" الحقب الخلاقة أو التجديدية هي بالضبط تلك
التي يضطر فيها الناس تحت تأثير مختلف
الظروف، لتحقيق المزيد من التقارب بينهم
، تلك التي تكثر فيها الاجتماعات والمؤتمرات
، وتتداخل فيها العلاقات، وينشط فيها تبادل
الأفكار.." (1)
يخطأ كثيراً من يظن إن المرحلة الحاضرة التي يمر فيها العراق مجرد
مرحلة عادية وعابرة، بل هي مرحلة تحوّل جذري سوف يطال البنى السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع العراقي، وسوف تمتد
تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة إلى كل عالمنا العربي – الإسلامي،
فقد هبت رياح التغيير من العراق، وسوف تتبدل بتأثيراتها قناعات الشعوب،
ومنظومات القيم والأفكار، وأشكال الحكم السائدة، ومن لا يتهيأ لقبول
التغيير، فقد حكم على نفسه بفقدان الدور والسقوط في سلة مهملات التاريخ.
إن سقوط نظام صدام في 9 / 4 / 2003 لم يكن سقوطاً لحاكم مستبد في
بلد عربي، بل هو حكم على منظومة القيم وأشكال الحكم التي سادت في
منطقتنا منذ عهد الاستقلال بالفشل في تحقيق طموحات وأهداف الشعوب التي
تمثلها، فأصبحت هذه الشعوب تبحث عن بديل يحقق لها ما تطمح إليه، وقد
يختلف مدى التغيير واتجاهه من بلد إلى آخر، إلا إن الاقتناع بمبدأ
التغيير بات موجوداً في ضمير وعقل كل مواطن، وسوف تأتي نتائجه بالتتابع،
وكلما واجهت الحكومات وأصحاب العروش هذا التغيير بعنف، كلما ازداد عنف
التغيير، وكلما اتسمت برحابة الصدر، وخلقت الأرضية الملائمة للتغيير،
كلما أصبحت هناك شفافية ومرونة وأمان في ما يأتي به هذا التغيير من
نتائج.
إذن، تقف المنطقة على حافة تحول تاريخي في كل ما آمنت به، وتعاملت
معه من مبادئ وسياسات، والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل يمكن حصول
التغيير في ظل الثقافة السائدة لدى شعوب المنطقة ؟.
ونقصد بالثقافة السائدة، كل ما موجود من قيم وأفكار وممارسات حكم
خلقت الاستبداد، وأنجبت الطغاة والمتألهين من رؤساء وحكام أمسكوا
بكراسي الحكم،ولم يتركوها إلا بالموت أو الغزو الأجنبي. وهذه الثقافة
هي عبارة عن خليط من رؤى تاريخية للحكم تستمد مصادرها من ممارسات
العصور الوسطى الإسلامية،التي كان الملك فيها عضوضاً، والأثرة به
شعاراً، والسيف وسيلة، بدلاً من الإقناع والقبول من المحكومين، ثم جاءت
نظريات الحكم الشمولي في اوربا الحديثة (ألمانيا، ايطاليا، الاتحاد
السوفيتي)، وما تحمله من أفكار حول التنظيم الصارم والحزب الحديدي،
وإقصاء الخصوم بالعنف والإرهاب والإبادة لتزيد الطين بلة وتعطي زخماً
أكثر بشاعة للمصدر الأول، وقد ترافق ذلك مع وجود بيئة تتغلب فيها
النزعات القبيلية والعشائرية، والطائفية والجغرافية.
لقد اشتركت هذه العناصر الثلاثة (ممارسات العصور الوسطى الإسلامية،
نظريات الحكم الشمولي الأوربية، البيئة القبيلية والعشائرية...) في
تشكيل ثقافة عربية – إسلامية،تبرر في الأقل للحكام في منطقتنا الوسائل
غير المشروعة التي اعتمدوها للبقاء في الحكم وتفرض على الغالبية العظمى
من المحكومين الخضوع والطاعة تحت مسميات عديدة : دينية، وقومية،ووطنية،
وحتى اذلالية فكانت ثقافة تعاني من أمراض عديدة تستحضر فيها التجارب
المجيدة من ثقافتنا الإسلامية والتي يمكن أن تكون سراجاً يضيء طريق
الحرية بمنطق طائفي، وليس بمنطق إسلامي نموذجي، من أجل تكريس غلبة
طائفة ما وتفوقها على طائفة أخرى، وكانت مفردات الحرية والشورى، وفتاوى
وعاظ السلاطين، تستخدم من قبل الحكام لبقائهم مدى الحياة في كراسيهم من
خلال بيعة صورية مفروضة على الشعب،ومن يعارض، فهو كافر مارق، خارج من
الدين، وخائن للوطن. أما حقوق الشعوب وحرياتها العامة، فكانت شعاراً
تنادي به القوى السياسية للوصول إلى سدة الحكم، ومعارضة الحكام، وهي
لاتنوي أبداً تطبيقها، وعليه فان هذه الثقافة، تدور في حلقات مفرغة من
النظريات والممارسات المقيتة – القديمة والمهجنة بنظائرها الحديثة –
لترسيخ آفة الاستبداد وزيادة تفرعن الحكام، وهي ليست مناسبةً أبداً
للتحول الكبير الذي سوف تشهده منطقتنا.
إذن،المطلوب حصول ثورة ثقافية تأتي بثقافة جديدة، تنطوي على منظومة
قيم تكون أكثر تلبية لحاجات وطموحات شعوب المنطقة من المنظومة السابقة
الفاشلة، لكي تكون هذه الثقافة صحيحة وناجحة في تحقيق النتائج المرجوة
منها، كما يجب أن يبرز دور المثقف في وضع أسسها، وتحديد مسارها، حتى لا
تتحول رغبة التغيير الى شكل من أشكال الانسلاخ الثقافي، الذي يؤدي إلى
اقتلاع الأفراد من أصالتهم الثقافية، ويلقي بهم في أحضان هجين ثقافي
جديد،لا يلبثوا أن ينفروا منه، فيخرج من بينهم رواد لتيارات متطرفة
وعنيفة، تؤسس لحقب جديدة من الاستبداد.
إن قيام المثقف بدوره المطلوب في هذه الثورة الثقافية يتم بعد أن
يتجاوز الحالة التي اتصف فيها بعض المثقفين بالانتهازية ومارسوا دور
المؤيد والمبرر لأعمال الطغاة، وانسحب البعض الآخر من الحياة العامة
وهربوا متحسرين على حياة أفضل يرغبون العيش فيها، دون أن يشتركوا في
خلقها،، فيما أصبح فريق ثالث منهم رواداً لتيارات التطرف أو التغريب بل
التخريب لمجتمعاتهم ودون أن نغبن الصادقين حقهم، فاننا نحتاج لقيام
ثورة ثقافية ناجحة الى المثقف الايجابي، الذي يعي دوره ويقوم به بالشكل
الصحيح وإذا كان الحكام هم محور المنظومة القيمية في الثقافة السائدة،
فان الانسان، نعم والانسان فقط، ينبغي أن يكون محوراً للمنظومة
االقيمية في الثقافة الجديدة، فلا يكون هنالك تهاون مع الاعتداء، على
حرية الانسان المنضبطة لا الفوضوية العابثة، تحت أي مسمى، ويكون السعي
من أجل الارتقاء بمستوى الانسان العلمي والمعاشي والخلقي، غاية الغايات،
والهدف الذي من أجله تقوم الحكومات، وتبني مؤسسات المجتمع المدني
برامجها على أساسه، وهذا سوف يتطلب أن تكون الحرية في قمة سلم
الأولويات في الثقافة الجديدة، ولكي تتمتع الحرية بهذه المكانة، فانها
ستحتاج الى تغيير في برامج التعليم، وتنظيم في وسائل الإعلام، وتغيير
في بنى المجتمع، سيكون المثقف هو القوة المحركة لها.
لقد بدأت مرحلة تحول جديدة في منطقتنا، سوف لن تدرك تأثيراتها
العميقة إلا بعد مدة، ولكن لنعد العدة، كمثقفين وصناع قرار، ومهتمين
بمستقبلنا ومستقبل أوطاننا وأجيالنا القادمة، لكي نحصد ثمارها الطيبة،
ونتجنب سلبياتها، فلا نضيع وقتنا في الترهات، والسفسطات الكلامية،
والسياسات الحمقاء، التي لن تجلب إلا مزيداً من العار و الدمار
لكياناتنا السياسية والاجتماعية.
الهوامش :-
لمجموعة المؤلفين:
1- العنف والمجتمع. ط (1). بيروت، 1993، ص 91.
معاون مدير مركز الفرات
للشؤن لعلمية
استاذ النظم السياسية في كلية
القانون
جامعة كربلاء |