ولادة شعب

نـزار حيدر

   يوما بعد آخر، تتضح ملامح العراق الجديد، لتتوج بتقدم العملية السياسية إلى الأمام، باعتماد الدستور الجديد في الخامس عشر من تشرين الأول القادم، والذي كانت الجمعية الوطنية قد اعتمدته يوم أمس، بعد أن تم الاتفاق على صيغته النهائية من قبل اللجنة المسؤولة عن تدوينه، اثر توافق الكيانات السياسية وممثلي مختلف شرائح المجتمع العراقي عليها.

   فلأول مرة في تاريخ العراق الحديث، يكتب العراقيون مسودة دستورهم بأيديهم، ومن قبل ممثلين منتخبين وغير معينين، ليقول الشعب كلمته الأخيرة فيه، في استفتاء شعبي عام.

   لقد واجه المشرعون العراقيون، تحديات (الاحتلال) والإرهاب وابتزاز بعض أيتام النظام الشمولي البائد، الذين تصوروا بأن الدستور لا يمكن تمريره من دون بصمتهم، فلماذا لا يبتزون إذن؟ ولذلك لم نسمع منهم طوال المدة ، رأيا أو اقتراحا يضيف شيئا إلى ما هو موجود على طاولة المفاوضات، وإنما كم هائل من الشعارات والمعرقلات التي انتهت بهم إلى لا شئ، بالرغم من أنهم تطفلوا على العملية الدستورية من دون تفويض حتى من الشريحة التي يدعون تمثيلها، ساعين حتى آخر لحظة، إلى الإمساك بالعصا من الوسط، متأرجحين بين الحنين إلى الماضي والخوف من العراق الجديد، يحدوهم، في ذلك، الإصغاء إلى صوت الإرهابيين الذي ظل يدوي طوال الوقت، ولكونهم لا يتحلون بالشجاعة الكافية، لقول حقيقة ما يجول في أنفسهم، راحوا يتلفعون بشعارات (وطنية) أبدت حرصا منقطع النظير على وحدة العراق، وكأن الباقين يريدون تجزئته، أو يتربصون بها.

   لقد أخذ هؤلاء على المسودة، مثلا، ذكرها تجارب الماضي المرير، ناسية أن ذلك من حق الضحايا، من أجل أن لا تتكرر من جديد{كما هو حال دساتير الشعوب التي مرت بتجارب مشابهة لما مر به العراقيون، كاليابان وألمانيا والولايات المتحدة الاميركية وغيرها} وان دل ذلك على شئ، فإنما يدل على إصرارهم على تذكير الجميع، بمناسبة ومن دون مناسبة، بانتمائهم إلى الماضي الأسود.

   لقد سعى المشرعون العراقيون، إلى عدم إغفال أية شريحة من شرائح المجتمع العراقي، في إطار وحدة العراق الذي تتسع خيمته لكل العراقيين من دون استثناء أو تمييز، فأعطوا لكل ذي حق حقه، من دون غبن أو تجاوز أو إغفال.

   ولا زالت الفرصة قائمة، لإدراج ما غاب عنهم من حقوق بعض من يعتقد أنه لم ينصف في المسودة، لسبب أو لآخر، ليس من بينها بالتأكيد التعمد مع سبق الإصرار.

   كما لم ينس المشرعون أن يذكروا الضحايا التي لولا جودهم بالغالي والنفيس، لما نعم العراق بمثل هذا اليوم، ليشهد ولادة هذا العقد الاجتماعي الهام، وأقصد به وثيقة الدستور.

   كما أعادوا إلى الأذهان، دور القوى المؤثرة في المجتمع العراقي، التي ساهمت بمواقفها الحكيمة وآرائها السديدة، في إنجاز المهمة التاريخية، وعلى رأسها المرجعية الدينية، التي حفظت العراق من الانزلاق في الكثير من المهاوي والمهالك، خاصة منذ سقوط الصنم.   

   انه نموذج يحتذى لكل الشعوب المقهورة والمغلوب على أمرها، تلك التي صيغت دساتيرها من قبل الزعيم الأوحد أو الحزب الواحد، من دون أن يكون لها أي رأي فيه.      ففي ظل الأنظمة الشمولية الاستبدادية، لا أحد يعرف كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ومن؟ الذي دون الدستور، بل، لم يكترث أحد بالسؤال عنه، لأن وجوده وعدمه سيان، فالحاكم هو الدستور وهو القانون الأعلى وهو القرار، وما الشعب، إلا قطيع يساق بحسب رغبة الحاكم الضرورة الذي لم تنجب نساء العالم مثله.

   ولا نقول أن الدستور العراقي الجديد، كامل متكامل، فهو ليس نص سماوي لا يجوز الطعن فيه، كما انه ليس نصا توراتيا لا يحق لأحد أن يعيد النظر فيه كلما ارتأت أغلبية الشعب ضرورة ذلك، ولهذا السبب نصت إحدى فقرات أحكامه الختامية، على مبدأ التعديل ضمن الأطر القانونية، ولكن يكفي المشرعين العراقيين، أنهم بذلوا كل طاقاتهم ولم يوفروا مشورة، أو يألوا جهدا، من أجل التوصل إلى أفضل الصيغ، ولذلك فان المسودة ولدت كأفضل جهد إنساني يمكن أن يدون في ظل الظروف الصعبة والقاهرة التي يمر بها العراق، على أمل أن يتطور النص بمرور الزمن، وكلما تحسنت الظروف الأمنية والسياسية، وبتقادم الزمن بعيدا عن آثار الماضي الأسود الذي مر به العراق والعراقيون.

   لقد خيب المشرعون العراقيون ظنون كل الذين راهنوا على تناحرهم، وعلى تغليبهم الانتماءات العرقية والدينية والمذهبية والسياسية على الانتماء للوطن، كما أسقطت النصوص، رهانات كل من ناصب العداء للدين والقيم والمناقبيات {خاصة بعض فلول اليسار المهزوم، التي ظلت تتهجم وتتهم وتطعن وتشكك بكل ما يمت إلى الدين والقيم بصلة، من اتجاهات وقوائم انتخابية ومندوبين ومؤسسات} ليثبت العراقيون أنهم أكثر الشعوب احتراما للماضي من دون التغافل عن المستقبل، كما اثبتوا أنهم أوفياء للتاريخ من دون التوقف عنده، وأنهم حريصون على استحضار الماضي من دون التحجر عليه.

   لقد استحضر المشرعون العراقيون، الماضي والحاضر والمستقبل في موازنة قل نظيرها في تاريخ الشعوب، فلم يفرطوا بتاريخهم وانتماءاتهم، على حساب الحاضر والمستقبل، كما انهم لم يستغرقوا في استحضار المستقبل على حساب الانتماء إلى التاريخ، ولذلك خاب من افترى عليهم التخلف والجمود والانكفاء والانطواء، ممن حاول الطعن في عقليتهم المنفتحة والمتنورة، كما خاب من سعى إلى وصمهم بالانقلاب على ماضيهم وانتماءاتهم التاريخية، وارتدادهم على ثوابتهم المبدئية، وبكل أشكالها، وبالتنكر لهويتهم وانتماءاتهم.

   لقد أكدت مسودة الدستور العراقي الجديد، مجموعة القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية التي لا تنفك عن الهوية الإسلامية الأصيلة {وليست تلك التي اغتالها الإرهابيون باسم الدين، أو اختطفها المتحجرون من الآخرين} فأكدت المسودة على؛

   أولا: وحدة العراق، أرضا وشعبا، وسيادته على خيراته، ولقد ترجمت المسودة هذا الحرص باعتمادها النظام اللامركزي(الاتحادي) كأنسب أنواع الأنظمة السياسية والإدارية للعراق، بما يحقق أعلى حالات المشاركة الشعبية في الحكم، وللحؤول دون تكرار تجارب الأنظمة الشمولية، أو نمو الديكتاتوريات، التي تطغى إذا استأثرت.

   ثانيا: هوية العراق الوطنية الأصيلة التي ساهم في بلورتها الإسلام، بقيمه الإنسانية ومبادئه الخالدة وأسسه وثوابته الراقية وأئمته وعلمائه وفقهائه، والتنوع بكل أشكاله، وتراث الحضارات التي تعاقبت في هذا البلد.

   ثالثا: تقاسم الخيرات والثروات التي وهبها رب العزة لهذا الشعب الأبي، من دون استئثار منطقة على أخرى، أو شريحة على ثانية، فضمن بذلك حق الأجيال القادمة في الثروات الطبيعية التي عدها الدستور، ملكا لكل العراقيين من دون استثناء.

   لقد تجاوزت المسودة كل الألغام التي كان قد زرعها قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، فألغى كل ما يمت بصلة إلى الثالوث المشؤوم (الفيتو والتوافق والمحاصصة) وبذلك يكون الدستور قد أعاد الاعتبار الفعلي والقانوني، وليس الصوري، لصندوق الاقتراع، ليعتمد، بالتالي، صوت المواطن العراقي، كميزان وحيد لتحديد اتجاهات الرأي العام في العراق الجديد، ولبناء مؤسساته الجديدة، على أساس المساواة وتكافؤ الفرص واعتماد قيم الكفاءة والخبرة والنزاهة، والتداول السلمي للسلطة.

   كما أعادت المسودة، المرأة العراقية إلى موقعها الطبيعي في المجتمع وعملية البناء والمشاركة في الشأن العام،  والذي كانت قد أزيحت عنه في ظل النظام الاستبدادي الشمولي البائد.

   وبالرغم من إيماني بأن المسودة هي أفضل ما يمكن أن يدون في الوقت الحالي، إلا أنني أرى أن من المناسب أن أدلي برأيي فيها، بنظرة عامة شاملة.

   شخصيا كنت أتمنى أن لا يستغرق الدستور بكل هذه التفاصيل، لأن الدستور{أي دستور} فلسفة وليس نصوص، انه روح وليس جمل تصف تباعا.

   كما أن الدستور يلزم أن يحتوي، عادة، على المبادئ العامة من دون الاستغراق في التفاصيل التي يجب أن تناط بممثلي الشعب (البرلمان) الذين سيأخذون على عاتقهم تطبيق تلك المبادئ العامة على الواقع المتجدد لكل جيل من الأجيال، اخذين بنظر الاعتبار الظروف المتجددة التي يمر بها كل جيل، والتي تختلف عادة من جيل إلى آخر.

   حتى الإسلام، كدين سماوي منزل من قبل الخالق جل وعلا، لا يحتوي إلا على خمسة أصول فقط {أو ثلاثة على رأي البعض} أما الفروع والأحكام، فلا تعد ولا تحصى، فأصوله ثابتة، أما الفروع فان من حق الفقهاء والعلماء الاجتهاد فيها في إطار تلك الأصول التي لا يحق للمسلم أن يقلد فيها أحد، كائنا من كان، إذ يلزم الإيمان والاعتقاد بها عينيا، وعن قناعة ووعي، ولهذا السبب بقي الإسلام حيا طريا يتجدد بتجدد حاجات الإنسان، لا يضعف أثره بتقادم الزمن وتجدد الأجيال، كما أن هذه الفلسفة هي التي ظلت تثير عقل الإنسان في إطار الاجتهاد، من أجل التجديد في كل آن ومكان.

   وهكذا، كنت أتمنى أن يكون الدستور العراقي الجديد، فيأتي على تدوين الأصول ويترك الفروع والتفاصيل للنواب أن يجتهدوا فيها، والا، فلو أن الدستور جاء على ذكر كل التفاصيل، فما الذي نتركه للمشرعين القادمين، إذن ؟ انه نوع من أنواع التجاوز على حقوقهم، وسلبهم القدرة على الاجتهاد والتجديد.

   كما أن تجارب البشرية أثبتت، بان الدساتير التي تكتفي بتدوين الأصول العامة، دون الدخول في التفاصيل، تكون أقرب إلى التطبيق والتنفيذ والاستمرار والتطوير والحيوية، منها، عن تلك التي تستغرق في التفاصيل، ولذلك، عد الدستور الاميركي، من أطول الدساتير عمرا من الناحية التطبيقية، لأنه اكتفى بتدوين الأصول فقط، فجاءت نصوصه بست وعشرين مادة فقط، لأن العبرة ليس في النصوص، وإنما في فلسفتها، ومن ثم في الالتزام بها وتطبيقها.

   إن لكل جيل من الأجيال المتعاقبة خصوصياته وحاجاته، يعبر عنها تحت قبة البرلمان من قبل النواب المنتخبين، الذين تتجلى مهمتهم ونجاحاتهم في تفسير النصوص الدستورية (الأصول العامة) وصياغتها كقوانين تلبي الحاجة الآنية لكل جيل، ولذلك فرق علماء القانون بين معنى الدستور ومعنى القانون.

   أخيرا:

   لقد أبدت كل الأطراف، إلا اللمم، حرصا ومرونة ليلتقي الجميع في وسط الطريق، من أجل ولادة هوية العراق الجديد.

   كما أبدى ضحايا النظام البائد (الكرد والشيعة على وجه التحديد) حرصا مدهشا على وحدة العراق وشعبه فردا فردا من دون التمييز بينهم، بالرغم من ضغط الشارع الذي كان يتمنى أن يشعر أكثر بأن المشرعين قد أنصفوه إلى درجة كبيرة.

   فتحية لكل من ضحى وصبر وعظ على الجراح، وتنازل من أجل المصلحة العليا، لتنتعش الآمال في نفوس العراقيين بولادة الدستور الجديد.

   لقد أنجز المشرعون العراقيون{ممثلو الشعب العراقي} ما عليهم، وبقي أن ينجز الشعب العراقي ما عليه من مهمة وطنية، فيقول رأيه واضحا صريحا بالدستور بعد الإطلاع على مسودته ومناقشتها ودراستها والتشاور بشأنها، خلال الشهرين القادمين، قبل أن يقف أمام صندوق الاستفتاء العام ليقول رأيه النهائي، فالمشاركة في الاستفتاء، بغض النظر عن النتيجة، واجب عيني، شرعي ووطني، يمليه علينا حب الدين والوطن والقيم والتضحيات والجهود التي بذلت والأجيال القادمة، التي نأمل أن نورثها ما يعينها على العيش بحرية وكرامة وسلام وأمن وأخوة وسؤدد.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية -الخميس 25/ اب/2005 -19/ رجب/1426