قلما
انتابني القلق والهلع عند قراءة كتاب حديث الصدور يستهويني عرضه
وقراءته، مثلما حصل معي عند تناولي للكتاب الذي اصدره مقرر حقوق
الانسان في العراق وسفير السلام العالمي الدكتور صاحب الحكيم، الذي حمل
عنوان (4000 إمرأة في بلد المقابر الجماعية) باللغتين العربية
والانجليزية، وصدر في لندن، في 930 صحيفة من القطع الكبير، فهو كتاب
توثيقي لأربعة الاف امرأة عراقية تعرضن للاعتقال والتعذيب والاغتصاب
والقتل، او تم دفنهن وهن احياء او تدمير المنازل على رؤوسهن، او قتلهن
بالغازات السامة كما في حلبجة، او قتلهن بالطائرات والمدفعية الثقيلة
كما في الاهوار وفي انتفاضة شعبان العام 1991، او قتل اطفالهن امامهن
للضغط عليهن والاعتراف على اقرانهن او على الرجال، كما في المعتقلات.
استهلك
الكتاب من المؤلف اثنتي عشر عاما، ولذلك جاء توثيقه لمنظومة المعلومات
حول حال المرأة العراقية منجّما وعلى مراحل، كما جاءت فصوله الاربعة
عشر متوزعة ما بين المعتقلات والسجون والمنافي والمهاجر، في زيارات عمل
لولبية قام بها المؤلف لاربعة وخمسين بلدا، حمل معه وزوجته الفاضلة
الناشطة في مجال حقوق الانسان الدكتورة بيان الاعرجي، هموم العراقيين
يرميها على مسامع رجال القانون والسياسية ومنظمات حقوق الانسان
والمحافل الحقوقية الدولية والمراجع الدينية.
ولم
يكتف المؤلف بالزيارات المكوكية الحبلى بملفات ومعاناة العراقيين والتي
توجت بنيله وسام السلام من قبل زعيم الفاتيكان السابق البابا يوحنا
بولس السادس، وبمنحه وسام سفير السلام من قبل الاتحاد الدولي للجمعيات
الدينية، فقد تبنى مشروع الاعتصام الاسبوعي بالضد من نظام صدام في ساحة
الطرف الاغر وسط لندن من عصر كل سبت، وتوقف الاعتصام بعد سقوط النظام
مباشرة بعد ان مضى عليه 333 اسبوعا، في بادرة لم يسبق اليها عراقي فاقت
في مدياتها الانسانية عمل جل المعارضة العراقية.
وكلما
انتهيت من قراءة قصة مروعة عن حال امرأة عراقية، تحولت الى اخرى، وكل
قصة تجرني الى ثالثة ورابعة طواعية دون استئذان، لانها تحكي معاناة
الاسرة العراقية، وتذكرني بمعاناة شقيقتي عندما اعتقلوها بعد ان زغت من
بين اعين رجال الامن في العام 1980 مجتازا الدور الخلفية لحينا،
وبمعاناة والدتي التي سكن رجال الامن المنزل معها لايام عدة تطبخ لهم
الطعام رغما عن انفها، ولها ابن هارب وابن وابنة في المعتقل يزايد
عليهما رجال النظام مقابل تسليم نفسي لدائرة الامن، ويذكرني بالصوت
الجنائزي الذي سمعته عندما ادخلوني لاول مرة مديرة الامن في محافظة
كربلاء في العام 1979، اذ كان أنين امرأة وهي تحت التعذيب يتناهى الى
سمعي، ويقطع نياط قلبي.
وما
يميز القصص الكثيرة الواردة في الكتاب انها موثقة من مصادر عدة وعلى
فترات زمنية مختلفة، مثلما هي قصة الشهيدة العلوية والأديبة، الآنسة
آمنة السيد حيدر الصدر (بنت الهدى)، التي اعتمد في توثيق اعدامها على
شهادات عدة منها شهادة السيدة خالدة عبد القهار، أمينة سر مكتب صدام
حسين الخاص، التي هربت الى ايران في منتصف الثمانينيات عبر الحدود
العراقية الايرانية (ص497). والشي نفسه فعله مع الطالبة الجامعية
الشهيدة ميسون غازي الأسدي (ص251) التي أمعن رجال النظام في تعذيبها ثم
اعدامها ثم قيامهم في حرب نفسية لاسرتها بعد تسليم جثتها ان علقوا صورة
صدام حسين في غرفة جلوس العائلة في مدينة الكاظمية ومن ثم دأبوا على
طرق الباب على حين غرة بين فترة واخرى لمعاينة الصورة، ما اذا كانت لا
زالت في مكانها أم لا! ونقرأ مثل هذه الميزة في قصة الشهيدة نزيهة بنت
شيخ الخطباء في العراق الشيخ محمد علي اليعقوبي، التي قتلت ذبحا
بالسكين تاركة وراءها ثلاث أولاد وبنتين (ص286).
يلتقط المؤلف مقرر حقوق الانسان في العراق، كل صغيرة وشاردة وواردة،
يقيدها ويوثقها بقلم الخبير وبعين البصيرة والباصرة، لان ما يراه البعض
صغيرا يراه المؤلف في عرف حقوق الانسان كبيرا، ولذلك ترى في اكثر ما
يوثقه من قصص النساء المعذبات جزئيات لها مصداقية وذات اهمية كبرى عند
منظمات حقوق الانسان، مثلما هي قصة الدكتورة سعاد خيري (ص147) وقصة
الفنانة ناهدة الرماح (215)، وشهادة المؤلف نفسه الذي اودع السجن في
العام 1969، حيث سمع انين ونحيب النساء المعتقلات (ص648)، وشهادة
السيدة الفلسطينية ليلى محمود الطاهر التي شهدت في مؤتمر حول حقوق
المرأة عقد في القاهرة في كانون الثاني/يناير العام 1993: "اني لم اسمع
ولم اقرأ ولم أتعرف على وضع اكثر مأساوية من أوضاع المرأة في العراق"
مؤكدة انها رأت بنفسها عند تواجدها في العراق بين عامي 1985 و1992،
مقتل طالبة من كلية الآداب في بغداد على باب الكلية، حينما امتنعت عن
الصعود في سيارة احد ضباط الجيش، وقاومته بضراوة بما تمليه عليها
كرامتها، فما كان منه الا ان اخرج مسدسه وقتلها برصاصات عدة ثم مضى
وتركها تتخبط بدمها (ص244).
واعتمد المؤلف في توثيقه الى جانب الشهادات الميدانية في الاهوار
ومخيمات اللجوء والوثائق الرسمية العراقية، وضحايا حلبجة، على الكثير
من الكتب والتقارير لمؤلفين غير عراقيين، مثل كتاب (يوميات بغداد)
للكاتبة المصرية صافيناز كاظم التي روت جوانب عدة من معاناة المرأة
العراقية في ظل حكم صدام حسين، وكتاب (سجينة في بغداد) للممرضة
الانجيلزية دفني باريش، التي التقاها المؤلف في لندن في العام 1994،
وقد قضت حوالي ستة اشهر نزيلة معتقل تابع للمخابرات العراقية في العام
1990، وقد روت قصصا مروعة عن اغتصاب نساء عراقيات في المعتقلات، وبمثل
كتب (التقرير الدولي عن حقوق الانسان في العراق) و(ابادة الجنس في
العراق عمليات الانفال ضد الاكراد) و(التقرير الدولي عن حقوق الانسان
في العراق) الصادرة كلها عن منظمة مراقبة الشرق الاوسط الحقوقية ومقرها
نيويورك، وكتاب (العراق: الاطفال ضحايا أبرياء للقمع السياسي) الصادر
عن منظمة العفو الدولية، فضلا عن العشرات من الكتب التي ألفها عراقيون
كانوا شهودا على معاناة المرأة في العراق، من قبيل (فندق السعادة ..
حكايات من عراق صدام حسين) للمؤرخ الدكتور جليل العطية، و(مشكلة الحكم
في العراق) للوزير الأسبق عبد الكريم الأزري، و(سنوات الجمر) للباحث
علي المؤمن، و(صفحات سوداء من بعث العراق) لعبد الحميد العباسي،
و(أوراق مهربة) لسليم العراقي، و(أزمة العراق رواية من الداخل) للسيد
حسين بركة الشامي الذي اعدم النظام زوجته وخمسة من اخوته، و(التحرك
الاسلامي في العراق) للسيد محمد مهدي الحكيم الذي اغتيل في الخرطوم في
العام 1988، و(كتاب القسوة) لعامر بدر حسون، وغيرها من الكتب والملفات
التي تحدثت عن معاناة وعذابات المرأة العراقية من قريب او بعيد.
وتميز الكتاب بان المؤلف لم يقتصر في توثيقه على فئة معينة من نساء
العراق، كما في معظم الكتب التي صدرت من قبل المعارضة العراقية في عهد
النظام السابق، فقد وثق للعراقية العربية والكردية والتركمانية
والمسلمة والمسيحية والمندائية والاشورية، وتوزعت قصصه على كل محافظات
العراق، وتنقل من العراق الى معسكرات التسفير في ايران ومعسكر الهجرة
القسرية الى رفحاء في السعودية، والى المهاجر في سوريا والاردن واوروبا
واستراليا واميركا وكل بقعة حط عراقي عليها رحال الهجرة، يتقصى معاناة
النساء العراقيات.
وسبق
للمؤلف ان اصدر مؤلفات اخرى قائمة على النسق نفسه من التوثيق ونظم
المعلومات لعذابات الرجال وعذابات الطفل وعذابات علماء الدين في
العراق، وعن ضحايا انتفاضة الشعب العراقي في العام 1991، والمؤلف في
اعتقادي بما اصدره من كتب وملازم وتقارير خلال سني حكم نظام صدام حسين،
وبما يمتلك من وثائق منشورة وغير منشورة، وبما اقامه من علاقات طيبة مع
المنظمات الدولية لحقوق الانسان الحكومية وغير الحكومية، يشكل موسوعة
كبيرة وبلا حدود عن حقوق الانسان في العراق.
شهادة: في روايته لمعاناة الشهيدة آمنة الصدر، نقل الدكتور صاحب الحكيم
عن السيدة خالدة عبد القهار سكرتيرة صدام الخاصة، انه حينما جيء
بالسيدة بنت الهدى الى صدام حسين رددت أمامه اية قرآنية، وقد اخبرتني
المتحدثة بنفسها بعد هروبها من العراق، في لقاء صحافي اجريته معها
لصالح مجلة الشهيد في طهران بحضور الزميل الاستاذ ازهر الخفاجي مدير
اذاعة صوت العراق التي تبث اليوم من بغداد، ان العلوية آمنة الصدر جيء
بها في حالة رثة ومزرية وكانت تردد (حسبي الله ونعم الوكيل)، وانها
قتلت في المكان نفسه.
واعتقد ان السيدة خالدة عبد القهار التي تركت ايران الى احد
الدول الاسكندنافية وألّفت كتاب (خفايا النظام العراقي)، تقع عليها
مسؤولية الشهادة في قصة إعدام السيدة آمنة الصدر وفي غيرها من المظالم
التي رأتها وهي قريبة من صدام بحكم عملها، على أنها كما اخبرتنا كانت
في حينها على علاقة طيبة بنائب الرئيس العراقي المخلوع، عزة الدوري
وعائلته.
إقتراح: أورد المؤلف في الصفحة (386) اسم الزميل نضير تقي عابدين من
ضمن المعدومين في العام 1982، وهو في معرض الحديث عن اعدام شقيقتي
السياسي العراقي الاستاذ رضا جواد تقي، وتعذيب والدتهم، وقد شاهدت اسمه
في سجل مديرية تربية كربلاء مقيدا قبل اسمي لامتحانات البكالوريا للعام
الدراسي 1979-1980، وذلك خلال زيارتي للعراق في شهر ايار – مايو العام
الجاري 2005، ورأيت اسماء شهداء اخرين مثل الشهيد ياس خضر بن ذرب الذي
شاركني في زنزانة واحدة وكان يعذب معي في قضية واحدة الى جانب طالب اخر
من صفوف الرابع الاعدادي.
وهنا اقترح على وزارتي التربية والتعليم العالي، ان تقيما شواهد
تذكارية لشهداء كل جامعة واعدادية ومتوسطة وابتدائية من اساتذة او
طلبة، حتى يتعرف الاساتذة والطلبة الجدد على من سبقهم من ضحايا النظام
البائد، وحتى لا تتكرر المعاناة من جديد في نظام عهد ما بعد التاسع من
ابريل/ نيسان العام 2003، والانظمة القادمة.
*الراي الآخر للدراسات – لندن
[email protected] |