من مكتبة النبأ: علي وسقراط.. في مواجهة الاستبداد والطغيان

الكتاب: علي وسقراط

المؤلف: جورج جرداق

المعلومات: طبعة سنة 1423هـ - 2003م

(272) صفحة من القطع الكبير

والكتاب ضمن سلسلة (الإمام علي.. صوت العدالة الإنسانية) الجزء الثالث

الناشر: دار مكتبة صعصعة – جد حفص – مملكة البحرين.

 

((لقد مزّق ابن أبي طالب صور الاستبداد حيث حطت له قدم، وحيث سمع له قول، وحيث أشرق سيفه مع نور الشمس..)).

نقرأ في باب (العدالة الكونية وما يمثله علي منها) تحت عنوان فرعي هو ((تكافؤ الوجود)).

وأحسَّ علي أن هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أن الريح إذا اشتدت حركت الأغصان تحريكاً شديداً، وإذا اجفلت قلعت الأشجار، وهاجت لها العناصر، وأنها إذا لانت وجرت فوق الأرض جرياً خفيفاً سكرت بها صفحات الماء وسكتت تحتها الأشياء!

نظرة واحدة يُلقيها المرء على الكون الخارجي وأحواله: على النجوم الثابتة في سعة الوجود والكواكب السابحة في آفاق الأبد وعلى الشمس المشرقة والسحاب العارض والريح ذات الزفيف، وعلى الجبال تشمخ والبحار تقصفها العواصف أو يسجو على صفحاتها الليل، تكفيه لأن يثق بأن يكون قانون وإن لأحواله ناموساً واقعاً كل منهما تحت الحواس وقائماً بكل مقياس.

ونظرة واحدة يلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة وأحوالها: على الصيف إذ يشتد حره وتسكن ريحه، والخريف إذ يكتئب غابه وتتناوح أهواءه... والشتاء إذ ترعد أجواؤه وتضطرب بالبروق وتندفع امطاره عباباً وتختلط غيومه... والربيع يبسط لك الدنيا آفاقاً ندية وأنهاراً غنية وخصباً ورواءً وجناناً ذات ألوان، كافية لأن تجعله يثق بأن لهذه الطبيعة قانوناً وأن لاحوالها ناموساً.

ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعياً مباشراً ما في نواميسه من صدق وثبات وعدل فهزه ما رأى... وجرى في دمه ومشى في كيانه واصطخب فيه إحساساً وفكراً: فتحركت شفتاه تقولان: (ألا وإنه بالحق قامت السماوات والأرض).

وأدرك ابن أبي طالب في أعماقه أن المقايسة تصح أصلاً وفرعاً بين السماء والأرض اللتين قامتا بالحق واستوتا بوجودها المتلازمة الثلاثة: الصدق والثبوت والعدل، وبين الدولة التي لا بد لها أن تكون صورة مصغرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة. فإذا به يحيا في عقله وضميره هذه المقايسة على صورة عفوية... ثم لا يلبث أن يقول:

((وأعظم ما افترض من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي: فريضة فرضها الله لكل على كل، فجعلها نظاماً لا لألفتهم فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية)).

ونقرا في باب (علي وسقراط) هذان القولان لهما:

- لا علم بلا فضيلة، ولا فضيلة بلا علم، كما أنه لا جهل بلا رذيلة، ولا رذيلة بلا جهل!

سقراط

* إذا أرذل الله عبداً حظر عليه العلم. والعلم دين يدان به، وهو إحدى الحياتين، وأقل الناس قيمة أقلهم علماً!

الإمام علي

ومما نقرأ من باب (عظيم أثينا وعظيم الكوفة):

وكلاهما كان في عهده مظهراً لمجتمع جديد وحاجات جديدة، فراح يهدم ويبني، فعادوه وتألبوا عليه فثبت لهم كالطود الراسخ وازداد بالحق إيماناً!

وكلاهما جابه الطغاة والوجهاء وكانزي الذهب وأهل السلطان وأصحاب الجيوش، بسلامة الفطرة الإنسانية، وقدرة العقل وحرارة القلب ووهج الضمير والإيمان بخير الحياة!

وكلا الرجلين تراثٌ للإنسانية عظيم!

قد يتساءل المرء ومن حقه أن يتساءل لماذا نتحدث عن سقراط ونحن نسوق الكلام على ابن ابي طالب وما عاصر سقراط علياً وما كان عربياً ولا مسلماً ولا مسيحياً. بل تقدمه في الزمان وكان اغريقياً وثنياً!

وعن هذا التساؤل نجيب قائلين إنا عمدنا إلى هذا الحديث عمداً لأن سقراط لم يعاصر علياً.... وما ذاك إلا لإظهار أمرٍ لم نتعود بعد أن نتمرس به كثيراً وهو أن الحقيقة واحدة، وأنها لا تدنو منا ولا تبعد عنا بمقاييس العصور والجنسيات والأديان. وعلى ذلك يكون سقراط العظيم أخاً لعلي العظيم بما يلف كل عصر وكل جنسية وكل دين، ألا هو الإنسانية المؤمنة بالإنسان المبدع أو قيم الحياة الثابتة وخير الوجود الشامل...

وكلاهما كان خطراً على طبقات معينة من المستنفعين بالأحوال الراهنة فما كان منهم في أثينا إلا أن لفقوا التهم ضد سقراط مفترين ضالمين. وما كان منهم في الحجاز والشام إلا أن لفقوا التهم ضد علي معتدين آثمين!

وكلاهما جابه الطغاة في كل ميدان وعلى كل صعيد، وحطم نفاق السياسيين في زمانه وفضح نواياهم، وأخرج السياسة من نطاق التهريج إلى نطاق جديد صحيح هو العمل في سبيل الجماعة عملاً يرتكز على المعرفة وهي قاعدة الفضيلة.

وكلا الرجلين ألح على الرسالة الاجتماعية الملقاة على كواهل المفكرين والحكماء والفلاسفة، وجعلهم وحدهم حكام الناس وقادة البشر. وكلّ حكم في مذهبه لا يكون صاحبه مفكراً حكيماً فيلسوفاً هو اغتصاب أحمق وعمل تافه وحكم سخيف.

ومما نقرأ من (بلاغة علي في خدمة الإنسان) ضمن العنوان الفرعي (حدود العقل والقلب):

من تتبع سير العظماء في التاريخ لا فرق بين شرقي منهم وغربي، ولا بين قديم ومُحدث، أدرك ظاهرة لا تخفى وهي أنهم على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط المذهبي، أدباء موهوبون على تفاوت في القوة والضعف، فهم بين منتج خلاّق، ومتذوّق قريب التذوق من الإنتاج والخلق. حتى لكأن الحس الأدبي... يلزم كل موهبة خارقة في كل لون من ألوان النشاط العظيم!

فنظرة واحدة إلى الأنبياء مثلاً، تكفي لتقرير هذه الظاهرة في الأذهان، فما داود وسليمان واشعيا وأرميا وأيوب والمسيح ومحمد إلا أدباء أوتوا من الموهبة الأدبية ما أوتوا من سائر المواهب...

هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية الإمام علي بن أبي طالب، فإذا هو الإمام في الأدب وشرّه البلاغة، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوق وفي ما علّم وهدى! وآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أسس البلاغة العربية فيما يلي القرآن من أسس، وتتصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرناً فتبني على بنائه وتقيس منه ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر!

أما البيان فقد وصل علي سابقه بلاحقه، فضم روائع البيان الجاهلي الصافي المتحد بالفطرة السليمة اتحاداً مباشراً، إلى البيان الإسلامي الصافي المهذب المتحد بالفطرة السليمة والمنطق القوي اتحاداً لا يجوز فيه فصل العناصر بعضها عن بعض.

فكان له من بلاغة الجاهلية، ومن سحر البيان النبوي، ما حدا بعضهم إلى أن يقول في كلامه أنه (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق).

شبكة النبأ المعلوماتية -السبت 17 / ايلول/2005 -12/ شعبان/1426