ثقافة الاعتراف

دكتور أحمد راسم النفيس

رغم أن البشر يسارعون لتصحيح ما لديهم من أخطاء الإبصار ويرتدون نظارة تساعدهم على رؤية القريب والبعيد إلا أن هذه الرغبة التصحيحية تبقى قاصرة في كثير من الأحيان على الأمور المادية ولا تتخطاها إلى الأمور السياسية والاجتماعية والأخلاقية ولذا تبقى مأساة عالمنا الإسلامي متمثلة في عجزه عن رؤية أخطائه فضلا عن امتلاكه شجاعة الاعتراف بهذه الأخطاء والسعي لتصحيحها.

الله تبارك وتعالى يقول (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ولكي يتمكن القوم أن يغيروا ما بأنفسهم من أخطاء عليهم أولا أن يتصارحوا بهذه الأخطاء لا أن يتستروا عليها ويكابروا وينكروا وجودها ويلقوا بالمسئولية على الغير.

الأمر ليس قاصرا بحال على ما يسمى بالحركات الإسلامية بل هي حالة مجتمعية عامة لم يفلت من أسرها إلا القليل من البشر.

إنها حالة مرضية تسعى بإصرار ودأب لتبرئة الذات المسلمة التي هي خير ذات أخرجت للناس أمرت بالمعروف أو لم تأمر!! عرفت المعروف أو لم تعرف!! لا عليك فذاتنا لم تخطئ أبدا وحزب التبرير جاهز دائما للشرح والتفسير.

المسلمون ورغم كل ما جرى لهم لم يغيروا شيئا من أولوياتهم الفكرية والسياسية لأن من شب على شيء شاب عليه ومات عليه وضل وأضل وهلك وأهلك ولا زالت نفس الوجوه تطل علينا بنفس الخطاب وبنفس العقلية التي ورثوها كابرا عن كابر منذ عهد بني أمية ولو أحسنا بهم الظن لقلنا منذ عهد المماليك.

إنهم ضد الطائفية في العراق ومعها في بقية بلاد العرب ومع السيارات المفخخة التي تقتل المئات من الأطفال والنساء وتستهدف المساجد يوميا في العراق وضدها في شرم الشيخ وطابا وهم يطالبون باحترام سجناء (الرأي) في جوانتانامو ويؤيدون خطف الرهائن الأبرياء من النساء ووضعهم في أقفاص في العراق كما أنهم ينددون بقوة لا هوادة فيها بمحاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية في مصر ويباركون أحكام الإعدام الشفهية التي تصدرها محاكم الزرقاوي في العراق ويكررون أن (سماحته حفظه الله لم يقتل بريئا ولم يذبح سوى العملاء) هكذا من دون نقض ولا استئناف وعدالة الحكم في ميزانهم المختل ترتبط بكونه يزبط الدماغ ويثير الحماسة والنشوة لدى ذواتهم المريضة التي تفرح لسفك دماء الأبرياء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إنهم يرفضون أن يتولى (هذا الزيباري الكردي) العراقي خارجية العراق وما زالوا يهللون لأن (صلاح الدين الأيوبي الكردي) هو وأبناؤه قد حكموا مصر أكثر من سبعين عاما أو كما قال ذلك القومي الناصري!!!.

إنها ثقافة الكهوف التي تقسم المواطنين إلى أبيض وأسود وكردي وعربي ومع ذلك يزعمون أنهم تقدميون وليسوا متخلفين.

ثقافة الكهوف وكهوف الثقافة

ثقافة الكهوف هي تلك الثقافة السائدة في مجتمعاتنا والتي يتبناها هؤلاء التقدميون أصحاب الياقات البيضاء وهي نفس الثقافة التي يتبناها أصحاب الجلابيب البيضاء لا فارق جوهري بين الاثنين.

إنها الثقافة التي ترفع شعارات تحمل الغرب المسئولية الكاملة عن كل ما لحق بالمسلمين من مصائب وويلات (لأن الغرب وعملائه من التغريبيين هم من قادوا المسلمين للانحراف عن الصراط المستقيم!!) ولا بأس بعد ذلك بتلاوة لائحة المتهمين المجرمين المدانين بتهمة بث الفسق والسعي لتخريب العقيدة والأخلاق وأولهم محمد علي الذي أرسل البعوث إلى الغرب ليعودوا بعد ذلك للقيام بإفساد الأخلاق والدين بدءا من رفاعة الطهطاوي وصولا إلى طه حسين.

أما كهوف الثقافة فبعضها حجري أصبح الآن قلاعا خراسانية ولكنه من الداخل خمسة نجوم تمول بالدولار وهي تبث للناس تلك الجهالات والخرافات وهناك كهوف زجاجية لا تهش ولا تنش ولا تقدر على إلقاء حجر واحد ولو كان هذا حتى دفاعا عن النفس ولكنها ترفع شعار دعونا نعمل في صمت.

ثقافة الكهوف الحجرية التي تبثها الإذاعات المحلية المنتشرة في طول البلاد وعرضها فضلا عن القنوات الفضائية هي الركيزة الأساسية للمشروع الطالباني الزرقاوي الجهادي المعادي (للغرب وعملاؤه) في المنطقة.

إنها ثقافة لم يقم أحد بالرد عليها ولا تفنيدها فضلا عن شرح أسباب تخلف المسلمين وانحرافهم الأخلاقي التي هي من دون شك أبعد بكثير من تلك الأسباب الواردة في لائحة الاتهام التي ذكرناها سابقا.

ولن نتحدث عن جذور الاستبداد السياسي ولكننا سنتحدث عن جذور الانحراف الأخلاقي الذي يرفضونه غربيا ويقبلونه إسلاميا تماما مثلما يرفضون المفخخات في شرم الشيخ ويهللون لها في العراق رغم أن الانحراف هو الانحراف والفساد هو الفساد والقتل هو القتل.

أما أولئك الأطهار الخائفين من أن يتلوثوا بالبيبسي والماكدونالد فنهدي إليهم نموذجا واحدا من (تاريخنا المفترى عليه) ولدينا مزيد من الفساد الأخلاقي الذي ضرب مصر والعالم الإسلامي في العصر المملوكي الذي يهلل شيوخنا له لأنه كان يحكم بالشريعة الإسلامية حتى جاء الغرب وألغى العمل بهذه الأحكام أو كما قالت جماعة الإخوان!!!.

يحكي شيخنا المقريزي عن ذلك الشيء المسمى بالظاهر برقوق الذي حكم مصر أواخر القرن الثامن الهجري فيقول: (وكان حازماً مهاباً محباً لأهل الخير والعلم إذا أتاه أحد منهم قام إليه و لم يعرف قبله أحد من ملوك الترك يقوم لفقيه!! إلا أنه كان محباً لجمع المال‏ وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل (الرشاوى) فلا يكاد أن يلي أحد وظيفة ولا عملاً إلا بمال فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذل وفسد بذلك كثير من الأحوال‏ وكان مولعاً بتقديم الأسافل وحط ذوي البيوتات وغيَّر ما كان للناس من الترتيب وعادى أكابر التركمان والعربان ببلاد الشام ومصر والحجاز‏.‏ واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة (فقط لا غير!!)‏:‏ إتيان الذكران حتى تشبه البغايا لبوارهن بالغلمان لينفق سوق فسوقهن وذلك لاشتهاره بتقريب المماليك الحسان وتهمته (..) وتهمة أمرائه بعمل الفاحشة فيهم‏ والتظاهر بالبراطيل التي يستأديها واقتدى الولاة به في ذلك حتى صار عرفاً غير منكر البتة‏.‏وكساد الأسواق وقلة المكاسب لشحه وقلة عطائه‏ وبالجملة فمساوئه أضعاف حسناته‏ ولقد بعث العبد الصالح جمال الدين عبد الله السَكسيوي المغربي يخبر أبي - رحمهما اللّه - أنه رأى في منامه أن قرداً صعد منبر الجامع الحاكمي وخطب ثم نزل ودخل المحراب ليصلي بالناس الجمعة فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم وأخرجوه من المحراب‏ وكانت هذه الرؤيا في أخريات سلطة الملك الأشرف شعبان ابن حسين وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة‏ فكان تقدمه على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا فإنه كان متخلقاً بكثير من أخلاق القردة شحاً وطمعاً وفساداً ورذالة ولكن اللّه يفعل ما يريد)‏.‏

الفساد إذا ليس صناعة أمريكية كما أن التغريبيين الذين أرسلهم محمد علي إلى فرنسا لم يفعلوا ما فعله ذلك القرد المسمى برقوق مما يعف لساننا عن ذكره أو وصفه والبرقوقيون المعاصرون  يستخدمون التقنية الغربية تماما كما تستخدم ثقافة الكهوف تقنية الفضائيات والإنترنت في الإعلان عن نفسها!!.

تعددت الأشكال والفساد والانحطاط واحد!!.

الحاجة إلى ثقافة الاعتراف:

أصبح الآن واضحا أنه من دون قيام المسلمين بنقد الذات وتجنيب الأخطاء بدلا من التصايح في وجه التغريب والاستلاب وادعاء بطولات زائفة فستبقى ثقافة الكهوف التي تقودنا نحو الانتحار الجماعي هي المتسيدة.

كما أصبح واضحا أن السادة سكنة الكهوف الزجاجية المكيفة الذين تدافعوا إلى رحلات سياحية حول العالم يحملون ابتسامتهم المصطنعة ويكررون أحاديث فارغة من أي مضمون عن الرفق الذي ما دخل في شيء إلا زانه وما خرج من شيء إلا شانه وعن تغيير لغة الخطاب بدلا من (يا أيها الكافرون ليصبح أيها الناس) وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى (وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير) كما أن القضية أصبحت قضية مجتمع وأمة تحتضر وهي قد خرجت بالفعل من سياق الحضارة والتاريخ وأن الخطاب الذي يصر البعض على توجيهه إليهم ليستحثهم على النهوض والتغيير لا يعدو كونه مجرد نداء في الصحراء.

لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.

Arasem99@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية -االسبت 6/ اب/2005 - 1/ رجب/1426