كتب قسم المتابعة: ما بين علم اللغة وعلم السلوك أكثر من رابطة
وعلماء اللغة الذين عرّفوا اللغة كونها وعاء الفكر فهذا ما يمكن أن
ينطلق من قاعدة أن هناك قرابة بديهية وفاعلة بين اللغة وعمل المخ.
وبعيداً عن تشريح الفص المتخصص للتفكير داخل حزمة الدماغ فإن ما يوحيه
العقل الراجح يعكس السلوك المسالم المحبذ دوماً.
ومفردات اللغة كلما كثر أعدادها الغنية في الاستعمال ففي ذلك إشارة
صحية على تفتح أفضل على مجالات الحياة وفهم أفضل لأنظمتها والسلوك
بطبيعة أسبابه ومسبباته إذ يمكن تقسيمه بصورة عامة إلى (سلوك إيجابي)
و(سلوك سلبي) فإن ما بينهما حتماً لا يكون هناك سوى (سلوك توفيقي) ومن
سمات السلوك الإيجابي ثبوت الآدمية عند المتكلم أو الفاعل حيث يتصرف
بما هو مقبول مع الغير وبأسلوب شفاف يمكنه من طرح وجهات نظره على مستوى
عقلاني يشهد له الأفراد المحيطون به بالبنان.
وبعكس السلوك الإيجابي فالسلوك السلبي يرجع محلل شخصيته إلى وجود
خلل لديه في ثروته اللغوية وكيفية تصريفها سواء في طريقة التفكير بأمور
الحياة أو في علاقاتها المتشعبة لكن الاختلاف يبقى قائماً بين
السلوكيات الإيجابي والسلبي ويكاد أن يكون لكل منهما دلائله الخاصة
ويسر معرفتها.
واللغة اللسانية التي تأتي في المرتبة الأولى لمحاكاة النفس قبل
إتخاذ أي قرار صائب أو خاطئ ويترجمه السلوك البشري الفردي أو الجماعي
فإن تلك المحاكاة متى ما رست على حال داخل العقل فتنتقل تلك المحاكاة
بصورة أكثر عملية إلى حال الفعل ولذا يلاحظ (على سبيل المثال) أن
(انفعال اللحظة) باستعمال العنف أو لا للاستعماله مرده نضج قرار يتخذه
المرء سريعاً أو متأنياً لمواجهة حدث أو موقف وطبيعي فهذا ينطبق في
حالات بديهية على ما يمكن تسميته بتفكير مطلوب لحالة معينة فشب النار
بمكان ما يقتضي وضعها أما الهروب منها أو إطفاؤها والقرار السريع يتم
داخل خلايا العقل على وجه السرعة على شكل محاكاة لغوية فائقة الحضور في
عقلية المرء فيتخذ قراره الأنسب بهذا الصدد وبحسب قناعاته الآنية وظروف
الحدث الطارئ.
إن قراءة أولية لوظيفة التفكير اللغوي داخل العقل ينتج عنها إدراك
ذهني يتطلب من المرء العدالة في السلوك مع مراعاة متطلبات كل حالة
فالعنف أو استعماله ينبغي أن يكون آخر ما يمكن تسخير وسيلة كأن يقتضي
سلوك الحال (الدفاع المشروع عن النفس) الذي تقره الشرائع السماوية
والقوانين الوضعية الحضارية حيث لا يخفى عن البال أن منشيء الكثير من
المشاكل هو الكلام اللامدروس الذي يوهم اصحابه أحياناً وكأن التعنيف
الكلامي هو مفتاح الحل لكل مشكلة وعلاقة اللغة العقلية (اي التي تتم
بين المرء وذاته) والتي غالباً لم يحزرها المقابل تجعل كفة علاقة
التفكير باللغة كوسيلة للتفاهم هي الأفضل في أحسن الحالات وربما
الأحوال أيضاً.
وطبيعي فإن دخول عنصر اللغة في عملية التفكير لا يوجد بديل عنها
ولذا لا يمكن فصم مكنون اللغة عن مكنون السلوك مع الاعتراف أن المقومات
الذاتية للإنسان التي تجعل وصف هذا المرء بالحضاري وذاك بالمتخلف هو في
حد ذاته دليل على عبقرية اللغة الداخلية البناءة الكامنة في العقل
الباطن.
ومفردات اللغة التحذيرية من قبل الأبوين للمرء التي تبقى ملازمة له
طيلة مراحل عمره ضمن أساسيات تربيته التي تلقاها منهما مثل (هذا عيب)
و(ذاك لا يجوز) و(هذا خطأ) و(ذاك صح) هي التي تحدد نسبة المدى بتاثره
بها ولذا يرى المرء الأكثر سوية لا يحبذ إحالات معظم ما يصادفه في
الحياة من عوائق إلى الغير بل يكون هو (البطل) إذا جاز التعبير في حلها
إنصافاً لحق أو دفعاً لشر.
وهكذا فتوجيه اللغة لخدمة السلوك السوي وبنائياته تبقى هي مسألة كل
ساعة بالنسبة للناس الأسوياء وهم يساهمون في تمشية أمورهم اليومية
(العائلية والمجتمعية) عبر علاقات متشابكة من المصالح أحياناً والرغبات
والأفرجة.
وكلما اقتربنا بكلامنا من الآخرين بما يحفظ مالهم من خلال معرفتنا
بما هوعلينا تكون لنا ميزة المعرفة باحترام حقوقنا وواجباتنا وبذات
الوقت إقراراً منا أن ما للآخرين مثلما هو لنا ومثل هذا الشعور في
التناظر المتكافئ بين طرفان لا يمكن تجاهله فالإنصاف يبقى هو الحال
المطلوب في كل زمان ومكان وهو سيد المواقف.
وكلمة حق مكشوفة رسمية في السلوك الإيجابي قد تبني حضارة بلد وكلمة
باطل مستترة في السلوك السلبي قد تهدم إنجازات البناء النفسي لمجتمع ما
ولا تدع فيه ما يمكن الإشارة له بالنجاح وبالذات إذا كانت الكلمة تجري
بصيغة أوامر رسمية سلبية مفروضة التطبيق على الذين يوافقون أو يرفضون
بآن واحد.
ومن هنا الأفضل المجاملة في اللغة بوضع في غير محله فمثلاً أن
عبارات المديح للظالم تغري ذاك الظالم فيزيد ذاك من ظلمه والعكس بهذا
المجال لا خلاف على صحته وحتى لا يكون هناك قياس خاطئ بين اللغة
والسلوك فإن الضابط الأخلاقي الراقي يفضل أن يعمل لأجل تحصيل حاصل
إيجابي يستفاد منه المجتمع المعاصر ويريح على قاعدته النفوس المعاصرة
بهذا الزمن الذي اختلطت فيه أوراق كثيرة. |