حذارالـفراغ.. فلنبدأ من هـنا

المهندس فؤاد الصادق*

لاشك ان قسما من التدني في عدد المشاركين في الإستفتاء نسبة إلى المسجلين في بعض المحافظات مقارنة مع ما كان في الإنتخابات الماضية وفي نفس المحافظات يعود إلى عدم التقدم في السياسات المواطنية والخدمات، إضافة إلى إهتزاز المصداقية، للفساد الإداري والهدر والإهدار المالي، وعدم وجود ستراتيجية معلنة ومفهومة للشعب،هذا إلى جانب عدم وصول النص النهائي المعدل للدستور إلى الجميع،وفي الوقت المناسب، وذلك للتاخر الكبير والمفهوم في حسم ماسمي بتعديلات اللحظة الأخيرة، والتي كانت ضرورية، والنتائج الأولية للإنتخابات أثبتت مدى ضرورتها، لكن الأقتصار على ذلك لتفسير الظاهرة المتقدمة يكتنفه التبسيط، حسب متابعاتي واحيانا بصورة مباشرة ومقارنة لاخر الاحصاءات.

إذن ماهو السبب في التدني المذكور ؟

أتصور أن هناك أزمة مستفحلة وقديمة في واقعنا تتمثل في البحث عن الكمال... البحث عن عن دستور نموذجي بالكمال والتمام كي نصوت عليه بـ  نـعـم، البحث عن دستور إيجابي من ألفه إلى يائه، إلى جانب

مايزيد الطين بلة، والمتمثل بعدم القبول بفكرة الحلّ الوسط، أو ستراتيجية الحل الوسط، سواءا مع أنفسنا لإتخاذ قرار ما، أو مع الأخر والأخرين الذين نختلف معهم لسبب، أو لأخر، فنرفض رفضا باتا القبول بمبدأ الخسارة فالربح، اوالربح فالخسارة، لانقبل بمبدأ الأخذ والعطاء، كي يستمر الحوار، ويتقدم التفاوض، ويكتب للتوافق المترتب عليه الحياة والإستمرار، فمن يريد الربح، لابد وأن يقبل الخسارة، وبرحابة صدر طبعا بعد مفاوضات ومفاوضات، كي لايستصغر الرابح في الجولة ماربحه، ولمن يريد أن لايخسر بإستمرار أن يقبل ويتقبل دفع الثمن، فلكل شيء ثمن، ولامفر من دفعه، فلابد أن نعطي شيئا كي نأخذ شيئا مقابلا ومكافئا، وهكذا مرة الربح لك والخسارة  لي، وفي الجولة التالية من المفاوضات سيكون العكس، الخسارة اولا لي، ومن ثم الربح لك. فكل من :

الميل إلى البحث عن الكمال ورفض الحل اوالإقتراح الوسط  ورفض أن الخسارة والربح توأمان جزء من الأزمة، لكن المشكلة لاتتوقف عند هذا الحد، هناك أزمات اخرى ترتبط بموضوعنا منها :

رفض الإنصياع إلى الواقع بالتنازل من من الحلم إلى الممكن، من الطموح إلى الهدف، من غير الممكن إلى الميسور، والذي يستدعي التواضع للواقع، بقبول التفكير والبحث لإختيار بين السيء والأسوء، بل وبين الفاسد والأفسد، حين نصطدم بالانسداد، ونصل إلى طريق مسدود تماما حتى الإقتراب من الحسن والصالح، ناهيك عن الأحسن والأصلح، هذا في الوقت الذي نجد نحن أنفسنا ويوميا وفي اغلب مواقف إتخاذ القرار وفي الأمور والظروف  العادية واليومية محصورين ومحاصرين بين السيء والأسوء، وبين الفاسد والأفسد، فأي  مسح لحياة الأفراد أو الأمم يكشف أنهم وفي الغالب مخيرون في دائرة ضيقة، اضافة إلى أنهم مخيرون بين السيء، وماهو أسوء منه، مخيرون بين ماهو فاسد تماما، لكنه فاسد مقارنة بالأفسد منه، نادرا، أو قليلا مايكونو مخيريين بين خيارصالح، واخر أصلح، اوبين حلّ حسن، واخر أحسن منه.

محور الكلام بعيدا عن الإطالة في المقدمة أنه مع مباركة إقرار الدستور، أو سقوطه، لانه يعكس إرادة الشعب ووليد اليمقراطية المأمولة، وإنْ كنت أرجح إحتمال إقراره طبقا لأخر المعلومات المستقاة من مصادر متعددة ومتخالفة، لكن إقرارا حرجا، أي النقض ربمايكون قريبا من القدرة على الإسقاط، وذلك أنْ دلّ على شيء إنما يدل على ان قطار الديمقراطية في العراق قد وضع على السكة، وبدأت القطار حركته بعد أرتقى القطار عدد أكثر وبتنوع أكبر، وهذا في حد ذاته بارقة أمل جديدة تبشر بالخير ايا كانت النتائج، والمزايدات والتصريحات التي لايمكن تفسيرها الإ البدء المبكر لشد الأحزمة للإنتخابات والدعاية لها...

أجلْ انها بارقة، أمل وأنْ كان البعض يرى انها ولدت يتيمة , ابدا يجب أن تستثمر هذه البارقة، ويستمر الحوار لإبداع حلول وسط جديدة في ضوء المفاهيم المتقدمة، والواقع المعاش القائم على الارض، دون تهميش اوتضخيم، أو إقصاء اوحذف اوإستئصال، لجهة اوفرد، وبنفس طويل، لجدة الديمقراطية ميدانيا، وغربتها في الأحزاب والمنظمات والمؤسسات والأحزاب والنقابات، بل وحتى الأفراد غالبا، ولأزمة الثقة العميقة التي زرعتها الإنظمة السابقة ولـ....، وان يتهيأ كل طرف لتجاوز الحيرة بقبول حسم الأمر بقبول السيء مقابل الأسوء، فهذا  قدر الإنسان عموما وغالبا عند الحيرة بين الشرين، لامناص من إختيار أهون الشرين، فإذا كان قدر الأفراد والجماعات في الظروف العادية كذلك، فكيف الأمر في الظروف الإستثنائية الصعبة الحرجة المصيرية االمعقدة، كظروف عراقنا الحبيب، والسؤال الذي يفرض نفسه في ضوء ماتقدم :

لو تمّ إسقاط الدستور قانونيا وديمقراطيا وبنزاهة معقولة مقبولة طبقا للمعايير الدولية، سيستمر العمل بقانون إدارة الدولة المؤقت للمرحلة الإنتقالية، لنعود إلى المربع الأول، فنبدا من نقطة الصفر، وفي ظل الوضع المأساوي الخدماتي الأمني الصعب الذي بات يرهق المواطن، وربما يهدد بإنتقال البعض إلى اليأس من العملية السياسية والدمقرطة برمتها، فتغدو الساحة خالية للدخلاء وأعداء الديمقراطية و...، إضافة تأجيل البدء بإعمار العراق، وتأخر التنمية الضرورية والحياتية لإنجاح المشروع الديمقراطي في العراق، ليتحول إلى مثل جذاب جذبا ذاتيا للإحتذاء الطوعي به :

فهلْ إستمرار العمل بقانون إدارة الدولة المؤقت للمرحلة الإنقالية هو السيء، والدستور الذي تم عرضه للإستفتاء السبت الماضي هو الأسوء كي يتم كل ذلك التحشيد والتحريض والتأليب لرفضه !؟

أمْ العكس هو الصحيح ؟

هلْ قبول الدستور الأخير الذي عاد قابلا للتعديل وفق الأليات المرسومة في تعديلاته الأخيرة هو الأسوء نسبة إلى مايقابله كي يرفض ؟

أتصور إذا كان الكلام عن السيء والأسوء في الحالة هذه متاحا، فلاشك ان قانون إدارة الدولة المؤقت لايمكن الإ أن يكون الأسوء، والدستور هو السيء، طبعا وفقا لمنْ دعى وحرض لرفضه، مع الإعتذار سلفا لمن صوت بـ نعم ايضا، والى كل منْ ساهم في كتابته وصياغته وترميمه في اللحظات الأخيرة من العراقيين وأصدقاء العراق، وعليه كان الأفضل قول الحقيقة للشعب، وكشف مواطن الضعف والقوة، وترك الحسم إليهم، مع العمل الدؤوب الجاد المتعاضد لتعديله بالطرق المقررة دستوريا، بالحوار البناء البعيد عن المزايدات، وفي دائرة الحلّ الوسط، ومبدأ الربح والخسارة المتناوبة للطرفين، وخطوة بعد خطوة، وبالمرحليةالمفقودة من قاموس عملنا السياسي، والتي تشكّل علة العلل في التقهقر والتراجع،فالوقوع في فخ اليأس والتشأوم والسلبية، وربما العنف، والإرهاب، وحتى الإرهاب المضاد.

أتصور اننا  يجب أن نبحث عن الطريق لتكريس وتأصيل وتقديس جملة من المباديء في ممارساتنا اليومية، والتي تعتبر بحق من حواضن الديمقراطية وملازماتها :

1- ثقافة الحلّ الوسط.

2- ثقافة الحلول الواقعية، وحصر البحث عن النموذجي والكامل والكمال ( والكمال لله وحده) في مجال الدراسات النظرية والبحوث العلمية.

3- ثقافةالقبول بالخيار السيء حين تكون الخيارات المتاحة محدودة بين السيء والأسوء فقط، اوبين الفاسد والأفسد، إلى جانب ثقافة التدريب لإتقان ممارسة ذلك ميدانيا.

4- ثقافة اعط لتأخذ.. وخذْ لتعط، ومبدأ خسارة - ربح، ربح - خسارة.

 5 - ثقافة المرحلية والإبتعاد عن حرق المراحل والقفزات النوعية.

6 - ثقافة عدم الإستقواء بالخارج، فلاصداقات دائمة في السياسة، ولا عدوات دائمة فيها، فالدعم المتأتي عن هذا الطريق  سيكون مؤقتا، ويمكن أن تنقلب صداقة اليوم إلى عداوة في عالم السياسة والمصالح، وعليه :

فالأفضل حفظ الصداقات والتحالفات وتجنييدها للصالح العام لتكثيف الدعم الشعبي، والإعتماد عل الوقائع القائمة على الأرض وبكل  واقعية لتحقيق الممكن خطوة خطوة، لتمكين الأخر من فهمها وتفهمها والتأقلم معها.

فهذه أولـيـات حواضن الديمقراطية  الثقافية الملحة للتحول إلى وعي معرفي في الحياة اليومية العامة والسياسية،طبعا إلى جانب المؤسسات والأحزاب والمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني والحريات والإعلام الحر المستقل التعدديالمسؤول.

7- ثقافة الإستقواء بالجماهير لدعم الديمقراطية: و هذا يستدعي البقاء بين الجماهير، والتعاطي معها بكل تواضع عملي وملموس و تفاهم و تفهّم و مدارة و حب مع تكريس المصداقية والشفافية والامانة و تقديس وترشيد الأعمار و رفع مستوى الخدمات و جميع السياسات المواطنيه لتضميد الجراح و عودة الشعب العراقي كل شعب العراقي إلى مراحل العملية السياسية القادمة بمشاركة واعية و فاعلة و حاسمة و متواصلة، فالتدني في نسبة المشاركين من المسجلين في بعض المحافظات يعتبر  ناقوس خطر يحب أن تفتح الآذان له، و يعالج بسرعة و موضوعية، والخطوة الأولى مع كل ما يتقدم يتمثل في بتحويل الدولة بسلطاتها الثلاث، والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات و الجمعيات و.... إلى تكريس داخلي فاعل للديمقراطية في قراراتها و نشاطاتها و اعمالها و تعاملها مع الجماهير مع نبذ النظرات الحزبية الضيّقة الموروثة من الأنظمة السابقة، ومن الديكتاتورية، فالشورى والديمقراطية والحل الوسط والواقعيّة و العقلانية و... تبدأ زراعتها من الطفولة و رياض الأطفال لتبلغ اوجها في الأحزاب و المؤسسات والجمعيات و النقابات ليبدأ حصاد ثمارها في الدولة بمؤسساتها و سلطاتها ليكون المحور الشعب لحقوقه و كرامته و خدماته و في جملة واحدة هكذا يمكن ضمان و تكريس الخدمات و السياسات المواطنية المتواصلة لحماية الشعب في اليأس والإنغماس في البحث عن لقمة العيش فقط و فقط، ليترتب الفراغ و حين تخيم غيوم اليأس السوداء و يتدنى التفاؤل و الأمل يبدء العد العكسي لبناء الديمقراطية، و يقوم اعداء الديمقراطية بملئ ذلك الفراغ بما يشاءون، و كما يشاءون، و تذهب الأحلام و الآمال إدراج الرياح، و يبداء الحديث عن المؤامرة... هذه القصّة القديمة الحديثة المقية.

فلنحذر الفراغ ولنبدأ... و من هنا أتصور يجب أن نبدأ، والمسؤولية، مسؤولية كل مكونات الشعب العراقي البطل الذي رفع رأس العراق عالياً في 15-10-2005 في جميع الأحوال وأياً كانت النتائج. فمن رحم الفراغ

وغياب الجماهير يولد الإستبداد، ويفرض الأمر الواقع، وهو غير الواقعي الذي يقابل المثالي.

*معهد الإمام الشيرازي الدولي للدراسات - واشنطن

siironlin.org

شبكة النبأ المعلوماتية -الأحد 23/ تشرين الأول/2005 -  19/ رمضان/1426