منْ حرق باريس ؟؟؟

قاسم محمّد الكفائي*

الأحداثُ التي أحرقتْ نارُها آلاف السياراتِ في ضواحي العاصمةِ الفرنسيةِ باريس، لم تكنْ أحداث شغبٍ مثلما هي رٌدّ على واقع ٍسيىءٍ موجودٍ ومفروض. هذه الأحداث صار لسانُ حالِها ألسنة ُ النيران ِالمشتعلةِ فيها عرباتٌ مدنية ٌ ليس بالضرورة أن تصل الى هذا الحد لو كان من أعيان مجتمع ضحايا ذلك الواقع السيّىء يعرفون كيف  يكشفون الستر عن المستور، أو كيف تُشخّص العِلل، وكيف تُوّظف خفاياها لمصلحة المُطالبين بحقِهم في العيش الكريم. مازلنا نحن المغتربين من العرب والمسلمين لا ندرك حقائق هامة نعيشُها في واقعِنا، ونمارسُها بغفلتِنا ولا نعلمُ أسرارها، أو ندري كيف نتحاشاها. في فرنسا أقوامٌ مختلفة ٌومتباينة ٌ في الدين واللغة والعِرق، ومن بين هذه الأقوام همُ العربُ والمسلمون، يشغلون مساحاتٍ واسعةٍ من  مدنِها. فمنهم من قدِم الى فرنسا حديثا، ومنهم من وُلِد فيها حفيدا  لجدّه الذي عاش فيها منذُ أكثر من مئةِ عام ٍأو أقلّ بقليل. فالذي عاش قِرنا في هذه البلاد كموروثٍ لجدِّه لايمكن أن نُصّنِفهُ على أنه مازال يستجدي من دوائر الهجرة الفرنسية وثائقا لثبوتِ هويته، أو يتقاضى حقوقه منقوصة. الصحيح أن يكون هذا الحفيد هو فرنسي من الدرجة الأولى وهو إمتدادٌ لجده أو أبيه اللذين قدِما الى فرنسا وأخلصا لها بعملِهما الدؤوب حتى ماتا فيها. هذه الحقيقة هي المعيارُ العام للعلاقةِ ما بين الأنسان والأرض ومن طرفِها الأنساني الذي تؤكده الدوائرُ العالمية التي تعمل على صيانةِ حقوق الأنسان، وحتى الدوائر الرسمية الفرنسية بظاهرِها العام.

 الأحداث كما عرفناها أنها أحداث شغبٍ بينما حقيقتها هي ردّ فعلٍ لممارساتٍ عنصرية غير إنسانيةٍ كانت تقوم بها جهاتٌ رسمية ٌ فرنسية ٌ لعزل شريحة عن الشرائح الأخرى، وتعطيل حياتها بعد طمس كلّ معنوياتِها الشخصيةِ من مثابرةٍ وجدٍّ واجتهاد، وعدم التعاطي معها بما يضمن نجاحها  بأخفاء أسباب النجاح التي تمارسها شريحٌة أخرى في المجتمع الفرنسي. لو سلمنا الى هذا الرأي، لابدّ من التشخيص،  ولابدّ من التعبئة وكشف المستور ليكون حُجّة على بيّنة. فآلاف الشباب الذين ضاقت بهم سُبلُ العيش حتى إنفجروا وكأنهم لهبا من نارٍ، ليحرقوا آلاف السياراتِ المتوقفةِ في الساحاتِ العامةِ والشوارع كوسيلةِ إحتجاج وإعلان ٍ لظليمتِهم، لم تكن عبثا ولا زيفا ولا نفاقا، وإنما هي تعبيرٌ عن واقع ٍمُلوّثٍ ومشحون، لو تفهّمناهُ هو أكثرُ مرارة وخطورة من السياراتِ المحروقة. التشخيص بالأسباب وخفاياها يحتاج الى شجاعة، ويحتاج الى توضيح برؤى تُعادل في آفاقها خبايا وأسرار الحدث. فالمسئول الأول هو جهاز المخابرات الفرنسي الذي يُخطط ويعمل على تعطيل حركة شرائح من المجتمع الفرنسي حتى لا تكون لها قوة وتبقى خاوية. وهذا مُخططٌ رسميٌ غير مُعلن، ويُعدُ من أخطر موروثاتِ الديمقراطيةِ وحقوق الإنسان المزيفة. لوعرِفنا جهاز المخابرات  في بلداننا على أنه جهاز تجسس على المواطن والقمع العلني، فإنه في بلدان حقوق الإنسان وسيلة تعطيل وحواجز وإذلال ومكر تهدّد بها الأنسان وحتى الأمم، وهو إبداع في الاغتيال وابتكار الحيل. فيبقى ثوبها طاهرا، وتبقى هي مصونة من الرجس، وتبقى الضحّيُة هي الضحية. بهذه الدراية نعرف أن الشباب الهائج والثائر هم ضحايا إجراءات أجهزة المخابرات الفرنسية التي تمتد لعشرات السنين بعملٍ متواصلٍ لعزلِهم عن الشرائح الأخرى. يبدأ هذا الجهاز أولا بتشجيع الضحية الفتى على تصرفات ليست له بها سابقة، فجرُه الى التدخين مثلا  بواسطة قنوات شبابية كمثلِه في الثانوية أو المعهد والكلية والشارع تمهيدا لوصول القنوات الأخرى التي ستشجعهُ هي أيضا على تناول المخدرات التى  تدفعُه الى حُبِ البطالةِ  مدعوما  بمرتب الضمان الأجتماعي ( الويلفير) وبالحدّ الأدنى ( قوُت لا تموت )، ليكون الضحيةُ بعد وقوعه في الفخ آخر الركب متوسدا غفلتهُ وفشلهُ على رصيف الضياع. ولما يصل الى هذه المرتبة السفلى في مجتمعِه لا يمكنه أن يعرف كيف يجد أسباب الرقي والوصول الى العمل أو مدارس العلم والمعرفة التي تصلها الشريحةُ التي  تريدها تلك الأجهزة أن ترتقي قبل غيرها. فالأحياء المتخلفة التي يتجمع فيها هؤلاء الضحايا على مشارف باريس هي من عمل أجهزة المخابرات لتسهيل وصول مادة المخدرات أو أية مادة تعمل على تخلفهم أو تكون حاجزا لصدهم عن أهدافٍ إنسانيةٍ مشروعة يحلمون بها. كما يسهّل ممارسة التجسس في تجمعاتهم بتوظيف عناصر قذرة من نفس الشريحة الخاوية، كما تسهّل هذه التجمعات ممارسة الدراسة عليهم ما قبل الإبداع والتخطيط لمواصلة تحجيمهم وتشويه قيمهم وآمالهم التي بنو عليها مستقبلهم يوم دخولهم فرنسا. صحيح هناك عرب ومسلمون في مصاف الشرائح الأخرى متفوقون ومتقدمون على غيرهم، فهؤلاء هم حُجة تستخدمهم تلك الأجهزة من حيث يعلمون أو لا يعلمون لتواصل إهمال وسحق الغالبية الآخرين على أنهم كسالى ومنبوذون بما ليس في غيرهم. ثم أن الدولة هي بحاجة لوجهاء أو ممن يعيشون كحالة وسط في عيشهم وثقافتهم ليكونوا مرآة شريحتهم. وحتى المستفيدين لو عزلناهم عن بعضهم سنجد أن للمخابرات أغراضا أخرى بهم كونهم ينتمون الى مدارس مذهبية وعلمية وثقافية هم يريدونها ويروجون لها. فالممارسات خطيرة بخطورة نتائجها وعفوية آلياتها في أعين الغافلين، وتقديرنا أن هذه الممارسات هي أكثر خطورة مما نشهده في بلداننا لو وقفنا على حقيقتها بذهنية تتقبل تفاصيلها، هذا ما لا نجدهُ عند عامة الناس أو مثقفيهم حيث أن قدراتِهم لا تستوعب حقيقة تلك الممارسات التي هي خارج حسّهِ وإدراكهِ مهما كانت قيمته مالم يكن في جاهزية حسّية وقوة إدراك تدفعها خلفية في عالم التجربة. المخابرات الفرنسية كان دورها في الأحداث هو التخطيط  للتقليل من أهمية ما يجري مهما كان مُكلِفا، كذلك تحجيم الحدث بأحتواء عناصره الرئيسيين وعزلهم عن ساحتهم واختراع الحُجج والتلفيقات لضربهم وتشويه شرعيتهم. المشهد لا يمكن وصفه على لوحة فنان ولا بكتابة أسطر على صفحات معدودات، وإنما هو اللغز الذي يحتاج الى حلّ بيدٍ وعقلٍ تُشابه في حنكتها عقل المخططين له ويد المنفذين. المطلوب هنا هو نصرة هؤلاء المحرومين والمُستهدفين والمستضعفين بالعمل الجاد على كشف المستور وفضحه وتعطيل فاعليته. هذا الموقف الشجاع يحتاج الى وجوهٍ ونفوس نزيهةٍ ليس من الكوادر التي يمكن الالتفاف عليها بحجة أنها مركز إسلامي مصدره هذا وآخر قانوني مصدره ذاك، لأن المخابرات الفرنسية ومنذ اليوم الأول للحدث جنّدت عملائها من نفس الشريحة للقيام بواجباتِهم المرسومة، وهيّئت وجهاء دينيين ومثقفين لنصرتهم عند الحاجة، وسخّرت وسائل إعلام ٍ للتطبيل والتضليل، واتفقت مع دوائر دبلوماسية عربية واسلامية لنجدتهم عند الشدة. هؤلاء المستضعفون أقوياء فقط بعزيمتِهم وغيضِهم وغضِبهم، ولما أخمدوا بركانهم قامت تلك الأجهزة بضربهم وتشتيت قواهم أمام أعين المنتفعين من شريحتهم بذريعة تطبيق القانون. فما يخبئهُ لهم جهاز المخابرات الفرنسي المُختص ما بعد الحدث سيكون أعقد الحيل لاحتوائهم وأقساها، بينما ستضاعف لهم وجبات المخدرات، وستضاعف بينهم عناصر الشر، وستعمل على تفتيتهم تحت فيء الديمقراطية وحقوق الإنسان. فالذي أحرق باريس هم مخابراتُ فرنسا أولا، وحكومتـُها ثانيا، والمنظمات أو الهيئات العربية والأسلامية، وكلُّ أمنائِها والوجهاء من المنتفعين فيها ثالثا. الحكومة الفرنسية تعلم بتصرفات هذا الجهاز، على الرغم من أنها لا تريد أن تعلم. فعندما تجد نفسها مضطرّة لحفظِ ماء ِ الوجة، تظهر على وسائل الأعلام وتغرّد بلحنِها الجميل على أوتار الحدث كأنها مازالت عذراء. فما جرى في فرنسا سيتكرّر فيها ويمتدّ ليشمل العديد من دول أوروبا وخاصّة بريطانيا التي هي مصدر كلّ رذيلة، ومصدر الدفاع عن حقوق الإنسان المُغفل، وكذلك ليشمل الدول التي مازالت تلعب وتتخفى بهذه المفاهيم الجميلةِ المقيتة. نُذكر القارئ الكريم بأننا سنفتح وفي الوقت الذي ننتظرُ حلوله أخطر الأبواب لهذا الجهاز الذي يتربص بالإنسان ويتربص بوجودِه ويهدّد ثقافته وقيمه. وما نكتُبه أو سنكتُبه لا نعني به أننا نأمن جانبه، أو نحن في حلٍّ منه، لكن تجربتنا فاضت بمواجهاتِ واقع ٍمريرٍ ثمّ آخر أمرّ منه، وليس بوسْعِنا الصمْت.

*كاتب عراقي - كندا

alkefaee_canada@hotmail.com

شبكة النبأ المعلوماتية -الخميس 1/كانون الاول/2005 -  28/شوال/1426