اكتسب المجتمع المدني في السنوات الأخيرة اهمية كبرى في مجال
السياسات الدولية وبخاصة بعد الاحداث العنيفة والتظاهرات الصاخبة التي
صاحبة انعقاد بعض المؤتمرات الدولية حول الاوضاع الاقتصادية والسياسية
في العالم كما حدث في سياتل وغيرها من المدن. ومع انه لايكاد يوجد شك
حول الدور المهم الذي يضطلع به المجتمع المدني في الدول المتقدمة
او الدور الذي يمكن ان يقوم به في التعريف باصول ومبادئ الديمقراطية
التي يجب ان تسود مجتمعات العالم الثالث، فان ثمة بعض التساؤلات
ان لم يكن الشكوك حول مدى أحقية كثير من المؤسسات المدنية في الادعاء
بانها تتكلم باسم المجتمع المدني، وتزعم أنها تمثل شرائح او فئات معينة
من الناس، وتعطي نفسها الحق في الدفاع عن مصالحهم والمطالبة بحقوقهم،
الا ان هذه التساؤلات والشكوك لا تمنع من ان المجتمع المدني يحقق وبصفة
مطردة مكاسب متزايدة في مجال توجيه السياسات العالمية، وان اراء ومواقف
مؤسساته تؤخذ بعين الاعتبار بشكل صريح او مستتر اثناء مناقشة القوانين
والتشريعات والاتفاقات الدولية، وذلك على الرغم من ان المجتمع الدولي
ليس في ظاهره على الاقل سوى مجرد شبكة من العلاقات والروابط
والارتباطات غير الرسمية التي افلحت في ان تؤلف كيانا مستقلا ومتمايزا
عن النظم الحكومية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى المهيمنة على سياسات
واقتصاديات العالم.
ويبدوا ان فكرة المجتمع المدني اصابها بمرور الزمن شيء من التراجع
نتيجة لتغير الظروف والاوضاع السياسية والاقتصادية في العالم. ولكن لم
يلبث الاهتمام باحياء الفكرة والمفهوم ان عاد بعد الحرب العالمية
الثانية، وبلغ ذلك الاهتمام ذروته ابتداء من التسعينات نتيجة لازدياد
الاتجاه نحو الديمقراطية وتمرد الشعوب على الحكومات الديكتاتورية ونظم
الحكم الشمولي بكل ما ينطوي عليه من طغيان وفساد. بل ان فقدان الثقة في
بعض الحكومات الديمقراطية، والشعور بالاحباط العام من هذه السياسات
التعسفية ونمو شعور التمرد ضد ابتزاز الشركات الكبرى واصحاب رؤوس
الاموال الضخمة واستغلالهم لطبقات الشعب الفقيرة، اسهمت هي ايضا في
اثارة الاهتمام من جديد بالمجتمع المدني ومؤسساته كاداة للتجديد
الاجتماعي. وساعد على انتشار هذه الشعور في كل انحاء العالم الثورة
المعلوماتية التي اتاحت الفرصة لتوافق وتقارب الاراء واضفت بالتالي على
المواطنين والاهالي في كل انحاء العالم قوة وفاعلية لم يكونوا يتمتعون
بهما من قبل حتى في المجتمعات المتقدمة. فالمجتمع المدني على هذا
الاساس هو تصور اومفهوم اكبر واوسع واعمق من الدولة ويرتكز على اسس
اخلاقية وانسانية اسبق في وجودها على قيام الدولة كتنظيم سياسي.
لقد حققت مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في المنظمات الاهلية غير
الحكومية كثيرا من النتائج الباهرة في عدد من المجالات الحيوية التي
لها صلة مباشرة بحياة الانسان، مثل مشكلات البيئة وحقوق الانسان وبخاصة
فيما يتعلق بالتمييز العرقي حقوق الاقليات ووضع المراة وحماية المستهلك
والتصدي للفساد وغيرها. ولكن هذا لا يعني ان المجتمع المدني مرادف
للجمعيات الاهلية اواللاحكومية العاملة في هذه المجالات وحدها،
فالمفهوم اوسع من هذا بكثير ويشمل (كما يرى الكثيرون) كل التنظيمات
والمؤسسات المستقلة عن الدولة بما في ذلك الاحزاب السياسية والنقابات
والاتحادات العمالية والمهنية بل والنوادي الرياضية والاجتماعية
واتحادات الطلاب والمؤسسات الثقافية والاكاديمية والتنظيمات الدينية
والحركات والفعاليات الاجتماعية، مما يدل على مدى اتساع وتنوع الانشطة
والخدمات التي يقوم بها المجتمع المدني والدور الذي يؤديه للارتقاء
باعضاء المجتمع والجنس البشري بوجه عام، وذلك فضلا عن دوره في ممارسة
الضغوط على الدولة للاهتمام بتلك الامور الى جانب المطالبة باسم
الشعوب بالمشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه تحقيقا لمبادئ الديمقراطية
واصول الحكم الديمقراطي.
فانشطة المجتمع المدني انشطة طوعية تختلف من هذه الناحية اختلافا
جوهريا عن انشطة الحكومات، كما انها تختلف عن الانشطة الاقتصادية
والمالية المتعلقة باخلاقيات السوق لانها تبحث وراء الخير والصالح
العام وليس وراء الربح المادي، ولذا فكثيرا ما يشار الى المجتمع المدني
بانه (القطاع الثالث).
ولكن الامر قد يبدومختلفا عن ذلك تماما في راي بعض الباحثين في شؤون
المجتمع المدني والمهتمين بما سوف يكون عليه الوضع في المستقبل، خاصة
ان هناك بعض الدلائل التي تؤخذ كمؤشرات على تراجع المجتمع المدني في
دول العالم، ويرد هؤلاء الباحثون المتشككون حول مستقبل المجتمع المدني
تخوفهم الى التغيرات التي طرأت على مواقف بعض الحكومات من الاحداث
السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعتبر امورا عادية ومألوفة
ومباحة في الحياة اليومية، وتدخل الحكومة المتزايد في في ملاحقة اصحاب
الفكر المتحرر او المناوئ للسياسات الحكومية وحجب كثير من المعلومات
التي تعتقد الحكومة انها في غير صالح كبار المسؤولين واصحاب القرار
وتقليص انشطة القطاعات الطوعية عما كان عليه الحال حتى عهد غير بعيد،
وخفض تمويل الدولة للجمعيات الاهلية لممارسة انشطتها المختلفة في
المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية وغيرها كل ذلك يثير
الخوف لدى بعض المتشككين من تراجع دور المجتمع المدني، وبالرغم من ان
هذه الانطباعات لا تستند الى وقائع دقيقة ولكنها انطباعات لها دلالاتها
ومؤشراتها، كذلك يجب ان نلاحظ ان مؤسسات المجتمع المدني في كثير من
دول العالم تعاني شيئا من القصور في أدائها وانها كثيرا ما تخرج
اوتنحرف عن متابعة وتحقيق الاهداف التي قامت من اجلها. فكثيرا من
منظمات الشباب تقصر نشاطها الان على البرامج الترفيهية متناسية رسالتها
الاساسية نحو تكوين اجيال من المواطنين الصالحين القادرين على العمل من
اجل الارتفاع بمستواهم الشخصي ومستوى الوطن ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا،
وكثير من ايضا من مؤسسات الاعلام الجماهيري اصبحت اكثر ميلا الى تقديم
البرامج والمعلومات السطحية الهزيلة التي تداعب المشاعر والعواطف
والغرائز بدلا من تقديم برامج جادة عميقة تثير الفكر وتعرض بالتحليل
المشكلات الحياتية الكبرى.
والشيء نفسه يمكن ان يقال عن الاحزاب السياسية بل وعن التنظيمات
الدينية التي قد تدعوا الى التعصب وكراهية العقائد العقائد الاخرى بدلا
من ان تحمل رسالة التسامح والسلام، وهذه كلها امور واوضاع من شانها ان
تثير الشكوك حول مستقبل المجتمع المدني ومدى قدرته على الصمود بالرغم
من كل مايقال حول ضرورة تفعيل مؤسساته والتغني بميزاته ودوره في ارساء
قواعد الديمقراطية الصحيحة والسليمة.
وعلى ذلك فانه بصرف النظر عما يثيره من شكوك اعداء ومناوئو المجتمع
المدني الذين يرون فيه تهديدا لمصالحهم الخاصة، وبصرف النظر ايضا عما
يعتري بعض المنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات المجتمع المدني من قصور
وانحراف عن الهدف فان الدعوة الى الى تقوية هذا المجتمع تلقى كثيرا من
الترحيب والتاييد ليس فقط من شعوب العالم فقط بل ومن بعض المؤسسات
الدولية ايضا وكذلك من بعض الشركات الكبرى التي قد تتعارض مصالحها
الاقتصادية الخاصة مع المبادئ والقيم التي ينادي بها المجتمع
المدني.فالبنك الدولي على سبيل المثال طلب من مجموعة العمل الخاصة
بالجمعيات الطوعية دراسة افضل الطرق لتطوير العلاقة بين البنك والمجتمع
المدني مع تحديد الدور المستقبلي الذي يمكن ان يقوم به البنك في مجال
التعاون مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية وخطوات تنفيذ هذا التعاون.
وهذا احد الامثلة على ارتفاع الاصوات التي تنادي بضرورة نبذ نمط
التفكير الذي يشايع ويؤيد فكرة الحكومة التي تعمل بمعزل عن جماعة
المواطنين، كما تشير الى ازدياد الاتجاه نحو المشاركة في التنظيمات
المدنية على كل المستويات وانه يجب النظر الى المجتمع المدني كمشارك
اوشريك وليس كبديل عن الاجهزة الحكومية.
لقد اصبح من الواضح الان ان مصير العالم لم يعد رهينة الصراع بين
القوى العظمى التقليدية والمعروفة للجميع (الدول العظمى) بل ان هناك
قوة عالمية ثالثة لها القدرة على التصدي لنفوذ وهيمنة قادة العالم
السياسيين والاقتصاديين والحد من هذا النفوذ وتلك الهيمنة، وهذه القوة
الثالثة هي المجتمع المدني الذي بدا يوحد صفوفه على مستوى العالم ويتخذ
بذلك طابعا عالميا تتكتل تحته المنظمات والمؤسسات والجمعيات و
الاتحادات وكل التنظيمات غير الحكومية في كل انحاء العالم بحيث ظهر
تعبير جديد يعبر عن واقع الحال وهو المجتمع المدني الكوكبي.
وقد عمدت منظمات المجتمع المدني الكوكبي في تنظيم علاقتها وتوحيد
مواقفها وحملاتها منذ عام 1988 الى الاعتماد على شبكات الانترنيت وكان
لذلك اثره فيتجمع الصفوف بحيث شارك في مسيرات الاحتجاج الجماعي ضد
منظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر سياتل أكثر من خمسين ألف ناشط من
مختلف دول العالم وكان يقف وراءهم بغير شك ملايين من الناشطين الاخرين
الذين لم يتمكنوا من الذهاب بانفسهم الى مقر انعقاد المؤتمر.
والجديد والمهم هن هو الاسلوب المبتكر في التواصل وتبادل الاخبار
والمعلومات من خلال الانترنيت، فعصر المعلومات يهيئ الفرصة اذن لقيام
مجتمع مدني عالمي او كوكبي يمثل ملايين البشر الذين ينتمون الى عدد
كبير جدا من المنظمات والمؤسسات والجمعيات غير الحكومية ذات الطابع
العالمي والعابرة لكل الحدود الدولية والاقليمية.
ويبدوان القادة السياسيين والاقتصاديين في الدول الكبرى وفي
المنظمات العالمية المهيمنة اصبحوا الان امام احد امرين لا ثالث لهما
فاما ان يتقبلوا المجتمع المدني الكوكبي بكل متطلباته ويعملوا على
تنفيذ ماهو معقول ومشروع منها بعد التفاوض والاتفاق وبما يحقق الصالح
العام للجنس البشري، واما ان يتجاهلوا هذا المجتمع المدني الكوكبي
ويسقطوا من اعتبارهم ما يتقدم به من مطالب ومشروعات وما يعرضه من اراء
وفي ذلك خطورة كبرى على بقائهم هم انفسهم وعلى استمرار منظماتهم
ومؤسساتهم الدولية الكبرى في الوجود.
*(نص الكلمة التي ألقاها الشيخ علي عبد
الحسين كمونة في المؤتمر الأول لمنظمات المجتمع المدني في كربلاء
المقدسة) |