النمط والعنوان الحالي للنظام ليتطابق أكثر مع (الشريعة) المبتغاة.
هذا في حين أن المعارضين لهذه الفئة، خاصة أولئك الذين يرون أن
"الجمهورية"، و"الإسلامية" توأمان، لاتوجد لديهم أي رؤية واضحة عن الحل
حين معارضة الناس مع (الشرع) المزعوم للنظام السياسي، ولذلك يكتفون
بهذا القدر: "إن الناس أبدا لا يتخلون عن معتقداتهم الشرعية".
وعلى كل حال يبدو أن أنصار مصباح يزدي يحاولون من خلال إستعدادهم
الكبير للمشاركة في (إنتخابات) مجلس الخبراء المقبلة، أن يحكموا قبضتهم
على النظام السياسي الايراني بشكل تام، كما يبدو أيضا أن النظام
السياسي في إيران يقترب شيئا فشيئا إلى نقطة اللاثبات الأكثر، و في هذه
الحالة قد تظهر فئة أخرى دون هذه الفئات التي تتصارع فيما بينها لتفسير
كلمة "الجمهورية الإسلامية".
* خبير في الشؤون الايرانية |