كتاب الاديب الفرنسي الراحل جان جولميه عن شارل ديجول كأديب تحول في
نسخته العربية الى كتاب بقسمين الاول عن الرئيس الفرنسي الراحل والثاني
عن جولميه شخصيا.
في خلاصة ما توصل اليه جولميه ان اعمال ديجول التي تركزت على شؤون
الجيوش جاءت "وليدة فكر واسلوب متينين. انها مليئة بشاعرية الفكر..
شاعرية القرن التاسع عشر."
وردا على اي استغراب في هذا المجال اضاف متسائلا "لم يكون العقل -بشرط
ان نحبه وندافع عنه بحماسة- غير قادر على الهام عمل شعري..... لو لم
يجد ديجول في عشقه لفرنسا ولحرفة السلاح سر الارتقاء نحو الانسان ولو
لم يعرف كيف ينفث بالحياة افكاره بقوة الاسلوب لبقي وهو تقني ماهر في
الحرب شريكا محترما لدور نشر" متخصصة في الشؤون العسكرية.
وقال "ففي كتابة ديجول المتكبرة البصيرة يبدو الرجل واثقا من نفسه
كونه متيقنا من ان فكره مهما كانت العقبات التي سيواجهها متنوعة وخطيرة
.. سينتصر في النهاية اذ الفكر يلقى دعم تحالف الحقيقة الذي لا يقاوم."
اسم الكتاب جاء على الصورة التالية "شارل ديجول الاديب..وتحية الى
جان جولميه". وقد ترجمه سهيل شباط الى العربية وراجعه محمد صبح واشرف
على الترجمة ومراجعتها المركز الثقافي الفرنسي في دمشق وصدر عن دار
قدمس في 229 صفحة متوسطة القطع بالعربية و114 صفحة بالفرنسية. ونشر
الكتاب بدعم من المركز الثقافي في دمشق ومساعدة وزارة الخارجية
الفرنسية.
كتب السفير الفرنسي لدى سوريا جان ـ فرانسوا جيرو مقدمة صغيرة
للكتاب متحدثا عن اول لقاء بين ديجول وجولميه فقال ان ذلك حدث في حلب
في شهر اغسطس اب 1941 في اشد الساعات صعوبة من الحرب العالمية الثانية
قبل ان يفرض ديجول نفسه "رئيسا دون منازع لفرنسا الحرة. جان جولميه اذ
كان مديرا للتعليم في (حلب) كبرى المدن الشمالية في سوريا قدم الى
ديجول ولكنه لم يكن يجهله" اذ كان قد قرأ له كتبا هي "الشقاق لدى
العدو" و"حد السيف" و"فرنسا وجيشها" فكان هذا اللقاء استهلالا لكتاب
اصدره بعد خمس سنوات بعنوان "شارل ديجول كاتبا" ثم بعد عشر سنوات اصدر
"مذكرات حرب" وفيه ادرك جولميه "بحاسة مدهشة بالاستباق اي قبل شهرة
الجنرال الادبية والسياسية قوة اعماله وحتمية مصيره."
وتحدث المترجم شباط عن جولميه فقال انه لحبه للتوجه الى سوريا التحق
سنة 1928 بفرقة من الرماة في بيروت وهناك تعلم لغة عربية مختلفة جدا عن
العربية السيئة التي تعلمها في مدرسة اللغات الشرقية والسوربون. ثم عين
في دمشق مستشارا للتعليم العام والتحق سنة 1939 بفرقة سورية مختلطة في
حلب وعلى ضوء قنديل بسبب غياب الكهرباء كتب كتابه الشهير "الارض"
وكتابا اخر هو "رقم القيد" وهما بداية كتبه فكان لهما اثر ايجابي في
ادباء فرنسا. وغادر سوريا ولبنان الى فرنسا عام 1951.
يتحدث جولميه في فصل بعنوان "ديجول والاسلوب الادبي" عن اسلوب ديجول
فيقول ان "الموضوع لا يخلو من الاهمية فانه بقوة العبارة تمكن من
الارتقاء الى مستوى اعمال فنية ادبية بكتابات هي من الهام الاحوال."
وفي حديث جولميه عن كتب الجنرال وبشكل خاص عن مجموعات خطبه بعد ان
تطور اسلوبه يقول "ان ديجول مهما كانت عفويته من حيث الشكل فانه فنان
حريص برهافته على ايلائها العناية التامة فقد كان دائبا على تصحيح نصه
الذي لا يرضى عنه البتة. وفي غياب اي دليل اخر يكفينا الجهد الذي
يتجشمه في سبيل خطبه لاقناعنا بالجهد الذي تطلبته كتبه." وهو لا ينسى
ان دور الخطيب هو الارشاد "فيرتب البراهين بسهولة كلية وهو بهذه
البلاغة الصريحة والمباشرة المقتصرة على الوسائل الابتدائية يصل ليس
فقط الى أسماع ولكن ايضا الى ثقة الشعب الفرنسي المغرم بالوضوح."
يضيف جولميه "لا بد للمرء من ان يفاجأ لدى قراءة صفحة من كتابات
ديجول من كثرة توارد البنية الثلاثية فيها. لقد بيّنت. ولا ادعي انني
استنفدت العدد اكثر من ستمئة في "الجيش المهني" و"فرنسا وجيشها"
وسأكتفي ببعض الامثلة.."
ويعرض نماذج عن ذلك التقطيع الذي يخلق ايقاعا موسيقيا معينا ويبدو
في الوقت نفسه محشوا بالمعاني او مضغوطا بشكل مدروس والذي يسميه الكاتب
"المقاطع المؤلفة من ثلاث جمل متساوية" ومن ذلك قول ديجول "من هنا..
شبكة من المواثيق والاتفاقيات والمراسيم العامة... ان يكون ثمة متسع من
الوقت. الوقت ضروري فعلا للتنظيم.. للتسليح.. لتدريب الدفعات الجديدة."
يضيف جولميه "وفي ما يلي تراكيب ثلاثية لجمل مستقلة او جمل تابعة او
جمل صلة الموصول.. في كل مكان تتصلب الانانية في الدول. كل ينكفىء على
ذاته. العالم يضج بالهتافات.. الاذى الذي الحقوه بي.. الظلم الذي
مارسوه علي. المكانة التي تعود الي." وينتقل الى مثل اخر "هؤلاء
الفرنسيون الذين.. اندفعوا حتى فالماي.. الذين.. حطموا تماما العدو..
هؤلاء من بين الالمان الذين في 23 (فبراير) شباط ر1918. الذين عبر عشرة
اسابيع.. تخيلوا ان ساعة الحسم قد ازفت حيث التقدم متسارع. حيث كل جرأة
من الجرات مسموح بها. حيث العدو يستسلم للقدر."
ويقول الكاتب "وتتكرر ثلاثية المفردات اكثر من الجمل ولاكثر من مرة
في الصفحة الواحدة ثلاثيات اسماء.. مشاريع مجهضة. امال خائبة. اخفاقات
في مساعينا... اضطراب. انقسامات. قرف. مذابح. نهب. حرائق. مدافع خفيفة.
مدافع قديمة.. بنادق قديمة.. مدافع ثقيلة.هجينة. حنشية كبيرة."وننتقل
معه الى "ثلاثيات نعوت" فنقرأ "فريسة قريبة في الغابة. جميلة في
الغابة.. وسهلة في الغابة.هذا الشعب المتحرك المتردد المتناقض."ومن هنا
الى ثلاثيات من اسماء العلم "دوق بريتاني. دوق دانجو. دوق ده بورجوني..
انجو. الانسون. نافار.. الكسندر. هانيبال. نابوليون.. فونتينوا.
قسنطينة. سيباستوبول."
وهناك ثلاثيات من المصادر او ما يسميه المؤلف افعالا مصدرية ومنها
"يطلب الى غرفة التمريض التقويم..اعادتها.. تقويمها.. للاعلام..
للمرافقة.. للضبط.. للهجوم.. للرمي.. للتحطيم.." ومن هنا ننتقل الى
"ثلاثيات افعال في صيغة اسم الفاعل" وهي كما تبدو لنا بالعربية اقرب
الى "الحال" في غالبها ومنها مثلا "مطبقا .. مطورا.. مسرعا.. مستمعا..
رائيا..مفكرا."
يقول المؤلف ان هذه المفردات لا تأتي مرتبة عن طريق الصدفة "انما
نظامها يشير كثيرا الى تطور متزايد" ويقدم مثلا على هذا الامر "هذه
الاخطاء.. هذه الاوهام.. هذا الاضطراب من ثم يتقون الهزات.. الانقطاعات..
التقلبات. جنود ساهرون.. واعون اصلاب.. حاذقون.. امينون.. يا لبؤس
هؤلاء الجنود."
وينتقل نص ديجول احيانا من الواقعي الى الخرافي. من الحقيقي الى
الاسطوري "وديان ضيقة. سفوح وعرة. احراش عميقة. جنيات. ضبابات. عفاريت
وارواح شريرة."
يقول جولميه "الا انه وان تنوع استعمال هذه البنى فان اسلوب ديجول
معرض للرتابة والصرامة غير المحتملين لو لم يحي هذه الالية الثقيلة بعض
الشيء بكل وسائل الحركة." وزاد على ذلك قوله "ليس اللون هو ما يجعل
اسلوب ديجول يشد الانتباه فلغته اقرب الى التجريد.. خالية من الصور.
فلندرس الرسوم التي يزين بها انشاءاته التاريخية اذ لا نعثر فيها على
تفصيل حسي لهيئة الشخص وانما فقط بعض الخطوط اختارها بمهارة تكفي
لاستحضار روحه او فكره."
وليس من النادر ان يأتي نثر ديجول على فقرات شعرية حقيقية حيث
تستعمل ايقاعات مختلفة بما فيها الوسائل التعبيرية للشعر الحر" ومن ذلك
مثلا قوله "ولكن ان اراد السير الى الشمال. كم من نهر قاطع الطريق. كم
من بركة من مستنقع... مترامية الى ما لا نهاية. تستهلك بحزن قوته
وشجاعته."
في "تحية الى جان جولميه" نصوص وشهادات عديدة منها للويس نوسيرا
وايريك دوشو والان ديجران وجابرييل دونور ورسائل اليه من ديجول
ورسالتان من لوي اراجون واخرى من اندريه بريتون. |