الحروب الصليبية عمقت المعرفة بين المسلمين والمسيحيين

يرى أكاديمي مغربي أن الحروب الصليبية كانت فرصة لتعميق المعرفة بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي وان ظلت صورة الصليبيين مبهمة رغم بقائهم بالشام نحو 200 عام بسبب اهتمام بعض المؤرخين المسلمين بالجوانب العسكرية لا المجتمعية.

وقال ابراهيم القادري الاستاذ بكلية الاداب والعلوم الانسانية بجامعة المولى اسماعيل بمكناس ان الحروب التي "تمخض عنها استقرار الصليبيين في الديار الشامية وفرت للمسلمين فرصة أكبر لتكوين صورة واضحة" عن الطرف الاخر الذي أتيح له أن يتعرف الى حد ما على المسلمين حيث استمرت بين الطرفين صيغة من التعايش بسبب التجارة.

وأضاف في كتابه (بين أخلاقيات العرب وذهنيات الغرب) أن كتابات المؤرخين المسلمين المعاصرين لتلك الحروب تكمن في "اعادة تصحيح الصورة التي وضعتها الكنيسة ومعها المؤرخون المسيحيون عن المسلمين اذ حاول هؤلاء أن يبينوا باطلا أن المسلمين عاشوا منعزلين عن الافرنج المقيمين في بلاد الشام."

والكتاب الذي أصدرته دار رؤية بالقاهرة يقع في 224 صفحة ويضم فصولا منها (المرأة الاوروبية في المجتمع الصليبي في بلاد الشام كما وردت في الادبيات التاريخية الاسلامية) و(أثر الفتوحات الاموية في الصلات الحضارية بين الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية.. أنصهار اجتماعي وعادات مشتركة) و(العادات والعقليات الشامية من خلال رحلة ابن بطوطة لبلاد الشام في القرن الثامن الهجري).

وقال القادري في الكتاب الذي حمل عنوانا فرعيا هو (دراسات في الانثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية) ان الصورة الذهنية للصليبيين في عقلية المسلمين تلونت أحيانا "بالتعصب الديني وأحيانا بالصراع الحضاري... وان لم تخل هذه العقلية من مساحة حرة حوت نقطا مضيئة جعلت الكتابات الاسلامية أقرب الى الموضوعية."

وأضاف أن تداعيات تلك الحروب أفرزت روحا وصفها بالعدوانية أدت الى أن يصبح المؤرخ المسلم "أكثر توترا ولغته أكثر تشنجا حتى أن معظم المصطلحات التي تتضمنها الادبيات التاريخية الاسلامية المعاصرة للحروب الصليبية تنطق بالحدة والغلظة بل تصل أحيانا الى مستوى الشتم واستنزال اللعنات على الافرنج كوصفهم بالنفوس الخبيثة والشياطين الطواغيت."

وأوضح أن "التشنج في لهجة المؤرخ المسلم لم يكن سوى رد فعل ضد لهجة المؤرخ الصليبي التي لم تكن أقل تشنجا فمعظم المدونات التاريخية النصرانية المعاصرة للحروب الصليبية تنطق بالعداء السافر."

وذكر أن مؤرخي هذه الحقبة نعتوا المسلمين بأنهم من "الجنس الشرير" و"أعداء الله" و"البرابرة الوثنيون" و"أتباع الشياطين" و"الأمم النجسة".

وانطلقت شرارة الحروب الصليبية بعد خطبة للبابا أوربان الثاني (1088 - 1099) في مدينة كليرمونت الفرنسية يوم 27 نوفمبر تشرين الثاني 1095 دعا فيها ملوك ومسيحيي أوروبا الى القيام بحملة عسكرية لانقاذ بيت المقدس من أيدي المسلمين الذين قال انهم "امبراطورية الشيطان" وبدأت الحملة الصليبية الاولى في العام التالي.

وقال القادري انه رغم نبرة العداء والتحامل في كتابات كل طرف عن الاخر فان "حبل الصداقة والتعايش بين الصليبيين والمسلمين لم ينقطع بالمرة. لعبت التجارة دورا أساسيا في هذا الاتجاه. المراكب التجارية القادمة من أوروبا استمرت في الوفود على الموانيء الاسلامية رغم تأجج نار الحروب."

وأشار الى دهشة الرحالة العربي الشهير ابن جبير الذي زار مصر في عصر صلاح الدين الايوبي (1138 - 1193) حيث كان "أكثر ما أثار اندهاشه وجود حركة تجارية دائبة رغم المعارك المستعرة بين المسلمين والصليبيين. الاختلاط بين المسلمين والافرنج وتقاسم شؤون الحياة اليومية والتزاوج الذي حدث بين الجانبين رغم العداوة السياسية كل ذلك زاد من توطيد العلاقات بينهما."

وقال ان بعض المؤرخين المسلمين أشادوا بالنظام القضائي لدى الصليبيين حتى وصفهم ابن منقذ بأنهم "أصحاب الرأي وأصحاب القضاء والحكم".

وأشار الى أن اعجاب المؤرخين المسلمين بذكاء الصليبيين كان أشد في المجال العسكري اذ "نجد تنويها بشجاعتهم واعجابا بخططهم العسكرية. النصوص العربية كلها تجمع على احدى القيم التي بصمت المجتمع الاوروبي الوسيط وهي الفروسية والشجاعة."

وأضاف أن هؤلاء المؤرخين انتبهوا الى الحرية التي تنعم بها المرأة الاوروبية خاصة في مجال الحرية الجنسية مشيرا الى رواية "طريفة أوردها أسامة بن منقذ فقد ذكر أن رجلا افرنجيا وجد شخصا نائما مع زوجته فلم يكن رد فعله أكثر من تحذير الرجل الغريب من دخول بيته مرة ثانية."

ولكن المؤلف نوه الى أن هذه الروايات الخاصة بالحياة الجنسية وجسد المرأة الاوروبية التي لا تجد حرجا من تعريته في الحمام العمومي على سبيل المثال "لم تسلم من أغلال الاسفاف والشطط. واذا سلمنا بصحتها فانها استثناء" يشير الى وجود اختلاط وتعايش اجتماعي بين المسلمين والصليبيين.

وقال ان المؤرخين المسلمين سجلوا في مقابل ذلك المكانة البارزة التي بلغتها بعض النساء داخل المجتمع الصليبي بالشام كما سلطوا أضواء على "الادوار العسكرية الرائعة التي لعبتها."

وأشار محمود اسماعيل أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس المصرية في مقدمة الكتاب الى أنه "نقلة هامة في الكتابة عن تاريخ الشرق الاسلامي اذ يطرق حقلا بكرا لم يحظ من قبل باهتمامات الدارسين ألا وهو حقل الذهنيات."

وأضاف أن المؤلف يقدم درسا "موضوعيا وهاما بخصوص حوار الحضارات كبديل لاطروحة الغرب عن صدام الحضارات."

وللقادري كتب منها (مجتمع الصليبيين في بلاد الشام) و(أثر الاقطاع في تاريخ الاندلس السياسي) و(مباحث في التاريخ الاجتماعي للمغرب والاندلس خلال عصر المرابطين) و(التواصل الحضاري بين عمان وبلاد المغرب.. دراسات في مجالات الثقافة والتجارة والمجتمع منذ الفتح الاسلامي لافريقيا حتى القرن الثامن الهجري).

شبكة النبأ المعلوماتية - الاحد 17/ تموز/2005 - 9/ جمادى الأولى/1426