السلم والمصالحة الوطنية في ظل الإستحمار السياسي

تساؤل ومقاربة

بقلم الأستاذ: جواد حيدر(*)

مدخل:

لكلمتا السلم والمصالحة وقع على النفوس لان لها ارتباط وثيق بقيم الإسلام السمحة من جهة وبصور المعاناة والظلم والحرب والإرهاب، المزينة بالدم والخراب والوحشية وفظاعة إجرام  السياسة والعصبيات المقيتة التي قتلت كل مظاهر الأمن والإبداع والتعايش والتسامح في العقول والنفوس، وجعلت الإنسان رهن الضغوط النفسية، وسلبته إحساسه بكرامته الإنسانية من جهة أخرى.

بلا شك أن المتأمل لآيات القرآن الكريم يجد الكثير من الآيات الشريفة التي تدعو للسلم والصلح والعفو والتعايش مع الآخر واحترام حقوقه. فمن آيات السلم قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال:61]

 ومن آيات العفو قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْو وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199]

 والآية المحكمة والمحورية والأساسية في هذا كله قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين)[البقرة: الآية256] حيث العقيدة لا تترسخ إلا إذا اقتنع بها القلب، وهذا الأخير القلب منطقة حرة لا تقبل ضغوط ولا إكراه، علما بأن احترام الآخر لا يعني الرضوخ له وقبول عقيدته، وإنما المقصد التعايش وحفظ السلم في بلاد المسلمين التي نوه الإسلام للحفاظ عليها.

هذه الآيات الشريفة كلها تدعو إلى السلم والسلام والعفو والتعايش ، وبكلمةـ فإنها تدعو إلى اللاعنف سواء تجاه الذات أو الآخر .

ولقد أجمعت الدراسات والبحوث السيكولوجية والاجتماعية، أنه في ظل السلم واللاعنف يتبلور آليا تحصين ذاتي للنفس الإنسانية من الشر وتفعيل رائع لمنشطات الخير في النفس الإنسانية ويباشر الشخص بمراقبة نفسه لعدم الوقع في الخطأ ويتعمق لديه مفهوم التسامح كنتاج ومسهل لتطلعات الخير والإبداع والتجديد.

ولقد وضح الإمام المجدد (قدس سره) هذه المسألة والحاجة الفردية والإجتماعية وهذه الحقيقة في العديد من كتاباته ، عندما لاحظ ان بين اللاعنف والواقع  عموما وخصوصا من وجه، ما يتعلق بالتاريخ والإجتماع الإسلاميين .

إن هذا المطلب الحضاري يظهر بنسبة وأخرى من الإستعصاء والتعقيد على مستوى الثقافات المختلفة، ولكنها أظهر ما يظهر في المجتمعات الدينية،  وسبب ذلك ان الدين هو القلب النابض لهذه المجتمعات،وفي نفس الوقت نجد الدين مفاهيميا  مشروع حضاري ، ولا يمكن ان يطرح كعنوان ثانوي في مشروع سياسي إجتماعي، وهذه المعضلة هي واقع  سياسي ، بالمعنى البرغماتي  للسياسة، اي ان الدين  لا بد ان يكون ثانويا أو قل ديكورا ثقافيا حائل بين الهيجان الشعبي والعلمانية المتسلطة على  الشعب ، فإذا ما تحول-الدين- إلى  رعاية المجتمع ثقافيا  بنصوصه  العلمية ومناهجه التربوية ناهيك عن مقاصده الوجودية ، اي تعبئة الناس  نحو مشروعه الحضاري ،  فإن ذلك يهدد المشروع الإستحماري والإستكباري لهذه المجتمعات الدينية... هنا بالذات ينبغي ان نلتمس الحقيقة  الجوهرية لمفهوم التعددية ، حيث ان العلمانية تسهل للإسلاميين المصلحين ، ان يحدوا الدين  على حسب متطلبات التمويه السياسي الديموقراطي ،وتوسيع مساحة التخلف الديني  وتضييق المجال على الرساليين في المجتمع  بخلق  قائمة شروط ليست العلمية والأخلاقية لأنها متوفرة أساسا وتاريخيا ولكن سياسيا ونفاقيا وتجاريا .

 

النموذج الجزائري:

 لعل النموذج الأمثل لهذه المعضلة هي الأحزاب –القائلة أنها –إسلامية بالجزائر،التي  إستغرقت  في جوالتوزيعات الوزارية، وتواصلهم المفرط مع السلطة  الذي فتح لهم آفاق عديدة، والذي من شأنه أن يسندهم مستقبلا بما يحتاجون إليه من مناصب وسفريات وما هنالك من عطايا أهل البلاط وكذا الأدوار السياسية المزينة للديموقراطية المائعة، وليست هناك آلية محددة لهذا الأمر ولكنها متروكة للمبادرات الحزبية كحزب حمس الذي سقط ألف الإسلام من عنوانه في خضم تضحياته السياسية بمسلسل الجزائر الحديثة.

وكما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: "إن الفتن إذا أقبلت شبهت، وإذا أدبرت نبهت. يُنكرن مقبلات، ويُعرفن مدبرات".

هكذا كان الأمر بالنسبة للجزائر عندما كثر الحديث عن الحركة الإسلامية في سنوات السبعينات والثمانينات وختاما العشرية السوداء التي شارك فيها الجميع، العلماني الأمريكي والإسلامي المشوه والشيوعي الحالم، فلم يتضح للعيان سيناريو الجزائر المعاصرة إلا بعد أن أدبرت الفتنة السياسية التي أتت على الأخضر واليابس.

لذلك فأن الحديث عن المصالحة والسلم والديموقراطية وما الى ذلك من عناوين صاخبة في عالم السياسة والعولمة يثير تساؤلات عدة أهمها ما يتعلق بالهوية الإسلامية للجزائر كواقع على جميع الأبعاد والمواطنة الحقيقية لا الزعيمية(أي من كان مع الزعيم مواطن والعكس عميل)(1)  والحراك الإسلامي السياسي كطرف حقيقي فاعل  في التعددية السياسية ناهيك عن التنمية الثقافية.

وعليه يطفوعلى السطح  تساؤل جوهري: هل الشعب الجزائري  بحاجة  إلى الاستفتاء على السلم والمصالحة الوطنية؟ أم كل ما في الأمر أن التحديات التي تواجه السلطة ليست بالهينة حيث لا تستطيع تذليلها إلا بأشواط سياسية هامشية هي أصلا بديهيات في الوعي التاريخي والقومي والديني والسياسي والإجتماعي للأمة الجزائرية؟ هذا من جانب.

ومن جانب آخر إذا أخذنا فرضا انخفاض الوعي السياسي لدى المقترع الجزائري، تكون النتيجة عموما إستفتاء لا داعي له، لأنه مفروغ منه على كل الأوجه. إن هذه التخمين إنه إستراتيجية أومشروع متوسط المدى يتم تطبيقه على الأرض الجزائرية  بشكل دقيق وعميق وبشقيه الأول: إن الشعب الجزائري بحاجة إلى حجر سياسي دائم والشق الثاني: لا داعي للخوض في مسألة الوعي السياسي لدى الجزائري،لأن للجزائر رب يحميها .والغريب في الأمر أنك عندما تقرأ ما يسمى بالميثاق تجد تناسقا فنيا رائعا في الكلمات وكأن    Toq  Villeيحدثك،إنها  الفلسفة السياسية الفرنسية ذاتها التي ألفنا سماعها من لدن وزرائها للخارجية في الندوات والمؤتمرات وفي خطابات رؤسائها .

ونستشف  أن أطروحة الاشتراك في لعبة السلطة بالجزائر هو أمر مفروغ منه إذا أردت إظهاره في الشارع السياسي الجزائري ستصبح أضحوكة وسيتهمك الناس بالفتنة. وهو نفس طرح الاشتراك في المملكات. بكلمة الميثاق قد مر في قناتين اساسيتين، الاولى: اللجوء بقدر الامكان الى بتر العنصر الثقافي السياسي في الجزائر. وجعل الإصلاح رمزيا او بشكل اوضح تراكم المشاريع الإصلاحية  هو الاساس في عملية الإستحمار السياسي.. والثانية: اتخاذ لغة خاصة غير واقعية تقدم بها المشاريع والتطورات حتى يرى الجزائري الظلم عدلا والمعاناة رفاهية والإهانة كرامة وما هنالك من ثنائيات متناقضة،هذه هي مسرحية الاضطهاد والإستلاب أو بصيغة العلامة المفكر الإسلامي مالك بن نبي رحمه الله القابلية للإستحمار.

والشاهد على هذا كله، ثوار الثورة الجزائرية والإسلاميون الثائرين في التسعينات تحولوا بين ليلة وضحاها الى ذات الممارسات التي ثاروا ضدها. وكأن الثورة في الجزائر لم تستمر ، إن انتصار الثورة الجزائرية أكيد كان مهم، لكنها لو استمرت لكانت أهم. هذه الحقيقة لا تحتمل النقاش. بيد أنه السلم والمصالحة ليس مجرد كلمات نرددها ونخطب بها، بينما الواقع يُفصح عن مأساة حقيقية وطلاق فاضح بين الدولة والشعب، كيف تطلب السلطة الآن من الجزائري البسيط الوقوف إلى جوارها في إنجاح الإستفتاء، من اجل الحداثة !!

أكيد كلمة الحداثة الواردة في ختام ما سمي بالميثاق توحي بمقاصد كمقاصد بن زياد تجاه يزيد، بينما النظام مازال يمارس ثقافة الإستحمار لشعبه، التي يدعمها بمزيد من الشعير والعصا، ومزيد من الإستثمارات والإقالات والمؤتمرات الإفريقية والأسيوية ومكافحة الإرهاب وما هنالك فعاليات ثقافية رائعة،والعديد من فنادق الشيراتون ذات الرفاهية العالية والليالي الحمراء  ومزيد من الديموقراطية البوليسية !؟

بالطبع لن يستطيع الجزائري النبيه أن يفعل شيئا...؟؟

كيف نحرّر الإنسان الجزائري من الخرافة والجهل والتخلّف والإستحمار؟ ، لإنّ هذا الإستحمار الثقافي  هو احتلال النفوس والعقول... ببساطة لا تزال  لجماهير في الجزائر عشائرية ومتعصبة وخائفة من التفكير والتغيير والاستقلال والمواطنة الحقيقية... فمن منكم أيها الجزائريون يعيش الديمقراطية في بيته ومؤسسته المهنية والسياسية والثقافية والاجتماعية وفي المسجد... فالزعيم كما مثله عادل إمام  هو كلّ شي‏ء، أما الباقون فيهلّلون ويصفقّون ويصمتون إنطلاقا من الصمت حكمة وهم لا شي‏ء... في واقعنا الجزائري عدة آلهة حاضرة منها ٍ الاقتصاديّة والسياسية والأمنية التي يعبدها المستحمرون وأصبح يطوف بها حتى المصلحون التائبون بكلّ عقولهم وأفكارهم وحواراتهم.. 

إنّ المشكلة الحقيقية ليست في أن تعمى الأبصار،  لأنّه من الممكن أن تعوضه بما يحدثه الله في قلبك من وعي، فإن المعروف أن الله إذا سلب إنساناً حاسّة من حواسه، فإنه يعوضه عنها بحاسة أخرى، ولذا نجد أن الكثير من المكفوفين يحرّكون ذكاءهم عن طريق أسماعهم، وعن طريق بصيرة قلوبهم، أما عمى القلب، عمى العقل، والذي لا ينفتح بعقله على أي فكر، وعلى أية دراسة للأمور، فمن الطبيعي جداً أن هذا العمى يجعله دابة لا يعرف كيف يدبِّر أمره ، وكيف يتحرك في حياته، وكيف ينظّم أموره، بل هو أضل وقد ورد في القرآن: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46)، وفي القرآن: {قال ربِّ لمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً* قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (طه:125-126). ويقول رسول الله (ص): ((وشرُّ الندامة ندامة يوم القيامة))

تساءل معي أيها النبيه:

كيف يمكن بناء تأسيس حداثة خاصة، والبلد في حالة من التبعية والاستلاب والإقصاء والعصبية والجهل ...؟

إن هذه الملاحظات التي أثرتها في هذا المقال، تدخل في القراءة الواقعية للحياة السياسية، وفي طبيعة حركة العدل في الحياة، لأن الإنسان يقرأ الأفكار والمستجدات بثقافته الأصيلة والتي يؤمن بمصداقيتها، فإذا تحولنا إلى أناس "منهزمين"، فسينهزم الإسلام في وعينا ويتحول إلى قضية تكرس الواقع، بدلاً من أن يتحول إلى قوة تغير الواقع، تماماً كما حصل في موقفنا أمام قضية التعددية السياسية سنة 1988، عندما نظرنا إليها من خلال عصبياتنا السياسية ومصالحنا الذاتية، فحوّلناها من منطلق إستراتيجي لقضية الإصلاح والتجديد، إلى مصنع الأسى والحزن والدم، وبذلك انطلق الهوى كوسيلة من وسائل تركز العيش بروح الخوف والانبهار بالانحراف الذي يبحث عن مبرراته الشرعية في ما يملك من وسائل التبرير.

عودا للبدء: لا تقتصر أهمية المطارحات المتقدمة في الحدود النظرية فحسب بل لها أبعاد حركية أيضاً وذات تأثير فعال ومصيري في حياة الجزائري البسيط بشكل عام وفي حياة الجيل القادم بشكل خاص إذ أن فشل جزائري اليوم في استيضاح الإجابة الصحيحة التي يستوحيها من ثقافته الإسلامية الصحيحة سينتهي به الأمر كما انتهى به في التجارب السابقة القريبة إلى كوارث اقل ما فيها القابلية للإستحمار. وأتركك أيها النبيه مع هذه الكلمة الرسالية الخالدة خلود هذا العالم الرباني الرسالي...لتستلهم منها خيوط النباهة والتقوى والإيمان وتستعيد معها التاريخ المجيد والمليء ببطولات الرساليين...  

"إنّ مشكلةَ الشعوبِ المُستضعفةِ لا تقتصرُ على سلبِ الحقوقِ، ومصادرةِ تضحياتِ الأكثريةِ، بل تتعدّاها إلى أنّ المستفيدَ من هذه التضحياتِ هُم أناسٌ بعيدونَ عن الجهادِ والتضحيةِ."

 الإمام المجدد قدس سره

(1)بمعنى ان الوطن يختزل في عنوان الزعيم، وهذه معضلة معظم الشعوب العربية ليس الجزائر فقط.

(*) باحث جزائري إسلامي، مقيم بألمانيا

ali214500@yahoo.fr

شبكة النبأ المعلوماتية -الأثنين 19 / ايلول/2005 -14/ شعبان/1426