قراءة في كتاب: إستلهامات/ شريعة النواب

الكتاب: شريعة النواب

المؤلف: حسن النواب  

الناشر: دار الزاهرة للنشر-رام الله

الطبعة:الأولى – فلسطين - 2001

قراءة: علي حسين عبيد 

   

      تتطلب الكتابة عن شعر حسن النواب تنقيباً في المنحى الذاتي الشمولي الذي استثمره في حفر قصائده واستولدها من رحم تأريخه العائلي المعفَّر بالبذخ والأمجاد  وحاضره العابق بوقائع يومية تغصّ بالجوع والنكد.

      ويرى أحد النقاد العرب ان ( ثمة أزمة إنتماء روحي ) عصفت بالشاعر فأسهمت في صياغة وتميّز قصائد ( شريعة النواب ) عن غيرها، لكنني أرى ان الجانب الأكثر اهمية -الذي أغفله كثيرون – ينحصر بلغة شعرية تشير الى الشاعر حصراً وبتجربة ذاتية شمولية لها طابع الأصالة والخروج عن النسق المتماثل للتجارب الاخرى.

   ان الشاعر كما يقول – رامبو- يجب ان يصبح ( رائياً / وسارق نار ) وفي هذا الصدد أذكر وصفاً يتعلق بقصيدة النثر لحسن النواب جاء في احد اللقاءات التي أجريت معه قال فيه ( ان قصيدة النثر هي محاولة لرسم الهواء.. أي رسم اللامرئي.*) ولذا تبدو لنا قصائده بمثابة ( أداة بحث روحي لبلوغ المجهول أو المطلق.**)وهو يؤكد ذلك عندما يقول في قصيدته المطولة – أغواها بعنايته ..فتعطلت أجنحتها- الواردة في  كتابه الشعري موضوع هذا المقال ( الشعر ذاكرة وتأريخ متخيل .. تدوين لما هو مستحيل).

    ولكن هل يمكن للشعر ان يقدم لنا مدوَّنة مقبولة ووافية عن المستحيل/ المجهول/ المطلق ، واذا تعلق الأمر باليومي المعيش ،فما الذي بوسع الشعر انجازه، وبأية لغة سيتخطى الشاعر ذلك البون الشاسع بين ما هو واضح وملموس وبين ما هو مغلق غامض وخفي او لامرئي !!.وقبل الأجابة التي ستأتي في السياق القادم.. ثمة استلهامات وظَّفها الشاعر في تدوينه الشعري يمكن حصرها باللآتي:

    أولاً: إستلهام الأرث الذاتي..                                                                                          

         تندرج ضمن هذا التوظيف أهم قصائد شريعة النواب إبتداءً من القصيدة المفتتح ( قصر الخورنق ) ثم تتوالى القصائد التي استلهمت إرث الاجداد الغائب في بطون التأريخ والحاضر بكل بهائه وقسوته وتضارباته في روح الشاعر وقلما تخلو قصائده من سيل شعري او جملة او حتى مفردة تنوّه بجانب من جوانب هذا الارث الذي اثقل كاهل حسن النواب وابهجه حينا وأدمى قلبه في احيان ، وعندما اقول ان ثمة تفرداً في التجربة الذاتية للشاعر فان ذلك سيتعاضد مع موهبة متدفقة ولغة نافرة ساخطة متأججة تكابد من اجل تمثُّل هذه التجربة التي وزَّعتْ إشاراتها الوافية في عموم المشهد الشعري لشريعة النواب ومن هذه الاشارات ( لكنو/ مدينة في الهند يقطنها المسلمون.. راما/ محارب في الملحمة الهندية رامايانا، ردد اسمه –غاندي- قبل ان يفارق الحياة- 14- مرة وأسلم الروح.. الكنج/ نهر مقدس في الهند…الخ) فالشاعر إذاً يتحدَّر من عائلة ملكية وثمة بوح شعري متواتر يشير الى ذلك إذ يقول في قصيدته -إقبال الدولة..عطايا- (هذا اقبال الدولة –جدي- في صفحته الاولى/ اقلبوا ورقاً من جلد الفيلة والثعابين، واقرأوا ..معي في صفحته الاخرى: كانوا ملوكاً / اقبال الدولة/ معين الدولة/ آصف الدولة/ شجاع الدولة… الخ ) وغالبا ما يلقي هذا الأرث الملوكي الباذخ بثقله على واقع حال الشاعر وهو حفيد الملوك الذي (تتنكر له كسرة خبز في الميدان ) كما يرد ذلك في قصيدة - اقبال الدولة - ويظل هذا الحفيد متنقلاً بين امجاد الاجداد محاولاً استغوار الارث الغابر بكل خصائصه المتناقضة رِفعةً وتراجعاً (جدي/ الكون يغار من طقس غرائبه/ يقول للبحر، يأمره/ إلفظ ملح مثانتك للشاطىء / يلفظها مرتبكا ، يـلتـقـطـها –غانـدي – ويحيا الانسان، كان الغيم، والطير،والريح،والشمس، والقمر، البحر،تستأذنه قبل ان تتحرك…الخ/ إقبال الدولة) ويركّـز الشاعر على امجاد الارث فيقول في- اغواها بعنايته –(حين عاد جدي على ظهر فيل .. حجمه قرية في الجنوب /تراجع المغول عن شهوة الدم) على ان هذا التفاخر لا يحد من جرأة الشاعر في كشف الجانب الآخر من خصوصية التجربة فيـقول فـي القصيدة نفسها( إرث من هذا الذي تلوكه لباناً اسنان التأريخ / ويقامر بوهمه رعايا السدنة/ ما الذي ظل من عرش الملوك حتى يتهجاه اللسان ) ويخاطب جده الذي ضـيَّع الـملْك - بجنون ما استحى من سلطان - فيقول له (لماذا خيول الغزاة في المدينة/ وانت في حوض السباحة / يلهو كرشك بين اسراب الجواري… الخ / إقبال الدولة ). إذاً فالشاعر يمتلك – مثل غيره – رغبة التفاخر بالأمجاد لكن ما لا يمتلكه الغير جرأته في قول ما لا يقال حتى لو تعلق ذلك بشخصه وإرثه الحميد .

    ثانياً: إستلهام الواقع اليومي..

يحفل هذا الكتاب الشعري بعدد من القصائد التي اصطدمت بالوقائع اليومية وروضتها بلغة ذكية لاذعة رفعتها من مرتبة – وقائع المفردات اليومية – الى مصاف الشعر لغةً واحداثاً .. فالحدث اليومي العابر يمكن ان يتحول بوسائـل الفـن الى مدوَّنة تنحفر في ذاكرة التأريخ الشعري ، على انها تأتـي من صلب التجربة الذاتية للشاعر ووقائعه اليومية التي سرعان ما يلتقطها ويحيلها الى نصوص توازن بين سطوة هذه الوقائع وجفافها المستديم وبين امكانية التعامل معها وتحمّل ثقلها وتندرج تحت هذه اليافطة قصائد عديدة منها (عروسه منذهلة ونثره يستغيث ، جنينها يحبو وبعلها سيزول ، مؤونة الخريف ، يتملق هلاكه ، الهائمون ، نقصان ، دوّامة منـزلية …وغيرها) لكن التجربة الأعمق والأكثر مرارة هي تلظّي الشاعر بأتون الحروب المتعددة الوجوه بوصفه واحد من أدواتها وضحاياها - أتعرفون لماذا تحبنا الحرب .. لأننا طعامها الوحيد***- واستلهامه لافرازاتها الآنية والتابعة سواء في رحبة القتال او عند التسكع على خرائط الأرصفة ، فلا غرابة ان نقرأ مفردات مثل ( إجازة دورية/ قنـابر / شواء آدمي /جندي/ رمانة يدوية/ سرفات…الخ) وكلها تدخل في تصميم التركيبات اللغوية لتتحول الى نسق تعبيري يسمو بها من معناها العادي المتدنـي ، الى مرتبة الشعر كما نلاحـظ ذلك في قصيدة – شريعة النواب…مخاوف - :

         ( في هذا المنفى ..

          ماكنت أصدق ان الأفعى تبتلع رمانة يدوية لو لا الجوع..

         ما كنت اصدق ان يمام الحضرة يُقتل في صحن الأمام ..

         ما كنت اصدق ان الشعراء وأنا منهم يجترون حبل الكلام..

        ما كنت اصدق ان سماء ثامنة تحرثها القنابر وتصبح حقل رماد..)

 ومن الملاحظ هنا ان لغة الشاعر وهي تعالج مفردات الواقع ستقع بين حدين متقاطعين، فالوضوح وهو الحد الأول يبدو سمة من سماتها وهذا ما يجعلها تواجه مأزق الأنزلاق المحتمل في المباشرة.. لكن الحد الثاني المتـمثل بالجرأة والمغايرة سيتألق بها ويدفع عنها خطر الهبوط الى حافة المتماثل.

     ثالثاً: إستلهام الطقوس الدينية..

          يتمتع حسن النواب بحافظة ألمعية متفردة ، لها قدرة خـزن ربما تتفوق على غيرها بكثير .. فأتاحت له التنقل من إرث الاجداد الملكي .. الى وقائع الحرب والحياة.. الى مطارحة الطقوس الدينية بين حين وآخر وبثّها في متون شعرية على شكل ومضات خاطفة لكنها عميقة مؤثرة وتمتلك صفة الثبات والحضور الدائم.

     ففي عدد من قصائد شريعة النواب يستلهم الشاعر رموزاً كربلائية مستمدة من واقعة الطف فثمة ( السبايا / والكفوف المقطوعة/ والعطش/ والدم/ والجثث/ والتشابيه..وغيرها الكثير ) كلهـا مفردات ووقـائع تأريخية لها اشكـالها الطقسية التي انحفرت في ذاكرة كربـلاء ارضاً وأهـلاً عالجـها الشاعر بلغته الـتي لايقيدها – عرف لغوي – ولا تتحكم بها طبيعة الموضوع المعالَج ولا يفرض عليها الشكل الشعري نمطاً معيناً او مستهلكاً من الكلمات .. انها اللغة ( النوّابية ) اذا جاز القول التي ستظل تومىء اليه حصراً ومع ذلك فهو يصرح للآخرين بجرأته المتفق عليها /خلافاً لما ذهبتُ إليه أنا/ ولعلنا نكتشف ذلك من دون عناء حين تسحبنا شريعة النواب الى متونها فنقرأ في قصيدة – تشابيه – (لالغة عندي ، لاحيلة، لا خديعة ، لادسائس، لا نفائس، لالسان ) ثم يضيف ( وأعوذ بحورية مسبية من غلواء الشعر وغوايته/ وأصلي لربّة او تربة بلا فساد.)والملاحَظ هنا ان الشاعر يروم الأبتعاد عن النبرة السائدة في بناء القصيدة الخاصة بتناول الطقوس الدينية فيقول في القصيدة نفسها (في كربلاء… هالات البرق تدفقت من كوة ديجور بأقصى الغيم/ واهتز خصر الارض من دم الجوع طرباً / المسبية تقف امام القصور وتذكِّر ساكنيها.. إخشوشنوا… فأن الترف يزيل النعم .) وفي قصيدة طقسية اخرى عنوانها- الجثث – يقول (سبحان الذي نـزَّل جنداً بلون المـاس من زرقة عالية/ يتقدمهم سبع بسبعين جناحاً/ وامرأة.. خدرها يختصر عفاف مملكلة النساء، ودليل عليل …الخ ).

    مما تقدم ، حاول حسن النواب بلغة وتجربة خاصتين ان يستنطق التأريخ الشخصي له وربما حاول بذلك ايضا ان يغطي او يخفف من هفوة الأجداد ويدحر مصدّات الواقع اليومي المـزري الذي عاشه بصفة شاعر حقيقية وبصفة انسان معذَّب بواقعه اللاّشخصي المجدب وتأريخ الاجداد الملكي الشخصي الذي لم يرث منه سوى كنوز من الهواء لكن إرثـه الحقيقي الذي بدا واضحاً للعيان هو الشعر والشعر فقط ، فبهِ وحسب تمكن النواب من استدراج الكلام الى عمق الكلام ثم الى حافة الصمت وكما يقول في إحدى قصائده ( نجسٌ هو الكلام ما لم يشطف بماء الصمت )ذلك الصمت الذي هو أبلغ وأجلُّ من كل كلام .


       هامش

      * حوار شعري جمع الشعراء حسن النواب وعقيل علي وماجد عدام وكاتب السطور.

      ** قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا/سوزان بيرنار/ترجمة د زهيرمجيد/دار المأمون  – بغداد – 1993.

     *** من كتاب ضماد ميدان لذاكرة جريحة لحسن النواب.

شبكة النبأ المعلوماتية -الجمعة 30/كانون الاول/2005 -  27/ذي القعدة/1426