لطالما
تناولت الأوساط الثقافية كثيراً العلاقة بين الغرب والإسلام ، من جهات
عدّة وبمسميات مختلفة ، مثل العلاقة بين الغرب والعرب أو العلاقة بين
الحضارات في سجالات الصراع والحوار والتعارف والتكامل وما إليها من
مسميّات تسلّط بؤرة الضوء على هذه العلاقة الجدلية التي أنتجت الكثير
من النظريات والاستراتيجيات المحددة لمساراتها التعايشية أو التصادمية
أو التثاقفية ، ولا يخفى أن هذه الإشكالية قديمة جداً حيث كانت على
صورة مواقف أحادية الجانب كل جهة وكل حركة تتبنّى منهجاً خاصّاً في
التعامل مع الغرب ، وكذلك الغرب نفسه له دراساته التخصصية التي يتعامل
على أساساتها بين كل دولة بمنهج خاصّ ، إلا أن ما فجّر هذه الإشكالية
على مستوى عالمي هو المفكّر الأمريكي هنتجتون عندما أطلق نظريته
المعروفة بصدام الحضارات ، لتكون هذه الإشكالية همّاً عالمياً مشتركاً.
يعاود هنتجتون ليطلق مقولة أخرى حول افرازات هذه العلاقة يبيّن فيها
أن الغرب العلماني ـ الذي بنى علمانيته على هدم الدين واعتباره نقيضاً
للحداثة وحائلاً بين الشعوب وبين طموحهم التحديثي ـ يتجه الآن وبعد
مرور العديد من السنين من التقدّم العلمي في الغرب ، ليتجه نحو التديّن
، قال ذلك في معرض حديثه حول المأزق الذي وقعت فيه الدول الأوربية مع
تركيا للإنضمام إلى دائرة الإتحاد الأوربي حيث قال : ( بينما تتقدم
تركيا في اتجاه علماني، يبدو أن أوروبا تتقدم في اتجاه ديني. حتى
الآونة الأخيرة، كانت أوروبا بلا شك المنطقة الأكثر علمانية في العالم.
لكن هذا الواقع بدأ يتغير، والسبب هو هجرة المسلمين الكثيفة إلى أوروبا
والتفاعلات المتزايدة بين البلدان الأوروبية والبلدان الإسلامية
المجاورة) ، جاء ذلك في صحيفة البيان الإماراتية في عدد يوم الأحد
الموافق 17/7/2005م ، بهذه المقولة يقف هنتجتون أمام مخاوفه القديمة من
التعاطي مع هجرة المسلمين إلى الغرب ، محققاً تلك المخاوف ومبيّناً أن
لها أثر على المجتمع الغربي ، وهذا أحد الأسباب التي كان ينزع بها إلى
القول بحتمية الصراع بين الحضارات ، بل أنه وفي مقابلة مع إحدى
المجلاّت العربية قبل ما يقارب الثماني سنوات ، لم يخف توجّسه من هجرة
المسلمين لبلاد الغرب بكل أنواعهم ، سواء كانوا معتدلين أو متشددين ،
نظراً للتأثير الذي من الممكن أن يتركوه على المجتمع الغربي ، ولعل
البعض ينظر لهذه المقولة بنوع من المبالغة أو التلفيق ، خصوصاً أولئك
الذي انبهروا بالبريق الغربي في مجال التقدّم التكنلوجي وخلطوه
بالعلاقة مع الفكر الديني وروح التديّن ، كعامل غير مساعد في عملية
التحديث ، فحاولوا التخلّي عن الدين بصورة أو بأخرى ، وهؤلاء من
الطبيعي أن يتجهون هذا الإتجاه لأنه يقلّص تبريراتهم الواهية حول عوامل
التحديث والتقدّم ، والعلاقة الدينية بذلك.
إن رجوع الغرب إلى الدين لا يشكل غرابة ، لأن هذا الرجوع هو عودة
إلى الفطرة البشرية السويّة كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم : 30] ، ورجوع
إلى سنن متناغمة مع الفطرة ، وهذه الحقيقة هي التي جاءت في الحديث
الشريف عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) : (كل مولود يولد على
الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه) فحركة المجتمع هي التي تخلق الموانع
التي تحدد مسارات النفس ، لتبدوا بعد ذلك في حالة من الضنك و عدم
الراحة وعدم الإطمئنان الروحي فيفقدون غذاء الروح المتمثّل في ذكر الله
كما قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم
بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد
: 28]، وهنا تحديداً يقع المجتمع في مشكلاته النفسية والسلوكية التي
ابتلى بها المجتمع الغربي أكثر من غيره كما تحدده الأرقام في عدد
المنتحرين والمدمنين و الشواذّ والمشكلات الأخلاقية الأخرى.
إذا سلّمنا بهذه الحقيقة التي أبداها هنتجتون ، وتعززها بعض الوقائع
، هل هذا التوجّه نحو الدين وتحديداً الدين الإسلامي ، سيستمر ويتنامى
في المجتمع الغربي ؟ هذا هو السؤال الأهم، لأن المشهد العالمي أصبح
معقّداً بعض الشيء في حركات التديّن والتوجهات الإسلامية وكيفية
تعاطيها مع الغرب ، وكما يبدوا أن عملية تنامي الروح الدينية يلاقي
مشكلتين ، مشكلة في المجتمع الغربي نفسه ، وأخرى في السلوك الإسلامي ،
أمّا ما يختص بالغرب ، فهو وجود المانع الذي يحول دون رؤية الروح
الإسلامية بقيمها العظيمة ، و المانع هو الحجاب الذي خلّفته الحضارة
الغربية التي اتجهت نحو النفعية بدرجات أساسية وركّزت على احتياجات
البدن المادية دون غيرها ، وهذا مما لا شك فيه يصنع حاجزاً كبيراً يحول
بين المجتمع وبين رؤية الحقائق كما هي ، والمشكلة الأخرى الخاصّة
بالمسلمين هي صنع النموذج الذي يتمثّل السلوك التي يدعوا لها الإسلام
والتمسّك بالرؤى الحضارية المنبثقة من مقاصد الدين وتوجيهاته ، فإن
وجود النموذج السيء الذي يناقض الدين يعطي صورة سيئة للمجتمع الغربي عن
الدين فيشكل ذلك نفوراً ، وبهذا يكون البعض متحركاً باتجاه معاد للدين
أساساً عبر صنع نموذج سيئ ، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد ، لأن
الاسلام بطبيعته سيّال ينفذ في القلب لأنه متطابق مع الفطرة التي خلق
الله الناس عليها ، فوجود ذلك النموذج السيئ لهو عامل كبير في تنفير
الناس من الدين ، وهذه الحقيقة جاءت في القرآن الكريم كخطاب للرسول
الأعظم (ص) في دعوته (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران : 159] ، فمن الضرورية إيجاد حالة
التطابق بين الدعوة والداعية ليكون الداعية ترجمان الدعوة ، و ليكون
سلوك الرسالي منسجماً مع الرسالة ، وتأسيساً على ذلك يمكن أن نصنّف
الأعمال التي تنفذها بعض الحركات التي تدّعي الإسلام ، بقتل الناس
صغاراً ، وكباراً ، ونساء ، وأبرياء ، سواء في الغرب أو في البلاد
الإسلامية كالعراق ، هي أعمال مناقضة للدين متقمصة الدين من أجل محاربة
الدين الأصيل أساساً.
لذلك نرى أن التوجه نحو الدين في المجتمع الغربي لم يكن بسبب تلك
الحركات ، وإنما كان من خلال التوجّه نحو الكتاب الإسلامي ومطالعة
القرآن الكريم لمعرفة الإسلام الذي بدءوا يسمعون عنه ، ويشاهدون أعمالاً
تجرى بإسمه ، فمن خلال المطالعات وحركة بعض الجمعيات الإسلامية في
الغرب ، وسلوك بعض المسلمين والتعامل معهم ، هي من أعطت طابعاً أفضل عن
الإسلام ، فلو لم تكن تلك النماذج السيئة لتنامت روح الدين الإسلامي
بقيمه العظيمة بشكل أسرع بكثير مما هي عليه الآن.
www.mosawy.org
|