
كتب المحرر الثقافي: نقد الأفكار الوضعية وخصوصاً تلك التي تحكم على
أساسها كيانات الحكومات هي ظاهرة كل عصر. فالدولة التي تقدم خدماتها
المخلصة لمجتمعها تكون مطالبة بالمزيد والمزيد والدولة التي تترفع على
أهل البلاد وتحاسبهم كـ(قطيع غنم) لا تُطالب بتحسين نهجها لاعتبارات
سطوتها عليهم بشكل أكثر وأكثر.
وبين هذا وذاك حيث يتحكم الفكر الوضعي كوسيلة تعامل مع شرائح
المجتمع المحكوم بأيديولوجية تنشد العدل أكثر مما تطبقه ومن هذه
الحقيقة فإن تنمية المجتمع المعني على أساس مأخوذ من ذلك الوضع الفكري
غالباً ما لم تتحكم به إيثارات الوعي والتواعي بحيث غدا مستقبل أي فكر
وضعي اليوم أمام محنة اللامعترف به عند ذوي الضمائر الحية في أي مجتمع
كان وهذا ما يحمل في طياته إشكالية كبرى بحد ذاتها.
والمرء الحامل في ذهنه فكراً وضعياً معيناً يمضي سنين طويلة من
حياته لكنه غالباً ما يصطدم بحقيقة أن اعتناقه لهذا الفكر هو في حال
عدم ثقة ووثوق به من قبل مجتمعه مما يعني أن إعلان الإخفاق الأخير لذاك
الفكر هي مسألة وقت ليس إلا.
قد يتساءل البعض هل الفكر الوضعي عند غير العرب أو المسلمين هو شيء
آخر؟! أم كل المجتمعات تتساوى في درجة تقييمها له على اعتبار أن هناك
حصيلة وثوق أو نتيجة عدم رضى عما يسلكه متبنوا الفكر الوضعي المعني. من
جانب آخر أثبتت التجارب أن الخلاص من الفكر الوضعي المتعدد بأكثر من
بلد أو المنحصر ضمن دائرة حدود بلد ما أن أي مطالبة شعبية جادة سيعمل
بموجبها الناس المتحدون علناً على (حقهم العام) فسيكون ذلك مدعاة
لانهيار دول تبدو قوية في نظر الآخرين نظراً لما فيها من شكل تحالفات
سياسية تكون الكلمة الأخيرة فيها للجماعة الحاكمة سواء ضمن نظام غربي
أم لا!
وكسر طوق الخوف الذي يعني توجيه مزيد من النقد السياسي البناء هو
موضوع شائك في ظل ظروف مصادرة حقوق الآخرين، فالحزب الواحد الذي حكم
الاتحاد السوفيتي تعرض لانهيار دولته مع أنها (دولة عظمى) فماذا يمكن
تخيله لحزب واحد يحكم البلاد بطريقة احتساب الناس كـ(عبيد) لنظامه
القائم المستند في قوته على حكم استبدادي تديره طبقة من معتنقي الفكر
الأحادي وتساعده في ذلك أحزاب ممسوخة ضمن اتفاق جبهوي ضعيف كما هو حال
(الحزب الاشتراكي الألماني الموحد) الذي كان يحكم (جمهورية ألمانيا
الديمقراطية) سابقاً حيث انهار ذاك الحزب مع أول عاصفة هبت عليه لأن
منتسبيه كانوا قد أسسوا طبقة أرستقراطية جديدة اتخذت من الحكم وسيلة
للانتفاع الشخصي فكان الإخفاق هو النتيجة الطبيعية لأولئك الذين دعوا
للاعتبارات التي تؤكد أن المنهجية لديهم أكثر مما قدموا عملياً للفكر
الذي حملوه عن يقين أو انتهازية. |