اشراقات في الدستور العراقي.. كيف كتبنا الدستور؟

الدكتور محسن القزويني

مرشح قائمة الائتلاف الإسلامي (549)

مؤسس جامعة أهل البيت (ع)

عضو الجمعية الوطنية

عضو لجنة صياغة الدستور

في قصر المؤتمرات ببغداد قضينا أياماً جميلة وعصيبة قضيناها في القاعة المربعة وقد اجتمعنا حول بعضنا البعض لكتابة اهم وثيقة تاريخية ترسم مستقبل العراق وحاضره.

اربعة اشهر كانت مملوءة بالمفارقات جمعت الحزن والفرح والغضب والتوتر والألم والمناقشات المفيدة والمملة وكل شيء يخص كتابة هذه الوثيقة المهمة.

ولاغرابة في ذلك إذ اجتمع عدد من الاخوة من اطياف مختلفة ومن أعراقٍ متباينة ومذاهبَ وأديان متنوعة، اجتمعوا في مكان واحد لكتابة وثيقة تحدد مستقبلهم ومستقبل اجيال العراق.

كان التوتر يسود مناقشات القاعة المربعة ويصل بعض الأحيان إلى حد الصراخ والعراك لكن ما أن نتذكر أننا جالسون في هذه القاعة من اجل الوطن المستباح حتى يعود كل واحد مِنّا الى رشده ونستأنف المناقشات بطريقة مهذبة ومقبولة وتأخذ المباحثات مجراها العادي.

 ومن حين لآخر كانت تصلنا الاخبار عن العمليات الإرهابية أوكنا نسمع اصوات انفجارات السيارات المفخخة خارج القاعة فتلهب حماسنا وتوقظ البعض من سابته فتعتدل المواقف ويعود ذوي المصالح الشخصية الى رشدهم فيفكروا بمصالح الوطن والشعب.

لاشك فالدستور الذي أصبح بين أيدي العراقيين والمتضمن لـ 139 مادة لم يكتب في ليلة واحدة كما تكتب الدساتير في عالمنا الثالث بل وراء كتابته جهد كبير وايام وليالي قضيناها بالساعات الحلوة والمرة في كتابة ومناقشة كل مادة وعبارة بل قضينا ساعات طويلة في مناقشة بعض حروفه ايضا كالالف واللام، فقد كنا نريد ان نخرج بدستور ناصع ومشرق يبيض وجه العراق ويفتخر به كل عراقي شريف، كنا نريد ان يأتي الشعب الى صناديق الاقتراع ليدلي بصوته بحرية تامة ليقول نعم للدستور لذا بذلنا وبذل الاخوة قصارى جهدهم من اجل انجاح هذا الدستور، كنا نجتمع كل يوم اجتماعات متواصلة لساعات طويلة حتى في ايام العطل كنا نأتي الى قاعة الاجتماعات لمناقشة مواد الدستور إذ كان الوقت يحاصرنا ولم نكن نريد تأجيلا فقد آلينا على انفسنا ان نكمل الدستور في الوقت المخصص وتم ذلك لنا بعون الله تعالى فقد سُلِّمَ الدستور الى الجمعية الوطنية في الموعد المقرر في الاول من آب سنة 2005 م على رغم من الصعوبات والمشاكل التي رافقت وضعه.

الجمهورية العراقية الإسلامية الاتحادية

حدث جدل واسع حول تسمية العراق فكانت المقترحات آلاتية:

أولاً: العراق من دون أيّ عبارة أخرى.

ثانياً: جمهورية العراق وهي التسمية القائمة التي تم وضعهاا في عهد صدام حسين ولازالت موجودة.

ثالثاً: الجمهورية العراقية وهي التسمية القديمة قبل أن تتغير في عهد صدام.

رابعاً: الجمهورية العراقية الاتحادية وهي التسمية التي كان يصر عليها الطرف الكردي في لجنة كتابة الدستور.

خامساً: الجمهورية العراقية الاتحادية الإسلامية وهي التسمية التي اقترحها الطرف الشيعي في اللجنة.

وكان وراء كل تسمية مبرراتها، فالذين كانوا يريدون كلمة العراق وحدها من دونِ أيّ إضافة كانوا يستشكلون على كلمة الجمهورية ويرون أنها مستوردة من الفكر الغربي وهي تتناقض مع الفكر الإسلامي الداعي إلى سيادة الشريعة الإسلامية، وكان هؤلاء يرون أن عبارة الجمهورية تعني سيادة الشعب وسيادة الشعب تعني أنه صاحب السلطة في التشريع.

وكان الرد على هذا الرأي واضحا جلياً فالجمهورية لفظٌ مجرد لا يعني سيادة الشعب ولا يعني منح الشعب صلاحيات تشريع القوانين بمعزل عن الأحكام الشرعية. كما وأن اللفظ يستخدم لتمييز شكل الدولة عن الدولة الملكية ومنحها صفة الشعبية.

أمّا عبارة جمهورية العراق فكانت حجة الذين اقترحوها أنها العبارة المناسبة التي حددها مجمع اللغة العربية ولا علاقة لصدام حسين بها وأنّ ظهورها في زمانه لا يعني انه المسئول عن إطلاقها وأنها لا تحمل أيّ ظلال بعثية كما يرى البعض.

أمّا الجمهورية العراقية فهي التسمية القديمة للعراق وكان المنادون بها يريدونها بديلاً عن جمهورية العراق التي تحمل ظلالاً من العهد البائد.

وقد رُدّ هذا المقترح بأنّ العبارة غير سليمة من الناحية اللغوية بينما لغة جمهورية العراق أصح وأسلم.

وإلى جانب هذه التسميات كان الأكراد يصرون على إضافة عبارة الاتحادية إلى الجمهورية العراقية أُسوةً بالجزائر وألمانيا ودول أخرى.

أما مقترح إضافة الإسلامية فكان وراؤه فئتان، فئة من أعضاء اللجنة كانوا يريدون إسقاط عبارة الاتحادية ومساومة الأكراد على التنازل عنها في قبالة التنازل عن الإسلامية، إذ كانوا على يقين أن الأكراد سيرفضون تسمية العراق بالإسلامية.

وفئة أخرى كانت ترى ضرورة وجود هذه العبارة كإشارة إلى وجود الأكثرية الإسلامية وكنتُ من بين هذهِ الفئة ومن المتحمسين لإضافة الإسلامية من منطلق الحقيقة وليس المناورة.

وكان التخوف الكردي من العبارة ينطلق من تخوفهم من الدولة الدينية وادعائهم أن وجود هذه العبارة يعني أن العراق سيتحول إلى دولة دينية. وقد أخذتُ أطراف الحديث وتكلمت بإسهاب للرد على هذه الحجة فقلتُ:-إنّ وجود عبارة الإسلامية على اسم العراق لا يوحي بأنّ العراق دولة دينية بحتة لأنّ هذه العبارة موجودة على اسم دول عديدة كأفغانستان وموريتانيا مع أنهما ليستا بدولٍ دينية، هذا من جانب ومن جانب آخر إنّ وجود عبارة الإسلامية فيه إشارة إلى تاريخ العراق وإلى وجود العتبات المقدسة وإلى وجود الأكثرية المسلمة في العراق، كما وأن وجودها سيشكل مانعاً من انحراف الحكومات عن الجادة الإسلامية ويحول دون الغزوالفكري الذي سيتعرض له العراق على أيدي القوى الغربية، إشارة إلى وجود تيارات مختلفة في العراق تريد استباحة ثقافته وفكره وتحويله إلى قلعة للتغرب.

وفي الجانب الآخر كنتُ أرفض استخدام عبارة الإسلامية للمساومة مع الأكراد، وقد تحدثتُ إلى الإخوة الذين كانوا يعملون بهذا الاتجاه وقلت لهم: إنّ الإسلام اسم مقدس وليس من الصحيح المساومة عليه، وبِمَ تجيبون الجماهير عندما يعرفون أنّكم استخدمتم كلمة الإسلام للمناورة لإسقاط عبارة الاتحادية.

وكانت النتيجة ما أرادهُ هؤلاء إذ تنازل الأكراد عن عبارة الاتحادية في مقابل الطرف الآخر عن عبارة الإسلامية فأصبحت تسمية العراق باسم جمهورية العراق.

الإسلام مصدر أساس للتشريع

آلمني النص الذي ورد في قانون ادارة الدولة العراقية حول علاقة الدين بالدولة وبتشريع القوانين، فيوم خروج هذا القانون للعيان كنت من الذين سارعوا لتوجيه النقد اليه إذ اكتفى النص بان الإسلام مصدر للتشريع فقط من دون اعطائه أي اعتبار او أولوية على بقية التشريعات ومن اجل إظهار الموقف الرافض لهذه المادة اقمنا الندوات في جامعتنا وفي اماكن اخرى. وكنت أتحدث دائما في هذه الندوات انّ هذا النص غير متوازن وهوبحاجة الى تعديل إذ إنّ مشرع قانون إدارة الدولة في الأساس وضع عبارة مصدر اساس للتشريع قبل ان يأخذ طريقه للنقاش في مجلس الحكم كما وأنّ هذه العبارة وردت في اكثر الدساتير العربية والاسلامية بالاضافة الى الدساتير العراقية القديمة.

وبقيت امنية في القلب ان يأتي ذلك اليوم الذي ارى فيه هذا النص وقد عُدِّل ألى الشكل المقبول والذي ترتضيه الاكثرية من ابناء الشعب العراقي. وحانت الفرصة وقدر لي الله سبحانه وتعالى أن أكون عضوا في الجمعية وان انتخب ضمن أعضاء لجنة كتابة مسودة الدستور ثم وقع الاختيار عليَّ لأكون عضوا في لجنة المبادئ والاسس المسئولة عن كتابة المواد المتعلقة بهوية العراق وشكل الدولة العراقية وعلاقة الدولة بالدين وبالتشريع وعندما وصلت الى هذا الدور قلت لنفسي هاقد تحققت امنيتي وبلغت ماكنت اطمح اليه وبقي علي أنْ  أشمّر عن سواعد الجد لكي اخرج افكاري في مجال علاقة الدولة بالدين بقوة.

وفعلا بدأت محاولاتي في التأكيد على عبارة الاسلام مصدر اساس للتشريع داخل اللجنة الفرعية وكنت اواجه بالرفض من قبل بعض الاعضاء الذين لا يرون رأيي ولا يدينون بعقيدتي فقد عارضني عدد من الاعضاء بالاخص الممثل الكردي وسكرتير الحزب الشيوعي إذ كانا يؤكدان على بقاء النص كما كان في قانون ادارة الدولة العراقية. ولكي تأتي محاولاتي أُكلها قمت بوضع دراسة حول الخيارات المطروحه في علاقة الدولة بالدين.

الإسلام مصدر وحيد للتشريع.

الإسلام مصدر أساس للتشريع.

الاسلام مصدر للتشريع.

الاسلام مصدر من مصادر للتشريع.

فذكرت في الدراسة التي قدمتها لاعضاء لجنة كتابة الدستور ابعاد كل عبارة من تلك العبارات الاربعة وآثارها القانونية والاجتماعية. وايضا ذكرت مواقف الدساتير العربية والاسلامية من تلك الخيارات فهناك بعض الدساتير اشارت الى النص الاول كالدستور الباكستاني والسوداني ودستور الجمهورية الاسلامية في ايران.

 وذكرت الدساتير التي اوردت الخيار الثاني ثم ذكرت فوائد كل خيار من تلك الخيارات ومضاره وآثاره وطالبت بالخيار الاوسط وهومصدر اساس للتشريع بعدّة يتوافق مع بقية دساتير الدول العربية وحتى الدساتير العراقية كما أنه يفسح المجال أمام بقية التشريعات الوضعية للأخذ منها إذا كان هناك ضرورة وليس فيها مخالفة للشريعة الاسلامية لكن ظلت المعارضة شديدة جدا إذ كان الطرف الكردي يركز في نقاشاته بأنّ عبارة المصدر الاساس تعني المصدر الوحيد. وقد دخلت معه في سجال لغوي حول هل يعني الاساس الوحيد ام لا. وكانت الاكثرية لا ترى ذلك ولما كان قرارنا في تدوين النصوص يستند الى التوافق في اللجنة فقد كنت مضطرا لأن ازيد من تحركي المكثف نحوالجهات الرافضة اوالمحايدة لاقنعها بضرورة ذكر تلك العبارة حتى تم لنا وبحمد الله تدوين العبارة فقد كللت مساعينا ومساعي الخيرين بالنجاح الباهر وهنا لابد ان لا انسى فضل الاخوة الذين دخلوا معنا في ما بعد في كتابة مسودة الدستور من عرب السنة فكان رأيهم يشدد على وجود عبارة الاساس ايضا فكانوا سندا لنا في تثبيت النص المذكور.

السيادة للقانون

اقترح في المادة الخامسة هذا النص:

السيادة للشعب وهومصدر السلطات. وكاد يثبت لولا التعديل الذي طرحته على المادة وهوالسيادة للقانون والشعب مصدر للسلطات. وقد انطلقت في هذا التعديل من عدة مبادئ.

اولا: اضمحلال نظرية سيادة الشعب إذ كانت هذه النظرية من الأخطاء التي روّجَ لها في القرن السادس عشر على يد المفكر السياسي بودان واستخدمت كسلاح لمواجهة صلاحيات الملك للحد من سلطاته الدكتاتورية. لكن بعد ظهور الأنظمة الديمقراطية في اوربا اخذت هذه النظرية تفقد بريقها واخذ يحل محلها نظرية الشعب مصدر السلطات بدلا من نظرية السيادة التي تناولتها الآراء والنظريات الحديثة بالنقد والنقض في بعض الاحيان.

ثانيا: سيادة الشعب تعني فيما تعني أنّ الشعب هوفوق كل شيء وليس فوقه شيء آخر، فمن حقه ان يمارس سلطاته المطلقة كما يراها استنادا لنظرية السيادة التي تعني السلطة التي ليس فوقها سلطة، وهذا يتناقض مع الفكر الاسلامي الذي يقوم على مبدأ الولاية الذي هومن مختصات الخالق سبحانه وتعالى وليس من حق أي مخلوق ممارسة هذا الحق الا بإذنه سبحانه وتعالى، فالاب يمارس الولاية على ولده الصغير باذنه سبحانه وتعالى وكذلك اصناف الولايات الاخرى هي ولاية اعتبارية وليست ولاية اصلية فصاحب الولاية الاصلية هوالله سبحانه وتعالى، يقول تعالى في محكم كتابه العزيز: ((هنالك الولاية لله جميعا)) ولما كان مفهوم السيادة يتطابق ومفهوم الولاية بمعنى السلطة العليا التي ليس فوقها سلطة جاء مفهوم سيادة الشعب متناقضا ونظرية الولاية التي وردت في الفكر الاسلامي سيما اذا نظرنا الى المفهوم من زاوية تشريع القوانين.

ثالثا: أمّا مفهوم السيادة للقانون فهواكثر تطابقا مع الفكر الاسلامي اذا نظرنا الى القانون نظرة واسعة وهوكل أمر ونهي ولما كانت الاحكام التشريعية هي مجموعة الاوامر والنواهي الصادرة من الله سبحانه وتعالى فلها ولاية على البشر لكنها ولاية اعتبارية مكتسبة لأنها صادرة من صاحب الولاية المطلقة وهوالله سبحانه وتعالى.

من هنا كان مفهوم السيادة للقانون قريبا للشريعة الاسلامية منسجما مع الفكر الاسلامي.

رابعا: ومن ناحية اخرى اذا نظرنا الى الواقع المعاش في العراق لوجدنا أن الشعب العراقي احوج ما يكون الى سيادة القانون فهذه الفوضى والتسيب وانعدام الامن والاستقرار ناشئة من الابتعاد عن القوانين، فلوكان الجميع يشعرون بحرمة القانون وقدسية التعليمات واللوائح لما كانت هناك فوضى ولا انعدام للأمن والاستقرار.

فجزء كبير من مشكلة العراق تكمن في انعدام الاحساس بأهمية القانون وعدم وجود حرمة للقضاء فعليه لابد من السعي لفرض حرمة القانون ليحس الجميع بالأمان والاستقرار وليشعروا انهم يعيشون في حماية القانون وما كان ليتحقق ذلك الا بفرض هيبة القانون على جميع مفاصل الدولة العراقية بالاخص رجال الدولة والحاكمين وارباب المناصب العليا فاذا شعر الشارع العراقي ان هؤلاء يحترمون القانون ويذعنون لأحكامه فإنهم أيضا سيخضعون للقانون خضوعا طوعيا اراديا بدلا من استخدام القوة.

وليس العراق وحده يعاني من مشكلة ضعف هيمنة القانون بل اكثر دول العالم الثالث يعاني من هذه المشكلة والسبب كما نوهنا هوتجاوز حكام هذه الدول على القانون وعدم إعطائه أي قيمة على الرغم من انه صادر من قبلهم لكنه موجه الى عوام الناس وليس اليهم فإذا كان القانون لا يطبق إلا على الضعفاء والفقراء فانه وبمرور الزمن يفقد بريقه ويصبح باهتا ولا تأثير له على الواقع الاجتماعي.

من هنا فقد اخذ الكثير بنظرية سيادة القانون باعتباره قيمة اساسية لبناء الدولة وفرض النظام على الحياة العامة.

ومن خلال هذه التوجهات كانت قناعتي بضرورة تغيير عبارة السيادة للشعب إلى السيادة للقانون وان الشعب هومصدر للسلطات وليس صاحب السيادة وقد تحقق ما كنت اصبواليه بتغيير العبارة عندما اقتنع بقية اعضاء لجنة صياغة الدستور بأحقية الحجج التي طرحتها فوافقوا بالاجماع على تغيير المادة الخامسة إلى الصيغة النهائية.

العراق دولة مستقلة ذات سيادة

عندما تتصفح الدستور ستقابلك اول مادة فيها تتحدث عن شكل الدولة وشكل نظام الحكم. وهي تشكل الاضلاع الستة للدولة العراقية.

والنص متكون من فقرتين ؛ الاولى تتحدث عن شكل الدولة.

فالعراق اولا: دولة اتحادية وليس دولة بسيطة كما كانت في السابق.

وثانيا: دولة مستقلة لها ارادتها المتمثلة في مجلس النواب الذي يقرر باسم الشعب ما يتفق ومصالح الشعب العراقي.

وثالثا: انه نظام ديمقراطي يعتمد رأي الشعب وتتمثل فيه إرادته وهذا ما يميز هذا النظام عن الاشكال الأخرى للنظم السياسية كالنظام الثيوقراطي والاستبدادي.

وليس من باب الفخر بل لتثبيت الحقيقة انا الذي وضعت هذه المبادئ في المادة الاولى وذكرت لاعضاء اللجنة المحترمين هذه الاضلاع الستة للدولة العراقية.

وقد جوبهت باعتراضين:

الاول: لاحاجة لذكر عبارة(ذات سيادة) لان وجود (مستقلة) فيها الكفاية.

الثاني: إنّ عبارة (اتحادي) تأتي في نهاية النص ليكون النص: جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي(برلماني) ديمقراطي اتحادي.

وقد قمت بنقض الامرين خلال النقاشات الجارية وكانت حجتي في تثبيت عبارة (ذات سيادة) هي كالآتي:

وجود عبارة (مستقلة) لاتفي بالغرض فلابدّ من ذكر ذات سيادة لأنّ هناك دول مستقلة لكنها مسلوبة السيادة لوجود المستعمر على اراضيها على رغم ارادتها اوانها مستقلة لكنها ترتبط بمعاهدات مهينة تفقدها السيادة.

يتعرض العراق حاليا إلى ظروف استثنائية لوجود قوات الاحتلال على أراضيه فخلوالنص من عبارة (ذات سيادة) سيرسم صورة قاتمة للدستور ويوحي بان المحتل سيبقى وإلى الأبد على الأرض العراقية. وهذا يعني ان الدستور بدل أن يؤكد على سيادة العراق اصبح يكرس واقع الاحتلال.

وجود القوات المحتلة امر موقت بينما الدستور أمر دائم فهذه القوات ستنسحب في يوم من الايام آجلا أم عاجلا ويبقى العراق بلدا مستقلا ذا سيادة على أرضه فكان لابد من التاثير على هذه الحقيقة وافهام المحتل والعالم بأسره ان العراق لابد ان يحصل على سيادته الكاملة من دون نقص ولابد للقوات الاجنبية من مغادرة العراق، ولابد من وضع جدول زمني لهذا الامر.

وإنّ وجود هذه القوات على الارض العراقية ليس وجوداً دائماُ.

ولما كانت هذه الحجة قوية فقد تم التوافق على هذا النص وأضيف إليه في مناقشات رؤساء الكتل السياسية عبارة ذات سيادة كاملة.

اماحجتي في وضع عبارة (الاتحادي) في بداية الشطر الاول من النص فهوان هذا الشطر يتحدث عن شكل الدولة وعبارة اتحادي تتحدث عن شكل الدولة، بينما يتحدث الشطر الثاني عن شكل نظام الحكم فلا يتلائم مع عبارة (اتحادي) لكن اصرار بعض الأعضاء ممن يتهيب هذه العبارة فرض على لجنة كتابة مسودة الدستور وضع عبارة (اتحادي) في نهاية النص. وهذا يشكل خطأً فادحاً. لكن في نهاية الامر ومن خلال النقاشات التي جرت بين التيارات والكتل السياسية صُحّح الخطأ ووضعت عبارة الاتحادي في مقدمة النص واضافة عبارة واحدة ليصبح النص كالآتي: جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.

وقد ازال هذا النص التخوف الموجه لدى البعض بان الفدرالية تؤدي الى تمزيق وحدة العراق وذلك بذكر عبارة (دولة اتحادية واحدة) ثم التأكيد على ذلك وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق.

العتبات المقدسة

عانت العتبات المقدسة في العراق الكثير من الاهمال المتعمد خلال الانظمة السابقة، وتعرضت ايام الانتفاضة الشعبانية عام 1990 الى التدمير بحجة لجوء الثوار إلى داخل هذه العتبات. وقبل ذلك تعرضت في التاريخ القريب والبعيد الى عدد من الاعتداءات كالهجوم الوهابي على الحرم الحسيني الشريف. وكان الاجدر بتلك الأنظمة رعاية هذه الاماكن المقدسة بعدّها أماكن دينية وسياحية تدر على العراق أرباحاً طائلة، لكن وبسبب الحقد الطائفي ظلت هذه العتبات في معرض الاهمال حتى سقوط النظام الصدامي فكان لابد من إعادة الحياة إليها وصيانتها بشكل يليق ومكانتها اللائقة في نفوس المؤمنين من ابناء الشعب العراقي وهذا مالا يتحقق الا بوجود نص دستوري يكفل الحفاظ على هذه الاماكن وصيانتها من ايدي التخريب والاهمال فقمنا نحن أعضاء لجنة المبادئ في اللجنة الدستورية بتثبيت هذا النص في المادة (10) العتبات المقدسة والمقامات الدينية كيانات دينية حضارية وتلتزم الدولة بتأكيد وصيانة حرمتها، وضمان ممارسة الشعائر بحرية فيها. فالنص يبين لنا الآتي:

مكانة العتبات المقدسة من الناحية الدينية والحضارية فهي تشكل مظهراً دينيا وحضاريا تستمد مكانتها الدينية من الذين دُفِنوا فيها وهم الأئمة الأطهار(عليهم السلام). الذين اذهب الله عنهم الرجس بصريح القرآن الكريم وتستمد مكانتها الحضارية من روعة البناء المعماري والهندسي الذي يحكي قصة حضارة المسلمين في الهندسة والبناء، فالابنية التي تتضمنها هذه العتبات هي آية في الجمال والروعة وشاهد على عظمة المسلمين وعظمة الفن المعماري الاسلامي.

التزام الدولة بصيانة وحماية هذه العتبات وحمايتها بعد ان كانت مهملة، فوجود مثل هذا النص يفرض على الدولة الاهتمام بعمليات البناء والانشاء لتطوير هذه الاماكن ليصبح لها مظهرا يليق بالذين ضمت رفاتهم تلك الاضرحة المقدسة وذلك برصد ميزانية تتناسب وعمليات التوسعة المطلوبة.

تضمن الدولة أيضا إقامة الشعائر الدينية في هذه الاماكن بكامل الحرية على العكس ما كان في السابق إذ كانت هذه الشعائر محرمة ولا يجوز ممارستها حتى في البيوت فهذا التضمين من قبل الدولة في ممارسة هذه الشعائر يعني الحفاظ على حياة الذين يمارسونها ويشجعون على ممارستها والذين كانوا يتعرضون الى الاذى من قبل السلطات في السابق ومن الارهابيين في الحال الحاضر.

فوجود هذا النص الدستوري سيحفظ لهذه العتبات تلك المكانة المرموقة وسيجنبها المخاطر والاعتداءات التي مورست ضدها خلال فترة التاريخ القريب والبعيد.

الشعائر الحسينية

ورد في المادة (4) الفقرة الآتية: أَتباعُ كُلِّ دينٍ اومذهب احرارٌ في ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية. جاء تثبيت هذا النص بجهود الاخوة اعضاء لجنة الحرية والحقوق وبدعم من أعضاء لجنة الدستور. لا شك ان وجود هذه العبارة في النص الدستوري له اسبابه المتعلقة بما تعرضت إليه الشعائر الحسينية من منع وما تعرض اليه الشيعة من اضطهاد بسبب ممارستهم لهذه الشعائر.

ولا عجب أن تضع كل حكومة ظالمة هذه الشعائر هدفا لها منذ اليوم التالي من استيلائها على السلطة مبرزة حقدها الدفين على هذه الشعائر.

ولن تجد هذه الحكومات سببا لمنعها الشعائر الحسينية سوى تخوفها من وجود هذه الشعائر التي تلهب حماس الشيعة وتجعلهم على استعداد للدفاع عن عقيدتهم الاسلامية وهناك بعض الشعائر التي تأخذ طابع التحدي فتصبح الهدف الأول من معاداة الحكومات المعادية، من هنا جاءت جهودنا في لجنة كتابة مسودة الدستور لتثبيت الشعائر الحسينية كمصداق من مصاديق حرية الفرد في ممارسة طقوسه الدينية.

وبوجود هذا النص سيتحقق ما يأتي:

عدّ ممارسة الشعائر الحسينية جزءً من الحرية الشخصية التي من حق كل فرد ممارستها.

عدّ الشعائر الحسينية جزء من الشعائر الدينية التي لابد من احترامها واجلال من يمارسها.

واستناداً لهذا النص سوف لن يتمكن احد من التجاوز على هذه الشعائر اومنعها أووضع العراقيل امام ممارستها.

الكرد الفيليون

الكرد الفيلية هي شريحة مضطهدة من ابناء الشعب العراقي حاربها نظام صدام حسين لسببين اولا: لأنها شريحة كردية مرفوضة من قبل النظام الشوفيني ولانها شريحة شيعية متمسكة بولائها لأهل البيت (عليهم السلام).

هُجّرت عام 1980 على اثر قيام احد ابناء هذه الشريحة بمحاولة لاغتيال طارق عزيز وهوالشهيد سمير نور علي فتم تسفير العوائل الى ايران والابقاء على ابنائهم في المعتقلات، وبعد سقوط الطاغية اخذت هذه الشريحة من أبناء الشعب بالعودة الى ارض الوطن ولكي لا تتكرر المأساة من جديد، وحتى لا يعطي طاغية اخر لنفسه الحق في مصادرة حقوق هذه الطائفة وسلب الهوية العراقية عنهم كان لابد من تضمين حقوقها في الدستور الدائم وكنت من اوائل من تبنى قضية هذه المجموعة والتي كانت تواجه دائما برفض الاخوة الأكراد وكانوا يخشون تقسيم الاكراد على اساس مذهبي هذا سني وهذا شيعي وعندما بدأ النقاش حول هذه الموضوع تطرقت إلى خصوصيات هذه المجموعة والتي افرزتها كشريحة متجانسة تختلف عن بقية الشرائح الكوردية فهي تختص بانتمائها إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

بينما يقية الاكراد ينتمون الى مذاهب اسلامية اخرى وايضا تشكل هذه الشريحة تجمعات قبلية منفصلة تماما عن تجمعات القبائل الكوردية الأخرى ولها تاريخها وظروفها الخاصة بها.

ومن جانب آخر هناك أحزاب وحركات سياسية خاصة بالكورد الفيلية تحمل هموم هذه الشريحة وتعمل جاهدة على تحقيق حقوقها السياسية والاجتماعية متمايزة عن الأحزاب الكردية المعروفة.

فلهذه الشريحة إذن خصوصيات سياسية واجتماعية ومذهبية افرزتها عن بقية الشرائح الكُردية وبعد ان اكملت هذا الطرح جاءني احد زعماء الكُرد السنة وطلب مني وبشكل تهديد ان لا اتطرق الى هذا الموضوع قائلاً: لا تتدخل بيننا نحن امة واحدة. فقلت له: اذا كنتم امة واحدة فلماذا لا تطالبون بحقوقهم كما طالبتم بحقوقكم وبحقوق أقل من تعرض للاضطهاد من الأكراد في المناطق الاخرى.

ولما لم يكن في لجنة صياغة الدستور عضومن الاكراد الفيلية فقد قررت مواصلة العمل على المطالبة بتثبيت فقرة في الدستور تتضمن معاناة هذه الشريحة المتفانية والمخلصة من أبناء الطائفة الشيعية وتم ذلك وبحمد الله في الديباجة عندما تم ذكر الكُرد الفيلية الى جانب بقية الشرائح التي اضطُهِدت من قبل النظام الجائر.

كل وزير يعرض برنامجة بصورة مستقلة

هناك طريقتان لمنح الثقة للحكومة؛ الأولى يقوم رئيس الوزراء بعرض برنامجه الوزاري على نواب الشعب وبعد ذلك يُصوّت على الوزارة فإذا نالت الاكثرية من الاصوات فقد نالت الثقة البرلمانية وإذا لم تنل أصوات الأكثرية فهذا يعني سلب الثقة عنها.

والطريقة الأُخرى ان يقدم كل وزير برنامج وزارته بصورة مستقلة فيُصَوّت عليها وعلى الوزير بصورة مستقلة ولكل طريقة محاسن ومساوئ فالطريقة الأولى تختصر الوقت ويُصوّت على الوزارة دفعة واحدة أما الطريقة الثانية فلها فوائد جمة ففيها يُتعرّف على برنامج كل وزير على حدة. واذا كان بين الوزراء وزير غير صالح فيتمكن سحب الثقة عنه من دون بقية الوزراء. هذه محاسن هذه الطريقة أمّا الجانب السلبي من هذه الطريقة فهوينحصر في عملية التصويت على الحكومة مدة طويلة من الزمن إذ سيضطر رئيس الوزراء الى تبديل وزارته اذا لم يحصل على ثقة أعضاء البرلمان.

وبناءً على ذلك فان اكثر البرلمانات اخذت بالطريقة الثانية أمّا في العراق فأستناداً لقانون ادارة الدولة فقد عملت الجمعية الوطنية بالطريقة الاولى وجاءت مسودة الدستور التي كتبت من قبل اللجنة الفرعية متضمنة النظرية نفسها أما مساوئ هذه الطريقة فعديدة منها عدم التعرف على برنامج الوزراء ولربما هناك وزير اوعدد من الوزراء غير صالحين من بين وزراء صالحين عندما طرحت اللجنة الفرعية المادة للنقاش أبديت اعتراضي عليها وذكرت مساوئ هذه الطريقة وبينت محاسن الطريقة الثانية فايدني بعض اعضاء اللجنة وبعد مناقشات مستفيضة عرضت الفكرة على التصويت فكان الاكثرية الى جانب ما ذهبت فجاء نص المادة (73) الفقرة رابعا كالآتي:

))يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف اسماء اعضاء وزارته والمنهاج الوزاري على مجلس النواب، ويعد حائزا على ثقتها عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري بالاغلبية المطلقة)) وهكذا استطعت ان اثبت فكرة طرح كل وزير برنامجه الوزاري وكسب الثقة على اساسه وعلى اساس خصائصه الشخصية وصولا الى وزارة متكافئة في القوة ليس فيها عنصر ضعيف اوبرنامج ضعيف.

المحكمة الاتحادية العليا

من مفاخر الدستور العراقي الحالي هووجود محكمة اتحادية عليا والتي لها اختصاصات مهمة وخطيرة منها الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة وتفسير نصوص الدستور والفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والفصل في النزاعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية، والفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الاقاليم والمحافظات. وايضا الفصل في الاتهامات ألموجهه إلى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء, والمصادقة على النتنائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب والفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي والهيئات القضائية للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للاقاليم اوالمحافظات غير المنتظمة في اقليم. وهذه اختصاصات مهمة للغاية وتكمن اهميتها ايضا ان قرارات المحكمة الاتحادية ملزمة لكافة السلطات وعليه كان لابد من اختصاصين في القانون والقضاء. فاعترضت على الاكتفاء بالمختصين في القانون فقط وطالبت بوجود اعضاء في المحكمة من ذوي الاختصاص في الفقه والشريعة. وكانت حجتي في إضافتهم إن الدستور يؤكد في المادة الثانية عدم جواز سن اى قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام. وهذا سيتوجب وجود فقهاء في الشريعة الإسلامية يتمكنوا من تشخيص موارد تناقض واختلاف القوانين مع احكام الشريعة، فوجود هذا الجمع من فقهاء الشريعة هوالضمان في عدم تعارض القوانين مع الشريعة الاسلامية جنبا الى جنب المختصين في القانون الذين يقدرون على تشخيص تعارض القوانين الصادرة مع مبادئ الدستور.

وقد دار نقاش طويل في لجنة صياغة الدستور حول جدوى وجود هؤلاء المتخصصين في الشريعة الاسلامية. وبعد المناقشات المستفيضة والحجج القوية التي طرحتها وطرحها المؤيدون لهذه الفكرة ارتأت اللجنة اخيرا اضافة خبراء في الفقه الاسلامي الى عضوية المحكمة الاتحادية فجاء النص كالآتي: تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عدد من القضاة وخبراء في الفقه الاسلامي، وفقهاء القانون تحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم وعمل المحكمة بقانون يسن بأغلبية ثلثي اعضاء مجلس النواب. وقد ذكرت في المناقشات يجب ان يكون عدد هؤلاء الفقهاء مساويا لعدد المتخصصين في القانون حتى يكون رايهم مساويا لرأي ارباب القانون كما ارتأى عدد من أعضاء اللجنة إرجاء هذا الأمر إلى قانون يسن فيما بعد إذ ظهر الاختلاف في عدد اعضاء المحكمة ومن له الحق في ترشيحهم وبسبب هذه الاختلافات أُرجئ الأمر إلى المجلس القادم ليبت في هذه الأمور العالقة بإصدار قانون باسم قانون المحكمة الاتحادية العليا.

 مؤسسات المجتمع المدني

مؤسسات المجتمع المدني ظاهرة حضارية انتشرت في الدول المتقدمة، واصبح لها حضور سياسي فاعل في المجتمعات الصناعية المتطورة.

وكان ظهور هذه المؤسسات نتيجة تطور الدولة والمجتمع في الدول المتقدمة، فمن ناحية كان المجتمع يتجه الى المزيد من الاحساس بالمسؤولية والمزيد من تحمل الوظائف العامة في الوقت نفسه كانت الدولة تتجه صوب اشراك المجتمع في الادارة والسلطة. وعندما تأسست منظمات المجتمع المدني وجدت نفسها قادرة على أداء ادوار مهمة سياسية واجتماعية فكان بروزهذه المنظمات ونشأتها جاء منسجما مع مراحل تطور الدولة والمجتمع.

اما في المجتمعات المتخلفة فالأمر يختلف تماما فليس لمنظمات المجتمع المدني أي اثر يُذكر واذا كان لها وجود فانها تحسب في العادة على قوى المعارضة وذلك لعدم توفر الظروف الاجتماعية والسياسية لبروز هذه المنظمات.

ففي العراق وبعد سقوط النظام الدكتاتوري انتشرت منظمات المجتمع المدني بشكل غير طبيعي واصبح لها وجود كبير وهذه حالة حضارية وسليمة لكن لم يكن نشوؤها منسجما مع تطور المجتمع العراقي الذي لا يزال يعاني من الفردية وسيادة الطابع الدكتاتوري على المجتمع مما افرز حالة من الفئوية والحزبية والطائفية وهذه النتائج تتناقض والمعيار الحضاري الذي يسمح بنشوء منظمات المجتمع المدني فبعد السقوط حدثت فورة في تشكيل الاحزاب والمنظمات كوسيلة للوصول الى السلطة ولم يكن نشوؤها متطابقاً مع التطور الاجتماعي والسياسي في العرق إذ كان يفترض ان تنموهذه المنظمات مع نموالحس الاجتماعي بالتعاون والحس السياسي بالمشاركة وعند مستوى محدد من التعاون والمشاركة تشرع هذه المنظمات بالتكون لكن هذا لم يحدث في العراق. بل الذي حدث هومجرد سباق على المناصب والسلطة وقد انعكس ذلك على تكوين مؤسسات المجتمع المدني حتى تجاوز عددها الألف والخمسمائة فكان لابد من رعاية هذه المنظمات ودعمها لتتطور ضمن تطور المجتمع والدولة في العراق. وقد راعينا هذاالموضوع في الدستور في المادة (43) وفرضنا على الدولة مساعدة هذه المنظمات على التطور حتى تستطيع ان تؤدي الأدوار الموكلة لها وكان نص المادة قبل ان تُعَدّل في لجنة كتابة الدستور: تحرص الدولة على تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها واستعدالها وتمكينها من التواصل بمؤسسات المجتمع المدني في الخارج. وقد اعترضت على فقرة (وتميكنها من الاتصال بمؤسسات المجتمع المدني في الخارج) وكان الاعتراض مبني على امرين، الاول: ان المادة تفرض على الدولة مسؤولية نحومنظمات المجتمع المدني بعبارة اخرى تمكنها من التواصل مع مؤسسات المجتمع المدني في الخارج وهذا امر يتناقض مع فلسفة هذه المؤسسات التي نشأت بمعزل عن تأثيرات الدولة وبعيد عن تدخلانها حتى تكون رقيبة ومقومة لوظيفة الدولة، فأي تدخل من قبل الدولة في شؤون هذه المنظمات يفقدها مصداقيتها ويجعلها منظمات تابعة لاتملك استقلاليتها وعليه كان لابد من الغاء أي مسؤولية تقوم بها الدولة ازاء هذه المنظمات الا مسؤولية السماح بتكوينها.

والامر الآخر ان مؤسسات المجتمع المدني في الخارج يغلب عليها الطابع العلماني الذي يدعوالى حرية مفرطة في مناحي الحياة وبالأخص من ناحية المرأة، ويدعوالى فصل الدين عن السياسة وبعض هذه المؤسسات تدار من قبل مؤسسات مشبوهة كالصهيونية العالمية الامر الذي يجعلها في معرض الشبهة والتساؤل وعلامة الاستفهام ويدعونا للتريث في ربط منظمات المجتمع المدني في العراق بتلك المنظمات وقد اعترضت اشد الاعتراض على هذه الفقرة وطالبت بحذفها لخطورتها وفعلا حُذِفَت واستبدالها بالنص المشار اليه والذي بات أكثر ملائمة للأوضاع في العراق واكثر انسجاما مع تطلعات الشارع العراقي المعتقد بالمبادئ الاسلامية والذي لا يرضى بأي تأثير خارجي يحاول التقليل من نشأة الرسالة الاسلامية.

التعليم الخاص

يُعد التعليم عصب الحياة الثقافية والسياسية في المجتمع المتحضر من دون التعليم يصبح المجتمع عرضة للجهل والخرافة والتخلف الثقافي والاقتصادي.

ولذا تجهد الحكومات إلى إعطاء التعليم الدور المميز في بناء المجتمع. ولاشك فالدولة غير قادرة على تأمين هذا الجانب لجميع ابناء المجتمع لذا كان من اللازم فتح المجال امام التعليم الخاص، وفي العراق حرم الشعب من التعليم الخاص بسبب سياسات النظام الشمولية والتي لا تسمح بأيّ مشاركة في بناء المجتمع والدولة. لكن عجز الدولة عن توفير التعليم لجميع قطاعات المجتمع بالاخص التعليم الجامعي جعلها توافق على تأسيس بعض الكليات الأهلية وذلك في السنين الاخيرة من عمر النظام وبسقوط النظام اصبحت الابواب مشرعة امام التعليم الخاص فقامت عدة جامعات وكليات أهلية.

 ولما قامت سياسة الدولة على التخفيف من كاهل الوزارات وفسح المجال أمام القطاع الخاص للنمووالانتشار كان لابد من الاعتناء بالتعليم الخاص واعطائه حيز من الأهمية فجاء النص كالاتي: التعليم الخاص والأهلي مكفول وينظم بقانون.

لكن هذا النص وقبل أن يصبح بهذا الشكل كان على صورة اخرى وهي: تضمن الدولة حرية التعليم الخاص

ومعنى ذلك ان التعليم الخاص وفق هذا النص لا يتقيد بمعايير معينة فهوحر في تنظيم المناهج والدروس وحر في اقتباس الاساليب التربوية وحر في اعطاء بعض الدول الحق في إقامة مدارس خاصة بمناهجها الخاصة والتي ربما لا تتفق وثقافة المجتمع العراقي.

ولما كان هذا الدستور يبني اساساً للمجتمع العراقي لعدة عقود وربما لعدة قرون فكان من الطبيعي ان يتفهم المشروع ابعاد هذا النص وآثاره على الصعيد الاجتماعي والثقافي.

ولما كان انشاء مؤسسات التعليم الخاص متاح لكل من يريد ذلك بشرط توفر المستلزمات الاساسية من مبنى وكادر تدريسي فان المشكلة تبدومؤكدة لوسمحنا لبعض مرضى النفوس من استغلال هذا النص وفتح مؤسسات للتعليم الخاص لافساد المجتمع العراقي وليس لاصلاحه من خلال تدريس بعض المواد السامة على ثقافة الشعب وفكره.

من هذا المنطلق اعترضت على هذا النص اشد اعتراض حتى حُُذِفَ واستُبدِلَ بالنص المشار اليه. وبذلك خلصنا العراق وشعب العراق من لغم قابل للانفجار في أي لحظة من اللحظات. بينما اصبح النص الجديد فيه حث وتحفيز للدولة على دعم التعليم الخاص والنظر اليه بعدّه متمما للتعليم الحكومي الرسمي. وعلى هذه الفكرة ستوضع آليات ونظام للتعليم يكفل تقدم التعليم الخاص القائم على أسس رصينة منسجمة مع تطلعات الشعب العراقي.

حزب البعث في الدستور

جرى سجال طويل حول ذكر حزب البعث والبعثيين في الدستور. بين معارض لوجود مثل هذا النص وبين مؤيد بل ملح على وجود مادة في الدستور تحظر على حزب البعث فكرا وممارسة وقد نوقش هذا الموضوع في عدة اجتماعات من اجتماعات لجنة كتابة مسودة الدستور وكانت هناك ثلاثة مواقف.

موقف يقفه الاخوة الذين شاركوا اللجنة الدستورية من السنة العرب الذين رفضوا هذه التسمية وفضلوا أن نناديهم بالمقاطعين للانتخابات هؤلاء كانوا يصرون على عدم وجود أي نص يتضمن الحظر على حزب البعث. وكان من بين هؤلاء لا يرى بأسا في حزب البعث وانه حزب مناضل وتقدمي وكان يدعوللتفريق بين حزب البعث وعصابات صدام حسين.

والطريف إن احد هؤلاء واثناء دفاعه عن حزب البعث جاءنا النبأ بمقتل الدكتور مجبل احد الاخوة السنة المشاركين في كتابة مسودة الدستور وكان المتحدث يجلس الى جانبي فقلت له عند وصول خبر مقتل مجبل: سيأتي دورك ايضا اشارة الى ان حزب البعث الذي تدافع عنه هوالذي سيفتك بك كما قتل الدكتور مجبل.

ولم يتباطء هذا المتحدث الذي لا أريد ذكر اسمه للرد عليّ: بأننا مستعدون للموت.

أما الفريق الثاني يرى ضرورة التمييز بين حزب البعث وعصابات صدام فكان يرى وجود عبارة حزب البعث سيخلق مشكلة مع الحكومة السورية فالافضل ذكر حزب البعث الصدامي بدلامن حزب البعث.

وقد اعترض البعض على وجود اسم صدام في الدستور وانه لا يستحق هذا الثناء حتى لوكان ذما فجاءت إجابة احد الأعضاء بان القرآن الكريم ذكر فرعون وهامان والكثيرمن الطغات.

وموقف ثالث كان يقفه اكثر اعضاء اللجنة يرون ضرورة وجود مادة تحظر على حزب البعث أي نشاط فكري اوسياسي وتنطلق هذه المجموعة من وضع حزب البعث والحزب النازي على قدم المساواة فلا بد من القضاء على هذا الحزب حتى لا يعود من جديد.

ونتيجة للمناقشات التي جرت بين هذه الاطراف الثالثة ثُبّتت المادة(131) بعد مناقشات مستفيضة وهي تواصل الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث اعمالها بوصفها هيئة مستقلة، بالتنسيق مع السلطة القضائية والاجهزة التنفيذية في اطار القوانين المنظمة لعملها وترتبط بمجلس النواب. وتحت إصرار (العرب السنة) وضعت فقرة تعطي الحق لمجلس النواب القادم حل هذه الهيئة عند الانتهاء من مهمتها بثلثي أعضاء المجلس، وظلت الضغوط على لجنة الدستور مِن مختلف الجهات، فخففت الفقرة إلى إعطاء الحق للأغلبية المطلقة في حل هذهِ الهيئة بدلاً مِن ثلثي الأعضاء.

واستمرت الضغوطات الهائلة باتجاه إلغاء هذا النص لكن اصرار أعضاء اللجنة على موقفهم حال دون إلغائه، إلا انه حدثت بعض التعديلات. إذ أضيفت فقرتان إلى الفقرات الاربعة للمادة.

الفقرة الأولى: لا يعد مجرد العضوية في حزب البعث المنحل اساساً كافياً لاحالته إلى المحاكم.

 والفقرة الثانية يعطى لمجلس النواب الحق في تشكيل لجنة نيابية مِن أعضائه لمراقبة ومراجعة قرارات هيئة اجتثاث البعث.

لم تفلح كل الجهود ىالتي بذلها الفرقاء المختلفين في الغاء النص أوتغييره بل انتصرت ارادة الشعب العراقي مِن خلال تثبيته على رغم الجهود السلبية والضغوطات المبذولة.

تعديل الدستور

ليست هناك مسألة مهمة كمسألة تعديل الدستور. إذ إنّ الدستور يعد أبوالقوانين فلابُدّ أن يحافط على ثباته قدر الامكان وان لا يصبح عرضة للتلاعب والتغيير. وقد عانى العراق الكثير مِن الدساتير والقوانين التي كانت عرضة للتغيير والتبديل بين عشية وضحاها. لذا كان موضوع تعديل الدستور مِن المواضيع المهمة والحساسة جداً.

ويتركز الموضوع في أمرين: مَن له الحق في المطالبة بالتعديل ؟ ومَن الذي له صلاحية التعديل؟

وكنت مِن المشددين في هذا الموضوع بينما كان هناك مَن لا يرى بأساً في التخفيف فاقترحت اختيار السقف الأعلى مِن القيود التي تضيق على التعديلات التي وراءها منافع شخصية.

وقد رفضت النص المقدم مِن لجنة الأحكام الختامية والمتضمن عبارة لرئيس الجمهورية أومجلس الوزراء أوخمس أعضاء مجلس النواب اقتراح تعديل الدستور.

وفي بيان استدلالي على نقض هذا المقترح ذَكَرتُ لأعضاء اللجنة ما حدث في لبنان إذ طالب رئيس الجمهورية اميل لحود مجلس النواب اللبناني بتعديل نص المادة الذي يمدد المدة الرئاسية لرئيس الجمهورية من خمس سنوات إلى سبع سنوات. وقد قام رئيس الجمهورية بالضغط على النواب للموافقة على هذا المقترح وفعلاً عُدِّل بصورة غير طبيعية وقد خلق هذا الخرق أزمة حادة في لبنان لازلنا نعيش نتائجها حتى هذهِ اللحظة، فقد أوجد هذا التعديل الذي تم لتحقيق مصالح آنية صراعاً سياسياً وفجّرجملة مشاكل كان لبنان في غنى عنها واستثيرت كل من الولايات المتحدة وفرنسا ضد رئيس الجمهورية لهذا العمل الذي قام به. وكان مِن نتائج ذلك خروج القوات السورية مِن لبنان وتغيّر ملحوظ في الحكومة وبالتالي تحول في تركيبة الحكم ونمط النظام السياسي الذي كان يحكم لبنان.

 وبعد أن ذكرت لهم ماجرى في لبنان طلبت وبالحاح أن لا يُعطى لرئيس الجمهورية وحده الحق في المطالبة بتعديل مواد الدستور.

فوافق السادة الأعضاء على مقترحي وهو: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين الحق في تعديل الدستور وليس لرئيس الجمهورية أورئيس الوزراء. إذ ربما يحدث طارئ في البلاد يستوجب تعديلا في الدستور فلا بد ان يتم الطلب من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء معا.

اما الموافقة على التعديل فلا بد من التشديد عليه ايضا فطالبت بان يُعدّل بموافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب وموافقة الشعب في الاستفتاء العام. وقد تمت الموافقة فعلا على هذا المقترح وبذلك ضمنا حداً وسطاً بين جمود الدستور وحركيته فلا الدستور الجامد يستطيع حل المشكلات الطارئة على الساحة العراقية ولا الدستور المتحرك بقادر على الحفاظ على هيبة الدستور، من هنا كان مبنى اعضاء لجنة الدستور فتح المجال امام التعديل لكن بصورة ضيقة منعا للتعديلات التي تتم بسبب رغبات شخصية اوفئوية اوحزبية.

اما بالنسبة للمبادئ الاساسية للدستور التي ذكرت في الباب الاول والثاني كان الرأي بأن تبقى هذه المبادئ ثابتة غير قابلة للتعديل. لكن كان هناك رأي آخر يقول لماذا نحمل الاجيال القادمة امورا نراها من المسلمات في الوقت الراهن وربما لا يراها الجيل القادم من المسلمات. واستنادا لهذا الرأي كان المقترح ان نعطي فرصة ولوبعد دورتين لامكانية التعديل في الباب الاول والثاني وقد تمت الموافقة على ذلك ايضا فجاءت المادة (122) بعد المناقشات المستفيضة كالآتي.

اولا: لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء اولخمس (5/1) أعضاء مجلس النواب اقتراح تعديل الدستور.

ثانيا: لا يجوز تعديل المبادئ الاساسية الواردة في الباب الاول والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور الا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناءً على موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.

ثالثا: لا يجوز تعديل المواد الاخرى غير المنصوص عليها في البند ثانيا، من هذه المادة الا بعد موافقة ثلثي اعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة ايام.

شبكة النبأ المعلوماتية -الخميس 8/كانون الاول/2005 -  5/ذي القعدة/1426