الطائفية والتعايش السلمي في العراق

خالد عليوي العرداوي*

يعد الحديث في المسالة الطائفية حديثا ذا شجون، فكثيرا ما اكتوت بنارها المجتمعات على اختلاف أنواعها، فخسرت أبناءها وأموالها، وشتت شملها، وشوهت عقائدها،وأغرت أعدائها بها، حتى وصلت هذه الشعوب بعد طول محنة وعظيم خسارة إلى قناعة مهمة هي: إن إذكاء نار الفتنة الطائفية لا يخدم مصلحة المجتمع، ولا يحقق أهدافه الشاملة، وان المنطق العقلائي يقتضي التعايش بين أبناء الأديان والطوائف المتعددة، لان التنوع من طبيعة الأشياء، وفيه مكامن الإبداع والتطور والرقي.

إن هذه القناعة هي التي استخلصتها الشعوب الأوربية، بعد أن أرهقتها نزاعات الطوائف بما أثارته من حروب طاحنة امتد بعضها إلى مائة عام، فلما تجاوزت هذه النزاعات وعملت نخبها السياسية والثقافية باتجاه التعايش استطاعت النهوض من واقعها المتخلف وسارت في سبل الحرية والديمقراطية والرقي التكنولوجي والاقتصادي...

وفيما يتعلق بالعراق، نجد في هذا الوقت حديثا متناميا في المسالة الطائفية، يحاول البعض من خلاله إثبات إن الشعب العراقي لا توجد فيه أزمة طائفية، وان ما يبدو من مظاهرها ما هو إلا نتيجة لمخططات إقليمية ودولية مشبوهة، لا تريد لهذا الشعب الاستقرار والازدهار. أما البعض الآخر فيصر على وجود أزمة طائفية عميقة، إذ تسعى من خلالها كل طائفة إلى تحقيق أقصى المكاسب في مجالات الحكم والإدارة والثروة على حساب  الطوائف الأخرى، ولأجل تحقيق هذا الهدف يتم تصفية الخصوم، وإرهاب الآخر وتقزيمه، حتى يظن المتابع لهذا الخطاب، إن كل طائفة في العراق لديها مخططات تآمرية شبيهة ببروتوكولات حكماء صهيون تسير على هداها لتحقيق الأهداف المذكورة آنفا.

 ولأجل الحقيقة، نقول: إننا عندما نحلل المسالة الطائفية في العراق، يجب أن نمتلك جرأة الصدق والصراحة، التي من خلالها نكتشف أن توهم عدم وجود نزعة طائفية داخل المجتمع العراقي وإلقاء عبأ هذه الأزمة على الخارج ما هو إلا تظليل خطابي وفذلكة فكرية تتسم بالمثالية البعيدة عن تشخيص الواقع وسبر أغواره، أما المبالغة في التركيز على الطائفية، فانه ينطوي على عدم إيمان بالمصلحة الوطنية، وعلى نزعة رجعية تحاول أسر الذات العراقية في حلقات فكرية ماضوية مغلقة لتمنعها من الانفتاح على العصر بكل ما فيه من تحديات وتجليات، ولتحقق مصالح تلك النخب الهامشية الباحثة عن سند شعبي لها من خلال تزييف وعي الناس، وتغذيتهم بأفكار عدائية تزرع الحقد والكراهية بين أبناء الشعب الواحد والدين الواحد، ولعل أصحاب فتاوى التكفير والتفسيق وإباحة دماء الناس وأموالهم وأعراضهم هم المثل الصارخ على هذا الخطاب.

و لأجل أن لا ننساق وراء دعاة المثالية أو الرجعية، فإننا سنتناول المسألة الطائفية في العراق من خلال الآتي:

 الفضاءات الثقافية المغلقة وعلاقتها بالمسالة الطائفية

لقد عاش الشعب العراقي عبر تاريخه الطويل وهو عبارة عن فسيفساء متنوع القوميات والأديان والطوائف، لكنه خلال هذا التاريخ كان محكوما بقبضة الاستبداد وسطوة الطغاة، الذين حرصوا على إذكاء نار الطائفية بين أبناء المجتمع، لينشغل بقضايا ثانوية لا قيمة لها، فيما يأمن الحاكم المستبد في برجه العاجي، ويطرح نفسه حكما وجلادا حسب ما تقتضيه مصلحته، وهذا الأمر جعل طوائف الشعب العراقي على الرغم من تداخلها عن طريق المصاهرة، والعمل، والعيش المشترك تعيش في فضاءات ثقافية مغلقة، عمل الفقر والتجهيل والانفراد بالحكم على تضخيمها وتكريسها وتعنيفها، إن وجود هذه الفضاءات الثقافية المغلقة لا يقتصر على عامة الشعب، بل يشمل أيضا نخبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولعل من ابرز الأدلة على وجودها هو إن العراقي من طائفة معينة عندما يلتقي بآخر من طائفة أخرى غالبا ما يقتصر الحديث بينهما على العمل والسؤال عن الحال والمكان ولا يمتد ابعد من ذلك فكل منهما له رؤيته التاريخية ومرجعيته الثقافية المختلفة عن الآخر، لذا تكون الرموز التاريخية ومظاهر العبادة وقضية الحكم محل خلاف وخطوط حمراء يعرف كل منها أن عليه أن لا يصل إلى تخومها ، لذلك بقيت طوائف العراق مستلبة تاريخيا، ومحصورة بقناعات ثقافية لم يسمح طول عهد الاستبداد بالخروج منها للوصول إلى قناعات جديدة تخدم قضية التعايش وتطيح بالطغاة وتعطي الفرصة إلى بناء فضاء ثقافي عراقي واحد بارز المعالم، إذ كلما سنحت فرصة للتفاعل والحوار بين الطوائف ظهر سيف الحاكم وقضى عليها بحجة تهديدها لنظام الحكم أو لأنها تنطوي على ممارسات سلبية (مع الإشارة إلى ان التفاعل الأولي بين الطوائف سيحتوي مثل هكذا ممارسات لكنه لو ترك له المجال فانه سوف يتحول إلى شكله الايجابي المرغوب).

إذن، فالمنطق  يشير إلى أن هذه الفضاءات الثقافية المغلقة، عندما تزول سطوة الاستبداد وتتوفر لها أجواء الانفتاح والتلاقح والحرية، فإنها ستبدأ بالتحاور مع بعضها بشكل حذر، كما هو الحال بالنسبة للغريب الذي تلتقيه لأول مرة، فأبناء هذه الثقافات لم يعتادوا على التفاعل مع بعضهم في مثل هذه الأجواء ولم يبتعد تحاورهم في ظل الاستبداد عن المستوى  الذي يحاول فيه كل طرف إثبات إن الحق إلى جانبه دوما بينما الباطل إلى جانب الطرف الآخر، لذا فالشك والحذر والتهيب لا الرغبة في القتل والتدمير والفناء أمر متوقع، إذاً فمن المسؤول عن إزالة هذا الحذر والشك والتهيب؟

مسؤولية النخب في خلق التعايش بين الطوائف

في الوقت التي يزول فيه الاستبداد من المجتمع ويبدأ الانتقال نحو الديمقراطية، سوف يحتاج إلى نخب سليمة النية وحسنة الثقافة تحرص على تهدئة المخاوف المتوقعة وترفع الشوائب الطائفية العالقة في ثقافة الأفراد، لكي يتحولوا من مرحلة الحذر من الآخر إلى مرحلة الثقة به، والإقبال عليه والتعايش معه، ويمكن أن نسمي هذه بمرحلة انتقالية ثقافية ، إذ في هذه المرحلة سوف تكون هناك فوضى ثقافية يختلط فيها الماضي بالحاضر ما بين رؤى تاريخية خادعة ومشاكل آنية ملحة وأمال مستقبلية يطمح الأفراد اليها، وسوف تؤدي هذه الفوضى إلى إرباك تفكير الأفراد وتهييج عواطفهم.

في هذه اللحظة ستبرز اهمية النخب الاجتماعية والسياسية والثقافية في تهدئة الرأي العام وترتيب القضايا حسب الأولويات، وشرح فوائد الانفتاح والتعايش ومخاطر الأنغلاق والتصارع، وطبيعة تحديات العصر وحقائقه، وذلك لأجل أن تمر هذه المرحلة الانتقالية بسلام ويبرز فضاء ثقافي واحد يحتوي جميع أبناء الطوائف ،في ظل الهوية  الوطنية الموحدة، وسينظر عندها إلى الصراع الطائفي على انه حدث يستحق أن يرقد في متاحف التاريخ، أما إذا لم تبرز مثل هكذا نخب في هذه الفترة الحرجة من حياة الشعوب، وكانت النخب مصلحية تهييجية تلعب على وتر العواطف الطائفية فستحول مرحلة الحذر الطائفي إلى مرحلة  احتراب داخلي يهلك فيه الكل إذ كما قال السيد حسن الشيرازي رحمه الله:           

  فالطائفية جذوة مسمومة              يصلى بها الهدام والبناء .

إن مشكلة العراق الحالية في مجال الطائفية، هو وجود بعض النخب غير المدركة لمتطلبات المرحلة، لذا نجدها تكتب بمنطق طائفي وتتكلم بمنطق طائفي وتتحاور بمنطق طائفي سواء مع الداخل العراقي، أو مع قوى إقليمية ذات سياسات محشوة بالمنطق الطائفي، وهذه النخب هي التي ساعدت على بروز فتاوى التكفير والتفسيق والإباحة للآخر، كما ساعدت من خلال خداعها وتضليلها لأبناء طائفتها على خلق بيئة تحتوي الإرهابيين من الطائفيين القادمين من خارج الحدود، لكن يجب أن تدرك هذه النخب إنها بسلكونها غير الصحيح هذا إنما تغامر بحاضر العراق ومستقبله، وتنمي مشاعر الحقد والكراهية والعداء بين أبناء الشعب، في مرحلة من حياة الشعوب تكون فيها أحوج ما تكون إلى الهداة الذين يبحرون بسفينتها نحو شاطئ التطور والترقي وبناء النموذج في ظل ثقافة التعايش السلمي.

إذن نخلص مما تقدم إلى حقيقة أن نخب العراق الحالية تقع عليها مسؤولية جسيمة في معالجة المسالة الطائفية وبناء العراق الديمقراطي الحر بثقافته ونظام حكمه، فعليها أن تتحمل هذه المسؤولية بجدارة وإلا فالمخاطر جسيمة والتاريخ لا يرحم في أحكامه.  

*المعاون العلمي في مركز الفرات للبحوث والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

شبكة النبأ المعلوماتية -الأربعاء 12/ تشرين الأول/2005 -  8/ رمضان/1426