لا
زال بعض البحرانيين يتصور أن أسوء خطر تعرضت له مسيرة نضال شعب البحرين
كانت ظاهرة السخرية والاستهزاء والنكتة التي بدأت تطفو على السطح ضد
حال القادة والرموز الشعبية بعد تتالي الانقسامات الحادة واستعمال
لفظي"الشرعية" و"الغطاء الولائي" وتشابك الخطب في ألفاظ فلسفية صوفية
متناقضة ومتباينة وعصية على التفسير أو التدبر والتأويل، حتى قال بعض
مثقفينا: أن هذه السخرية والنكتة وما إليها، كلها معبرة عن سوء الحال،
ومشيرة إلى درجات عليا من الإحباط!.
تحدثت إلى احد المثقفين قبل يومين تقريبا..كان يؤكد على أن أزمتنا
هي أزمة زعامة وقيادة في اتجاهين: القيادة غير وفيرة الوعي إن وجدت،
وان وجد أوعاها فوجودها غير مؤسس على قواعد صلبة وتهيمن في هذا الوجود
مثالب مصطنعة بأدوات خاضعة للإبدال حين تينع الرؤوس ويصفى المقام، لأن
السياسة لا ثقة فيها.. هي ابنة لأدوات متلبسة بغير ثوبها مثلما هي ابنة
وقتها حتى إذا ما حان الحين نزعت الألبسة واستبدلت الأدوات بغيرها!.
وكلما غار هذا المثقف في حديثه الممل معي ؛ كان يهز رأسه يمنة ويسرة
ثم يضحك.. إلى إن قال في آخر كلامه: صدقني.. كلما حدثت نفسي على انفراد
أتساءل: " هو..الزعيم الرمز القائد وين؟". ثم أجيب نفسي: "ربما كان في
السينما"!.. ثم أضحك بسخرية لافتة.
لم أكن مهتما كثيرا بـ (الصرعة) الجديدة للمثقفين "المنعزلين" لسبب
بسيط: أنهم يهيمون في الخيال والكشف حتى يتصورون عند منتهى الهيام بأن
أبواب الوحي قد انفتحت لهم فتفتقت أذهانهم على ما لا يراه الآخرون.
لكني مؤمن بالمأثور الكريم القائل: (ما احتنك احد قط إلا وأحب الخلوة
والعزلة). ولكن هل يمكن لقائد أو رمز أو زعيم في بلدنا أن يرتاد
السينما؟!.. ربما في بلاد أخرى يجوز،كما في حال أنور السادات ؟!
أنور السادات حرم على مقربيه خلال فترة حكمه السؤال عنه بصيغة: "هو..السادات
فين؟". ومن يطمح لأن يكون قائدا ورمزا وزعيما سياسيا لمجتمع مثل مجتمع
البحرين في مثل هذه الظروف المعقدة الموروثة عن سيل من خطابات الفشل
وتظاهرات الإخفاق ؛عليه أن يقرأ سيرة الرئيس أنور السادات جيدا لكي
يتحاشى سخرية الناس ونكتهم. فما من احد سئل عنه بهذه الصيغة من القول:
" هو.. السادات فين؟" إلا وخضع لدائرة الشك والريبة عند المخابرات
المصرية!
كان السادات يعتقد اعتقادا جازما بأن ثورة يوليو ليست (ثورة
الجماهير) وإنما هي (ثورة جمال عبد الناصر) بلا منازع.. فترتب على ذلك
احتكار ناصر لمنصب القيادة والزعامة مقدما.. وليس لأحد من الأتباع الحق
في أن يقرر رفع رأسه أمام القائد الرمز في كلا الحالتين: النصر
والفشل.. ومن يفعل ذلك يلقى الكماشة غولا ينهش رأسه في سرعة
الضوء!..فخير لجميع الأتباع أن يكونوا بلا رؤوس..لأن خير المسامير ما
كان غائرا في الخشب بلا رأس!..وكم من آلة قيمة صرف النجار عليها مالا
من عرق جبينه إلا وكان مصيرها الدمار والخراب بسبب تلك المسامير
الغائرة الزنيمة..وكم من عامل طرد من (المنجرة) وانقطع رزقه لأنه لم
يعتن بعمله ولم يميز مسمارا غائرا في الخشب بلا رأس.
يقول السادات: "قررت أن ابتعد ".
فمتى ابتعد السادات ؟
ابتعد ليلة الثورة وليس بعد انتصارها!
ابتعد إلى سينما "روضة المنيل" وتعمد في تلك الليلة مشاجرة بعضهم
ليضفي على وضعه شكلا طبيعيا، ولم ينس تسجيل محضر بذلك في مركز الشرطة.
فإذا ما فشلت الثورة ؛ حصل على صك البراءة، وإذا ما قدر للثورة النجاح
؛ ربح حياته.. بلا أدنى نظر إلى أعلى منصب إداري تحت مظلة زعامة عبد
الناصر لأنه يعلم أن لا رؤوس ترفع في حضرة الزعيم الجديد، فهو
الدكتاتور الأعظم برغم كونه في حال النضال السلبي!.
مسكين "الريس"..كان يأسى لبلاغة "الوضع" وهو في منصب رأس السلطة..
كان يتألم كلما سمع احدهم يناديه:" هو.. السادات فين ؟". لأن الإجابة
المثيرة المضحكة المتبادرة للذهن دائما بسبب "الوضع" كانت: "في السينما
". ذلك كان من دواعي سقوط هيبة السادات عند عامة الناس دائما، فكيف
برؤساء إدارته الذين باتوا يخشون استعمال صيغة هذا السؤال بينهم أثناء
أداء عملهم.
في هذه الأثناء كان الشعب المصري يندهش لارتياح السادات عند لقائه
بالرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان، وريغان لا يفتأ يسأل من حوله:"
هو.. السادات فين؟". وبعد وصول الفلاسفة والعباقرة إلى النتيجة المقنعة
؛ رفعت دهشة الشعب المصري.. لقد كان ريغان يقول للسادات مازحا: (أنا
شاركت في ثورتكم وكان لي دور مهم في نجاحها). وحين يستفسر السادات عن
ذلك من رئيس أجنبي لم يركب جبلا ولم يهبط واديا مصريا، يجيبه ريغان في
ارتياح: لأنك كنت تشاهد فيلما في ليلة هروبك إلى سينما (روضة المنيل)
كان من بطولتي!.
نعم.. كل ما يجري في بلادنا اليوم كان من بطولة ملكنا الذي شارك في
صناعة فيلم حضر لمشاهدته كل رموزنا الشعبية في ليل بهيم كانوا فيه بين
رحمة كماشة بضلعين قاسيين:خوف الفشل وخوف النصر، وكلاهما كان مرا، لأن
الأمر سيعود في الأخير إلى استبداد مطلق، ولأن كل مقومات الاستبداد لم
تكن متوافرة أمام نواظرهم فحسب بل شاركوا في بناء تلك المقومات وصنعوا
فكرة الرمز القائد الواحد في أذهان الناس بلا أدنى حرج. فللناس إذن
الحق في إثارة السؤال الحرج جدا:" هو..الرمز والقائد وين؟".
ولكني أتساءل أيضا: "هو.. الناس وين ؟".. وأظن أنها كانت في
"السينما" إلى جانب قيادتها ورموزها "تفسفس حب الفساد والرقي".. والظن
لا يغني عن الحق شيئا!.
لقد بدأ بعض مثقفينا يكفر بفكرة رص الجماهير في صف حركة التغير،
مثلما بدأت تشك في نجاح أي مشروع سياسي شعبي واحد عام تحت قيادة واحدة،
لأن هذه الفئة ـ في ظني والظن...- عانت الكثير من الإهمال والإقصاء
المتعمد من قبل القيادات والرموز بلا وجه حق.
وفي ظنها أيضا: أن لجوء القيادات والرموز إلى حشد الجماهير في مشروع
التغيير ينبئ عن ضعف وخواء في كفاءة وأهلية ذات الرمز القائد الذي فشل
في تجنيد الفئة الوسطى في مجتمعنا فكان خياره ضعفاء الناس تحت شعار (لا
صوت يعلو صوت المعركة وكل الطاقات يجب أن توظف في النضال).
إن الواقع ـ أمام مثقفينا- يؤكد أن فكرة حشد الجماهير ساهم إلى حد
بعيد في فرز الحياة العامة في البلاد إلى قطبين: الجماهير والسلطة.
ولأن الجماهير المعارضة كانت على شكل مذهبي واحد يمثل نسبة 80 % من عدد
سكان البحرين؛ فكان من السهولة بمكان أن تنفرد السلطات بكل مقومات
الدولة في مقابل انفراد قياداتنا ورموزنا بهذه الجماهير، في وقت كانت
قيادات ورموز "السينما" تؤمن إيمانا قاطعا بأن لا بديل عن جوهر السلطة
الحالية "آل خليفة" حاكما لأن البلاد لا تصلح بدونهم.
هذه الفكرة المريضة كانت من الأخطاء الشائعة في حركة النضال السياسي
برمتها. والنتيجة كانت محسومة سلفا وخاسرة لا محالة في كلا الحالتين:
الفوز أو الإخفاق. لأن السلطات بلبها كانت حاضرة إلى جانب جماهير
مستنزفة لم تستطع المشاركة في مهمة دعم مقومات الدولة التي تقمصت
مفاصلها في فترة النضال الجماهيري طائفة أخرى استساغت تقلد 82 % من
مناصب الدولة الأساسية.
وبات الكثير من المثقفين المناضلين يتصور أن غالبية الناس بدأت الآن
تتجه صوب فكرة النضال السياسي المتعدد الوجوه بلا رمز أو قيادة واحدة
بعد أن سجلت كل القيادات حضورها في دائرة هذا النضال السياسي، وبدأ
الكثير يعتقد بأن المركزية في النضال تحت إمرة قيادة "سينما" واحدة
منفردة كانت من العوامل الأساسية المساهمة في طعن الخواصر.
أتصور أن الانقسامات الحالية كانت دفعا قسري باتجاه التعددية في
الأدوار والوظائف النضالية، وهذا هو عين الصواب. ولكني أتساءل: لماذا
هذه الحرب.. حرب التكالب الغريب على اختيار دور الكسب في مناصب الدولة
ومؤسسات المال العام وكأن هناك من يهيئ الأمر لزعامة " سينما" منفردة
تأتي نائبة عن الملك في توجيه حياة طائفة بأكملها وشؤونها الدينية
والشخصية في مقابل نفر قليل جدا وجدوا أنفسهم فجأة أمام وضع سياسي فرض
عليهم تقديم الكثير من الخسائر والتضحيات وكأن هناك من سعى منذ زمن
لتنحيتهم أو إقصائهم عن مواقعهم ومراتبهم القيادية والرمزية التي
صنعوها بجهودهم الجبارة؟!
أعتقد هذه المرة ولا أظن: أن رواد "السينما" وأشباههم سيتكاثرون على
القصعة، لأن الأغلبية من عناصر "التسجيل" لم تكن أسماؤهم في يوم من
الأيام مدونة في سجل المناضلين إنما كانوا ثوبا تقمصته بعض قيادات
ورموز"السينما" لإغراق بهاء المناضلين المخلصين في وحل من الشك بين
جماهيرهم. ولكني أجزم بأن كل رمز من رموز النضال رفض (التسجيل) وعاد
سيرته الأولى يمتلك استطاعة مطلقة لصنع الانفراج الكبير بلا أية قاعدة
جماهيرية مشاركة.. فكل رمز فرد مخلص يمكنه أن يشكل من نفسه قضية كبرى
"يورط " فيها الجميع ويضعهم أمام مسؤولياتهم بلا حاجة إلى (سينما) ولكن
بشرطها وشروطها... |