مسح أولي لثقافة العراقيين

 علي حسين عبيد

لم يكن لي اطلاع فعلي على ثقافة الخمسينيات والستينيات ايضا وقد وعيت هذه الاجواء في مطالع السبعينيات عندما حاول المثقف العراقي والأديب بشكل خاص ان يبني ثقافته على وفق رؤية انسانية متحضرة مستمدة من جذور الثقافة العراقية والعربية الاسلامية والثقافات الانسانية وقد تأسس شيء من هذا القبيل وكان الامل يحدو المثقف العراقي في خلق ثقافة رصينة متحررة لا سيما ان سياسيي ذلك العقد ممن تبوأوا السلطة او ممن تشكلوا  ضمن الاحزاب العراقية المعروفة آنذاك(ذرعوا للثقافة والمثقفين في الجنة) لكن سرعان ما انطفأ وهج الامل وتشكلت الجبهة الوطنية سيئة الصيت واختزلت رؤى وافكار الاحزاب السياسية في مسار واحد وهمشت من حاول ان يشب عن الطوق ثم أقصته وهكذا دخل المثقف العراقي والثقافة العراقية من جديد في معترك الصراع المزمن مع السياسيين وهو يحاول ان يتخلص من الشباك التي نصبت له عن قصد مسبق مما دفع بالثقافة والمثقف متعدد الوجوه نحو التراجع المتواصل صوب نقطة الصفر. 

وكما ذكرت وبعد فبركة ما يسمى بالجبهة الوطنية وبدء مسلسل التصفيات السياسية وصولا الى نهاية عقد السبعينيات عندما ترسخ الفكر الشمولي وتسيَّدت نزعة مصادرة الافكار المضادة ساحة العراق السياسية مدعومة بانعكاسات الحرب العراقية الايرانية التي بدأت مطلع العقد الثمانيني وما وفَّرته من ذرائع للقادة السياسيين ورأسهم في كبح جماح من(يغرد خارج السرب / سياسي او غيره) تحت ذريعة أمن الوطن وحماية الارض والعرض وما الى ذلك من تبريرات قادت بالنتيجة الى تشديد نزعة المصادرة وترسيخ مبدأ السير في اتجاه واحد لا غير الامر الذي انعكس على الواقع الثقافي بوضوح سافر، فمن تراجع الى آخر، ومن كبوة كبرى الى اخرى، والغريب في الأمر ان الادباء والمثقفين الذين اصبحوا فيما بعد من طليعة المعارضين للنظام السابق انهم دخلوا اللعبة السياسية واستمرؤوها وحصدوا ما حصدوا من مكاسب إلاّ القليل النادر من امثال الجواهري رحمه الله الذي لم يسقط في الشباك، ولعل الخطأ الجوهري للمثقف والأديب العراقي يكمن في وعيه المتأخر لما حدث له وللثقافة او صمته عن الخراب تحت الحاح المصلحة الذاتية، فكثير من مثقفي وادباء العراق الذين حملوا راية المعارضة كانوا قد أسهموا بشكل او بآخر في دفع غيرهم الى المصيدة وكلنا يتذكر الهجرة شبه المتواصلة للمثقف العراقي قبل وبعد منتصف التسعينيات، انها الصحوة المتأخرة بل (الصمت المطبق مع الوعي بالخطر) الذي يحدق بالذات وبالثقافة في آن، وهكذا تدنى الحال من ادنى الى ادنى وساءت المؤسسة الثقافية لدرجة ان لا عودة عن الخطأ مطلقا، فالمثقف دخل اللعبة السياسية من اوسع ابوابها، انها المتاهة التي يعي مهالكها تماما، ثم بدأت هذه الابواب تُغلَق رويدها بعلمه او بلا علمه وفي كلا الحالتين لم يعد ثمة مخرج ، فأما الصمت المؤدي الى الموت الفكري والثقافي واما التمويه والمراوغة على خجل، وأما الهروب الى المنافي وهذه لم تعد نافعة ايضا، فكل ما ستفعلة كأديب او مثقف هو الفرار بجلدك لكي تتضاعف سطوة الخراب على من تبقّى في دوامة الجحيم العراقي التي لم تتوقف ولو لمجرد سحب الانفاس ، أما الذين تحدثوا عن البدائل كترويج كتب الاستنساخ او ما كان يجري في الخفاء من مضادات اخرى فانها لم تشكل مصدّا مهماً لسيول الخراب التي اجتاحت كل شيء، لقد بدأ الخطأ وومض  حريق الخراب عندما وعى المثقف خطورة المنزلق الذي يسير اليه ولم يفعل شيئا لنفسه او لمن سيجيء بعده، كلهم او اغلبهم كان ساهيا ومنجرفا مع الغنائم التي (عليه) ان يحصل عليها قبل غيره او اكثر من غيره ومن تلا هؤلاء المثقفين فعل الشيء نفسه(لأن الأمراض الثقافية تنتقل بالوراثة) وهكذا صار المثقف والاديب والفنان سلعة تشترى وتباع بمال السلطان الذي هو مال الشعب ومنه المثقف بطبيعة الحال، ان الكلام عن عقود الانحطاط السياسي بمؤازرة الثقافي يفتح الف جرح وجرح ولا يقود الى الشفاء او الى صنع ثقافة عراقية جديدة، وما يحدث الآن من مصادرة للمثقف والثقافة ومن تداخل مرعب في الادوار ومن لهاث مخزي وراء السياسي قد يبقي المشهد الثقافي في مرحلة الانحطاط الى أجل لا يعلمه إلاّ المثقف نفسه!!!.

يبدو انني مغرم (بالتكرار) ومع ذلك، حين نسأل عن عودة الثقافة الى ما كانت عليه اي بمعنى انها كانت مزدهرة، ولكن متى ازدهرت الثقافة العراقية؟ في أي عهد؟ ونحن هنا نستمد الكلام من صفحات التأريخ الحديث وليس من منشأ معايشة الواقع، هل ازدهرت في العهد الملكي ام في جمهورية عبد الكريم قاسم أم في عهد من تلوه من الجمهوريين؟ ألم تكن تلك السنوات مليئة بالاضطراب السياسي والاجتماعي والثقافي؟، نحن كأدباء سمعنا وما نزال نسمع بالجيل الستيني وتعلمنا بأنه نتاج واقع سياسي مضطرب متداخل ينطوي على نزعة رافضة، وجودية، تبحث عن الجديد لطمر القديم، وترى في التجريب سبيلا الى خلق ادب وثقافة عراقية متحضرة تندمج مع ثقافة الآخر ولا تذوب فيها، اذا كان مشهد الثقافة العراقية الستينية يعد مزدهرا فما الذي تمخض عنه في نهاية الأمر، واذا كان الجيل السبعيني نتاجا انعكاسيا له، فما الذي تمخض عن الجيل السبعيني أيضا، انها ليست استنتاجات سوداوية وليدة الضغوط الراهنة او التي سبقتها ولكن هذا هو واقع التاريخ والحال في نفس الوقت، ان اساس الثقافة العراقية الحديثة وبضمنها الادب اساس بالغ الهشاشة ولذلك وقعنا جميعا في المصيدة ، فلعاب الجميع (إلاّ ما ندر) كان يسيل من اجل ان يحصل على لقمة اكثر دسما من لقمة غيره، وهذا ما قادنا الى الجيل الثمانيني الذي كتب مئات الاطنان من الورق تحت بند الأدب التعبوي، والحفاظ على ارض الوطن، قلة هم اولئك الذين تجنبوا الوقوع في فخ أدب الحرب ومنهم حميد المختار وعبد الستار البيضاني وحسن متعب الناصر، ولكن(ما الفائدة اذا كان المبخِّرُ واحدا والتسعة الآخرون يطلقون الغازات الفاسدة في فضاء الثقافة العراقية؟!!) والأدهى من ذلك سقوط الاجيال كلها في فخ الادب التعبوي وخاصة من يتقدمون الركب من الستينيين وغيرهم!! ممن تورط وورط الآخرين معه بعد ان مهد الطريق (في تقبل هبات وهدايا السلطان)ثم فرَّ الى أرض الله الواسعة عملا بالآية الكريمة (واسعوا في مناكبها) مخلفا وراءه حشدا من المتورطين او الصامتين او المموهين وقلة من المعتقلين .

وخلاصةً.. أقول ان ما سيتمخض عنه الوضع الجديد في ما يخص الثقافة والمثقفين سيبقى مرتبطا بجذور الثقافة العراقية الحديثة وما يتداخل معها من شوائب في الواقع العراقي إجمالا ويبقى الزمن واستنباط الدروس من الاخطاء هما المعبر الوحيد للمثقف العراقي وثقافة العراقيين نحو عصر ثقافي جديد مختلف يخلو من الخوف والتزلف والمراءاة وعبادة السلطان السياسي بعد عبادة مصلحة الذات.

alihubeid@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية -الثلاثاء 3/كانون الثاني/2006 -  2/ذي الحجة/1426