القوانين والتشريعات بين رضى المجتمع وحاجة السلطة

عبد الهادي مرهون*

    جمعت الحكومة السلطات التنفيذية والتشريعية في البحرين وهيمنت على السلطة القضائية أيضاً منذ عام 1975 حينما حلت المجلس الوطني التشريعي المنتخب قسراً، واستمر ذلك حتى انعقاد السلطة التشريعية في ديسمبر 2002 وهي مدة طويلة ناهزت 25 عاماً استمرأت فيها الحكومة ممارسة صلاحيات مطلقة (( دون إحم ولا دستور )) و قد حازت بذلك على سلطات واسعة كانت فيها فوق المحاسبة والمساءلة، وبهذا فقد انتشرت عمليات الاتجار غير المشروع والاستيلاء على الأملاك والأموال العامة وشعر الكثير من المواطنين بالغُبن دون أن يستطيعوا رفع الدعاوى على الأجهزة التنفيذية والمؤسسات الرسمية التي احتمت هي كذلك بالقانون حينما حظرت المحاكم قبول البت في المنازعات التي تكون الحكومة طرفاً فيها بينما يمثل مبدأ خضوع الدولة للقانون (أو مبدأ سيادة القانون) في الوقت الراهن، قمة الضمانات الأساسية التي تحفظ حقوق وحريات الشعوب.  وعلى ذلك فأن حكم القانون ما هو إلا عاملاً مساعداً لأنه الذي يضع الحدود لسلطات الحكومة.

    وفي تلك الفترة أيضاً تم إصدار عشرات القوانين أو تعديلها كما تمت تعيينات في المراكز الوظيفية المسؤولة والحساسة، طالت مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وترك بعضها ارتياحاً أو استياءاً لدى شرائح واسعة من المواطنين نتيجة انعكاسها بفائدتها أو ضررها عليهم، دون أن يكون لهم حق الاعتراض عليها أو على بعضها، و في أحيان كثيرة بسبب تلك القوانين زُج بأبرياء في السجن وحكم عليهم بأحكام تعسفية، لم يكن لهم و لا لمحاميهم، حق الاعتراض ولا الاستئناف الَلذين إن حصلا، فهما شكليان لا يطالان الحكم القضائي ذاته، و إن طالا مراجعة الحكم فيتوقفان عند التنفيذ الذي هو بيد الجلاد هندرسون وأعوانه الذين عاثوا فسادا بالعباد والبلاد، حتى تم الخلاص من قانون أمن الدولة الذي اتكأوا عليه في مطلع عام 2001.

    كان ذلك الحال في العقود الثلاثة الماضية فماذا عن الآن ؟ فقد دخلنا منعرجاً سياسياً إصلاحياً جديداً أصبح فيه مسار إصدار القوانين الحالي يأخذ طريقاً دستورياً من خلال المؤسسة التشريعية، ولذلك بات واجباً علينا تقوية دولة المؤسسات والقانون بدلاً من سلطة الأفراد.

لقد كان أول منشأ للخلافات في البحرين بعد التصويت على الميثاق هو إصدار الدستور المعدل في 14 فبراير 2002 حينما وِقَع شعبنا ضحية للمستشارين – كما أسماهم نقيب المحامين الدكتور عباس هلال الترزية – الذين فصَّلوا دستوراً يعج بالمنزلقات وبين مجموعة الدستوريين البحرينيين الذين فَضَلوُا التمسك بحرفية نصوص الكلمات ولم يفهموا الصراع على أساس أنه صراع سياسي اجتماعي، الغلبة فيه للقوى الجماهيرية الحية المحركة لتباينات الصراع وبذلك بدلاً من أن تكون السنوات الماضية مناسبة للذهاب بالمشروع الإصلاحي نحو آفاق جديدة، بقينا في حالة من المراوحة لا بل والتراجع.   حيث أن تطوير القوانين هو جزء من عملية تحديث المجتمع وتقدم البناء التنموي فيه، إذ لايمكن قيام تنمية شاملة ومتقدمة نسابق بها الآخرين في ظل قوانين قديمة عفي عليها الزمن ومر على بعضها نصف قرن أو يزيد . بعضها كان سببا في تداخل المصالح، والتغطية على الاستيلاء على المنافع العامة، وآخر تسبب في سلب حقوق المواطنين .

    لكن السؤال الذي يواجهنا الآن هو كيف نوفق بين حاجة السلطة إلى بسط القوانين  ومن جهة أخرى رضى المجتمع الذي سيطبق عليه القانون ويستفيد منه حين تنفيذه ؟ فتطوير القوانين القديمة وإصدار قوانين جديدة لابد أن يقترن بدراسات واقعية تأخذ بنظر الاعتبار مصلحة مختلف الشرائح التي يمسها القانون وتراعي المصلحة العامة وانعكاس آثار هذه القوانين على الناس سلبا أو إيجابا، إضافة إلى ضرورة إشراك الجهات التي يمسها القانون بالرأي و المشورة و تقديم المقترحات وإبداء الملاحظات قبل إصدار هذا القانون أو ذاك . فالمؤسسات تعني نظاماً مؤسسياً بوصفها ضرورة حياتيه، يجب دعمها لا عرقلتها، فإذا استقرت المؤسسات وتطورت القوانين فستأخذ من صلاحية الأفراد و تتوسع المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار وذلك يؤكد أهمية الرأي العام باعتباره المصدر الأول للقانون فهو القوة التي عليها يَعتمد وإليها يَستند، وإذا سحب الرأي العام ثقته من قانون من القوانين أصبح في الغالب نصّاً لا روح فيه ولا حياة، وبذلك يعتبر الرأي العام الرقيب الرئيسي للأفعال الاجتماعية والقوة اللا محدودة للنظام الاجتماعي، فالقوانين لا تعدو أن تكون تعبيراً عن رغبات الرأي العام في المجتمع، كما أنها ضمان للنظم والمثل الأخلاقية فيه وهو ما يؤكد إن الحرية والسلطة ليسا متناقضين وإنما متكاملان، وأنه بدون نظام لا توحد حرية وعلى هذا النحو، فالحرية هي قيد يرد على السلطة ويمنعها من التدخل في حقوق وحريات الأفراد.  وعلى ذلك فإن الدولة القانونية بحكم وظيفتها،عليها واجب حماية كافة المصالح القانونية، فالحريات العامة يجب أن يحميها القانون، ولا يجوز إهدارها بدعوى المحافظة على مصلحة المجتمع، بل يتعين التوفيق بين المصلحتين في إطار العلاقات الاجتماعية التي تحكم المجتمع.

    ولقد كان لنا في البحرين بعض النماذج التي مررنا بها في الأعوام الثلاثة الماضية . فقد نشط فيها المجتمع المدني و أصبح من السمات الايجابية المميزة في المملكة، حيث توسع هامش الحريات، وتطورت مفاهيم حقوق الإنسان، ولم يعد المواطن يخشى كثيراً كما في العهود الماضية استبداد الأجهزة وعدوانيتها، لكن للأسف الشديد شعرت الحكومة أن شيئاً كبيراً مما كان لديها من هيمنة سابقة لا تحوزه الآن، فأحالت للبرلمان ثلاثة قوانين خلافية في أوقات متقاربة ومتلاحقة. تعتدى فيها حتى على الهامش الذي تحقق للناس والمجتمع المدني من حريات مما قد يعيدهم أو يذكرهم بما كانوا عليه من سلطة المنع والزجر وتغليظ العقاب، ليس في الجرائم وهو ما يطالب به المجتمع، بل في المتاح من الحريات و هنا بيت القصيد .والقوانين الثلاثة المعنية، الجمعيات و التجمعات و مكافحة الإرهاب، وسيطل علينا قريباً في الأشهر المقبلة قانون خلافي رابع هو الصحافة و النشر .

    فمادامت القوانين من صنع البشر و وجدت لمصلحتهم وتنظيم حياتهم، فهي وضعية صاغها ناسٌ مِثلُنا. فإنا نستطيع أن نعدل هذه القوانين أو نلغيها أو نستبدلها بأخرى تنسجم مع واقعنا الاقتصادي والاجتماعي، فالقانون هو صيغة علاقة مع الوضع القائم و الوضع القائم يعكس حاجة الحال الراهن المُعاش، تارةً يرتفع و أخرى يهبط، ومكمن الخطأ ليس في القوانين المطروحة على السلطة التشريعية ذاتها بل في أسلوب طرحها وتوقيتها . وعلى الحكومة أن تدرك جيداً أن إصرارها على تمرير هذه القوانين عنوة دون عملية التوافق المجتمعي حولها ربما يكون سبباً في مراكمة عوامل التأزم في المجتمع وما أكثرها ! ،حتى لو امتلكت الحكومة الأغلبية العددية في مجلس النواب الذي تستطيع به تمرير القوانين من خلال حزب الحكومة، ناهيك عن مجلس الشورى الذي لا يجرُأ أحدٌ فيه على إبداء الرفض أو قول (( لا )) للقانون . بعد أن يتم تبليغهم الإيعازات الحكومية.

فالإنسان الحر هو أساس في المجتمع الحر وهو بناؤه المقتدر والقوانين هي التي تصون الحقوق الأساسية للإنسان ولا بد أن يستقر في إدراكنا، أن القانون في المجتمع خادم للحرية وليس سيفاً مُسلطاً عليها، وعلى ذلك فإنه بصدور القوانين على أساس رضاء الرأي العام يزداد معنى الحرية، مع أهمية وجود مؤسسات يقظة تسهر على عدم تجاوز الحكومة لسلطاتها واحترام الدستور وسيادة القانون، ولابد أن يكون هناك توازن بين الحرية التي تحتاج إليها السلطات الأساسية بحيث تتيح للمواطن الحرية في التعبير عن شخصيته حيث أن الحرية تكمن في قلوب الناس من الرجال والنساء، فإذا ماتت هذه الجذوة فلا جدوى من دستور أو قانون، وليس في وسع المحكمة أن تحميه.

    والحال كذلك، يجب على الحكومة و المؤسسة التشريعية بغرفتيها أيضاً باعتبارها مؤسسة مجتمعية مدنية، الحرص على أسلوب صدور القوانين حتى المراحل النهائية للتصويت عليها، من خلال دعوة مؤسسات المجتمع المدني لإبداء الرأي فيها، وربما إجراء الاستقصاءات بين النخب أو شرائح من المواطنين، وشرح بنود القوانين للمواطنين والدفاع عنها و توضيح أسباب طرحها من خلال وسائل الإعلام وعبر الندوات والمنتديات، لاستيعاب وتلافي الخلافات التي تنشأ بسببها وتؤدي إلى مظاهر التوتر التي يعاني منها شعبنا ابتداءً من الدستور الذي كنا نرجو فيه الحل و أصبح هو المشكلة . حتى القوانين الأخيرة المتلاحقة مما يجعلها تضاف إلى ملفات المشاكل الحياتية التي تكدست كتدني الأجور وتفشي البطالة واستفحال التجنيس وأزمة السكن، وعلى ذلك فإنا ندعو إلى تضافر جهود جميع المخلصين من رجال دين و قادة تنظيمات سياسية وشخصيات اجتماعية وثقافية للعمل من اجل توطيد ما يصفه المفكر اللبناني هاني فحص لغة العيش المشترك التي تتيح تداول المعرفة الحقيقية بين المواطنين وتوسيع المشتركات وتضبط الخلافات، وتظهر المجتمع بمظهر المتعدد المتحد، كما تصحح بعض المسارات الخاطئة، ومن ناحية أخرى فإن على القوى الحية في المجتمع المدني مراجعة أساليب العمل السياسي الماضية وتغليب المشتركات الوطنية العامة على النوازع الصغيرة ومعالجتها بروح أخوية سامية، من خلال الاجتماعات الثنائية والجماعية دون إقصاء أو تهميش فهي السبيل إلى تفعيل الحوارات الداخلية في المؤسسات السياسية وبين المؤسسات الفاعلة في المجتمع، فواحد من أكثر القوانين إثارةً للجدل ((قانون الجمعيات السياسية)) إنما ينظم تلك الأحكام والقواعد التي سعى مشروع قانون الأحزاب لتنظيمها، ويجب التذكير بأن هذا القانون كان مطروحاً للنقاش العام قبل عاميين و على الجمعيات المعنية بالذات قبل عرضه على المجلس وتضمن في حيثياته معظم المطالب التي تنادي بها الجمعيات اليوم، من التمويل، إلى سن الاشتراك 18 عاماً، وحرية امتلاك وسائل إعلام الجماهيري، واقامة الاتصالات الخارجية . إلا أن أحداً من تلك الجمعيات للأسف لم يحرك ساكناً أو يبدي رأياً أو دعماً حيال القانون و بذلك فقد أسقط هذا القانون حين صوت ضده نواب المجلس المحافظون ولم يدعمه المجتمع المدني والجمعيات، وبالنتيجة فاتت فرصة سانحه كان من شأنها أن تدفع بالعملية الديموقراطية أشواطاً متقدمة .

ومن ذلك نخلص إلى أن كثيراً من الأفكار البناءة تُعرض و لا يستغلها المجتمع في حينها وبعد مضي بعض الوقت يدرك الجميع أهميتها.

ومع كل ذلك فإن لغة الحوار يجب تعزيزها (وهي التي لم تألفها الحكومة ولا المجتمع من قبل) في الثلاثة عقود الماضية، وكذلك عدم تضخيم الأمور والنأي بها عن الانفلات ومعالجتها كما هي، دون السماح أن تنعكس تأثيراتها السلبية على المناحي الأخرى، فذلك هو الشكل الصحيح لتسوية الامور.  فالخلاف ليس عيباً لكن صورته هي المعيبه، وباستطاعتنا رغم ذلك وضعه في إطاره الموضوعي حتى لا يكون سببا يضاف إلي الأسباب المتعددة للشقاق والتصدع ويتحول إذا بقي مستمرا دون معالجة ناجحة إلى عصبيات وفتن، تفسد علينا العيش بالحالة البحرينية والوطنية المشتركة، التي تجمع الخصوصيات، وبمقتضى ذلك على الحكومة و السياسيين و قادة الرأي التصرف برشدٍ وكياسة يحفظ لنا كياننا الوطني ويديروا التباينات وكأننا مختلف في المتحد أو متحد في المختلف وكما قال الشاعر العربي في تعبيره عن أهميه الرأي الحصيف:

((الرأي قبل شجاعة الشجعان**هي في المحل الأول وهو في المحل الثاني)).

 ويدرك الجميع أن الشوط طويل من أجل نيل الحقوق وترسيخ دولة المؤسسات والقانون واستقرار مبادئ المساواة في الحقوق و الواجبات، ليس فقط لكونها وردت نصاً دستورياً بل لكونها أحد أدوات الصراع الاجتماعي بين قوى الماضي المتخلف و سلطته الجائرة، و القوى الجديدة الناهضة التي تتطلع لبناء مجتمع ديمقراطي تعددي يضمن العدالة الاجتماعية والمساواة لأبنائه ويركز على مبادئ الدولة الحديثة التي تكفل حقوق المواطنة المتكافئة لأبنائها وبناتها جميعاً دون تمييز أو تفريق.

*النائب الأول لرئيس مجلس النواب - البحرين

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -السبت 1 / تشرين الأول/2005 -  26 / شعبان/1426