التجانس والأمن في العالم

بقلم المهندس  فؤاد الصادق

يواجه العالم اختبارا يستدعي صياغة معادلة دقيقة وجديدة للعلاقة بين التجانس والأمن في العالم بعد أن انتشر العنف والارهاب في كل مكان .

قبل قرون أثبيتت التجربة لبعض الدول الأوروبية ، وبثمن باهظ :

بأن محاولة فرض التجانس الطائفي من فوق ، وبواسطة الحكومات في جميع انحاء الدولة الواحدة ليس مجديا ، ويتعارض مع الأمن المدني لتلك الدولة ، فلا يدعم تماسك النسيج الاجتماعي ، بل يقطع الاتصال والحوار ويزرع التعصب فيقود إلى الصراع والتقاتل والحروب الأهلية في تلك الدولة .

فكانت ولادة التعددية في السياسة الداخلية هناك ، وأخذت مراسيم التسامح المبنية على التعددية بعيدا عن المطلقيّة وأختها النسبيّة تشق طريقها لترى النور من جديد , فشرع التعايش يأخذ مكان التقاتل داخليا ، واستتب الأمن ، وبدأت مسيرة البناء والتقدم الصناعي والعمراني و...

لكن هذا الحدث والتطور حدث في السياسة الداخلية فقط فأثمر في المحيط الذي روعي فيه ، أي ان بعض الدول ضمنت الأمن والاستقرارالمدني الداخلي بقبول وتكريس مبدأ التعددية ، ونبذ فرض أي نوع من انواع التجانس بواسطة الدولة من فوق ، لكن مالم يقع في نفس الاتجاه يتلخص في عدم رعاية تلك التجربة ومعطياتها في علاقة الدول والحكومات مع بعضها الآخر فيما يخص ثقافة شعوب تلك الدول ، فكل دولة اوحكومة واصلت بشكل أو باخر محاولة فرض التجانس الثقافي ، أي فرض ثقافتها على الدولة أو الدول الاخرى ، لمصالح أو اهداف اوتصورات معينة .

فلم يفكر العالم مليا في تطوير نفس الفكرة ، وأعني : فرض التجانس يعدم الأمن ، وذلك لتسريته وتطبيقه في العلاقة بين دولة واخرى ، وبالتالي في العلاقات الدولية ، لدعم وتكريس تفاهم وتعايش الدول المختلفة ، وبالتالي الاقتراب من الأمن والاستقرار والسلام ، فكانت الصراعات الدموية والحروب المتتالية وازهاق النفوس والأموال ، وراح الأمن الداخلي المدني الذي تحقق داخليا أدراج الرياح ، واهدرت مكتسباته وانجازاته .

لماذا ! ؟

لان كل دولة وبمقدار قوتها ، وطبقا لمصالحها كانت تعمل جاهدة وبمختلف الطرق والوسائل فرض التجانس ، أي فرض ثقافتها على الدولة الاخرى ، أو الدول الاخرى ، أي رفض التعددية في العلاقات الدولية ، ومع الأسف هذه السياسة المطلقية التي تلبست فيمابعد بالنسبية المطلقة نسبت إلى الاديان او الحضارات ، وهي بريئة تماما منها ، فمثلا بريطانيا يومئذ كانت تحاول تصدير وفرض ثقافتها على الدواالاخرى ، وهكذا المانيا الهتلرية ، والدولة العثمانية مع العرب وغيرهم ، وبقي الوضع كذلك ابان الحرب الباردة والثنائية القطبية ، فالشيوعية، وكما الرأسمالية كانت تحاول فرض التجانس الثقافي على العالم ، فحرم العالم من الأمن والاستقرار والسلام ولم يعد الأمن المدني الداخلي الذي تحقق بفضل التعددية ونبذ فرض التجانس في الدولة مستقرا في الدول التي ذهبت إلى ذلك ، والوضع الأمني والنفسي للشعوب في مدن تلك الدول التي تورطت في الحرب العالمية الاولى والثانية يدل على ذلك ، وبقي الأمركذلك لكن بشكل اخر ، وبنسبة اخرى في ظل الحرب الباردة ، فاستقرار الأمن كان معدوما إلى حد كبير ، غاية ما في الأمر ان الحروب كانت بالوكالة ، فلا ننسى ازمة الصواريخ الكوبية ومانحوها ، وهنا لابد من الاشارة إلى انني لا أقصد بنفي التجانس مايرتبط بالقيم الكونية المشتركة المتفق عليها في كلياتها كا لكرامة الانسانية ، الحرية ، الديمقراطية ، حقوق الانسان و.... ، وان كانت هذه القيم ايضا زراعتها لاتنجح بالفرض من فوق ،وبحاجة إلى مرحلية وتوعية وتدريب ومن أسفل الهرم الاجتماعي عبر مؤسسات المجتمع المدني وما نحوها ، لان :

الناس أعداء ماجهاوا

كما عن الامام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) .

المهم واستمر الحال على هذا المنوال حتى بدت علامات تهاوي الاتحاد السوقيتي تلوح في الافق ، فوقع ما وقع حتى ضرب الارهاب الوحشي البربري الابرياء والمدنيين في 11 سبتمر - أيلول بالولايات المتحدة الامريكية فأمسى الأمن المدني الداخلي هو الملف الأول فبرزت للغرب المعادلة التالية إلى السطح  :

العالم تعولم

اذن لايمكن ضمان الأمن المدني لدولة دون ضمانه في الدول الاخرى

وكما تمكنا سابقا من ضمان الأمن المدني الداخلي لبعض دولنا عبر تكريس التعددية والياتها ووسائلها ولواحقها

كالديمقراطية والفدرالية والحرية والعدالة و...... ، وعليه لامناص من قبول نفس الستراتيجية المتمثلة بالتعددية للدول الاخرى ، ولاسيما التي تعاني من الاستبداد المستدام .

فعاد ماكان مرفوضا منذ أمد بعيد مقبولا ، وأعني المطالبة الداخلية لشعوب واكثر نخب المنطقة بالديمقراطية والتغيير ، لان المطالبة بالديمقراطية في تاريخنا القريب عاد إلى الصدارة مرة اخرى منذ اوائل القرن العشرين وقبل الحرب العالمية الأولى .

وبايجاز اصبح قبول تطبيق التعددية في كل دولة من دول العالم جزءا من المفهوم الستراتيجي للأمن المدني في العالم .

وهذه النظرية الاخيرة و بعيدا عن التسييس ونظرية المؤامرة انجاز انساني وحضاري يبشر بخير وتحسد البشرية

عليه لكن :

هناك نقاط عديدة يمكن ان تودي بحياة النظرية المتقدمة من اهمها :

فرض التجانس في تفاصيل التعددية عند نشرها والدعوة اليها ، ففرض ذلك خرقا للتعددية مرة اخرى ، ويقود الىاجهاض التغيير برمته عاجلا ام اجلا .

فلا مفرّ من الانتباه جيدا إلى ان التعددية التي روعيت داخليا فأثمرت في زرع التسامح وتوطيد الأمن الداخلي المدني في الدولة الواحدة ، ينبغي ان تراعى في نشر وتشجيع التعددية في العالم  بأن نتحاشى في فرض التجانس حتى في تفاصيل تكريس التعددية ولوازمها, والاسوف ينهار التغيير والتحول إلى الديمقراطية ، وبالتالي لاننجح في ضمان الأمن في العالم ن ويعود العنف والارهاب بالعالم إلى المربع الأول،فالطرق إلى الديمقراطية عديدة وكثيرة ، الأهم هو محور وأساس الديمقراطية ، فالثقافات مختلفة ، ويستحيل توحيدها ، والتعددية هي السبيل لتفاهمها وتعايشها فتعاونها ، ومن دون ذلك سنعيد تجربة المجرب ، واكتشاف البارود من جديد .

فكما يسلب فرض التجانس في جميع انحاء الدولة الواحدة الأمن المدني من تلك الدولة ، كذلك الأمر اذاحاولنا فرض التجانس فيما يرتبط بتفاصيل التعددية ولازمتها الديمقراطية في العالم ، ففرض التجانس قي هذا المجال اوغيره لايجدي ، وهو خلاف التعددية  المنشودة لدعم الأمن في العالم ، وقد قال سبحانه وتعالى قبل كل ذلك :

( يأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعرفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير )         الحجرات 13

( فذكر انما انت مذكر * لست عليهم بمصيطرر )   الغاشية 21-22

هذا من جهة ، وأن فرض التجانس من قبل الدول يخلق الأرضية الخصبة لصراع المصالح المسمى زورا وتزويرا بصراع الحضارات !!

وفي جلمة ونص - طبقا للمثل العراقي - نكون مصداق للمثل القائل :

يشعل النار ويقول حريق

وباقتضاب ما بعثني على كتابة هذه السطور يعود إلى انني طالعت مسودة الدستور العراقي الدائم المقترح  إلى جانب الكثير من الانتقادات له ، فوجدت المسودة المقترحة مبهمة ، تمثل خطابا سياسيا ، تفتقر إلى الآليات الفنية المنسجمة ، وجل المسائل المحورية مؤجلة ، أو تم ارجاعها إلى المشرع العادي ، وهذا في غاية الخطورة اضافة إلى ثغرات اخرى بحاجة إلى بحث مستقل ، والذي ادهشني ان اكثر منتقدي المسودة اهملوا كل ذلك ، وتمحورت انتقاداتهم على ما يرتبط ببحثنا المتقدم :

يريدون فرض التجانس في روح ونص الدستور

يريدون العلمانية بشقها اللاديني

والنتائج الكارثية لفرض التجانس واضحة في ضوء ماتقدم ايا كان موضوع التجانس ، ولاشك، ولاريب ان العلمانية اللادينية ليست من القيم الكونية المشتركة بحال من الاحوال . 

معهد الامام الشيرازي الدولي للدراسات - واشنطن

Siironline.org

شبكة النبأ المعلوماتية -االسبت 6/ اب/2005 - 1/ رجب/1426