في حوار صحفي صريح وشفاف مع نـزار حيدر: مكافأة الإرهابيين إرهاب.. الحوار مع المسلحين هو مشورة سيئة ألح بها البريطانيون على الاميركيين.. 

أثارت الأنباء التي تحدثت عن حوار بعض الدوائر الاستخباراتية الاميركية مع الجماعات المسلحة في العراق، غضب ضحايا الاستبداد والعنف والإرهاب.

فبين من اعتبر ذلك، مؤشرا على تغيير الإدارة الاميركية لاستراتيجيتها في العراق، فسر البعض الآخر ذلك، بأنه مجرد محاولات اميركية للخروج من المأزق الذي تمر به في العراق، بسبب تصاعد موجة العنف والإرهاب.

الأستاذ عدنان شيرخان، الصحفي العراقي المعروف في صحيفة (الصباح) البغدادية، حاور نزار حيدر، مدير مركز الإعلام العراقي في واشنطن، ليستقرئ حقيقة هذه الأنباء، والهوية الحقيقية للعنف والإرهاب، الذي بدأ يصعد من جرائمه، بعناوين طائفية واضحة.

السؤال الأول: هل ترون أن الإدارة الاميركية بصدد مراجعة سياساتها في العراق؟ لتصب باتجاه إجراء مفاوضات مع الجماعات المسلحة، لمقاضاة إشراكهم في العملية السياسية ؟ مقابل كفهم عن القيام بجرائمهم اللاانسانية؟.

الجواب: دعني أولا أن أوضح ما يلي:  

   ما تحدثت عنه الأنباء، وأكدته تصريحات عدد من المسؤولين الاميركيين والبريطانيين، بشأن الحوار بين عناصر من الأجهزة الاستخباراتية في البلدين المذكورين، وممثلين عن الجماعات المسلحة في العراق، ليس بالأمر الجديد، وإنما كانت قد تكررت مثل هذه المحاولات بمبادرات من عناصر (عراقية) عادة ما تكون من أيتام النظام الشمولي البائد، والمعروف عنها قربها من دوائر أجهزة الاستخبارات الاميركية على وجه التحديد، ادعت في كل مرة أنها قريبة من المسلحين، وأنها قادرة على إقناعهم بتغيير وسائلهم، لنبذ العنف والانخراط في العملية السياسية الجديدة في العراق، وبالتالي فإنها قادرة على التأثير على موجة العنف والإرهاب التي تجتاح العراق، مقابل القبول ببعض شروط المفاوضين، ومقايضتهم بدور في السلطة مقابل وقف الهجمات المسلحة ضد القوات متعددة الجنسيات على وجه التحديد ــ وليس ضد العراقيين ــ.

   ولكن، في كل مرة تبوء محاولاتهم بالفشل، بعد أن يتبين أنهم مجرد تجار وسماسرة يسعون للحصول على المال، أو السلطة، عن طريق مثل هذه الوساطات غير الشريفة.

   أو أن من يتم التفاوض معهم، ليسوا أكثر من مسلحين هامشيين، بالنسبة إلى الجماعات الإرهابية التكفيرية الوافدة إلى العراق، والمتحالفة مع التكفيريين وأيتام النظام البائد في داخل العراق، وعندها يكتشف المفاوضون، بأن هذه المجموعة أو تلك لا يمكنها أن تغير في معادلة الإرهاب شيئا، فيتركونهم وشأنهم، لأن التفاوض مع أمثالهم، مجرد مضيعة للوقت.

   الجديد في ملف المفاوضات هذه المرة، شيئين:

   الأول، هو الضغوط التي تتعرض لها إدارة الرئيس بوش من قبل خصومه الديمقراطيين، والذين يلحون عليه من أجل جدولة الانسحاب الاميركي من العراق، وادعاءهم بأن الإدارة هي التي لا تريد أن تعترف بحقيقة أن المسلحين في العراق يريدون تغيير وسائلهم، إلا أن الإدارة تدير ظهرها لهم، وترفض أن تمنحهم الفرصة لذلك، ما يضطرهم للاستمرار في عملياتهم المسلحة.

   وفي محاولة من قبل الإدارة لتفنيد هذه المزاعم، أوعزت إلى بعض الموظفين في عدد من الأجهزة الاستخباراتية، للحديث إلى من يزعم أنه يمثل بعض الجماعات المسلحة في العراق، ليتأكد الرأي العام الاميركي، من أن المسلحين، وليس الإدارة الاميركية، لا يريدون الانخراط في العملية السياسية الجديدة بالمطلق، وإنما ينحصر هدف هؤلاء في أمر واحد فقط، ألا وهو العودة إلى السلطة وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، وبأي ثمن كان، وتعطيل عملية بناء العراق الديمقراطي الجديد.

   هذا من جانب، ومن جانب آخر، ففي كل مرة تفتح فيه الإدارة الاميركية حوارا من هذا النوع مع عناصر من المجموعات المسلحة في العراق، وتحديدا منذ نيسان العام الماضي ولحد الآن، يتبين للمفاوضين الاميركان، أنهم ليسوا سوى عصابات من اللصوص والقتلة، لا يؤثرون على مجرى العنف والإرهاب الذي لا زال يقتل بالأبرياء من العراقيين، ولذلك تنتهي المفاوضات في كل مرة إلى نهاية بائسة، ويبقى العنف يضرب في العراق.

   الثاني، هو الوعود التي نقلها عدد من الزعماء العرب إلى الإدارة الاميركية (وعلى رأسهم ملك الأردن المعروف بحقده على العراق والعراقيين، والذي يخشى رؤية عراق جديد) بشأن مزاعم تحدثت عن قدرتهم على لجم العنف في العراق إذا ما أصغت الإدارة إلى رأيهم القاضي فبضرورة التحاور مع المسلحين.

   إذ بين الفينة والأخرى، يتعهد زعيم عربي بلجم جماح مجموعة ارهابية، كلما تعرض للضغوط الاميركية، في محاولة منه لتنفسيها بعهود ووعود من هذا النوع.

   وفي محاولة من قبل الإدارة للكشف عن مدى دقة ما تتحدث عنه هذه الزعامات، بادرت إلى الإصغاء إلى استشاراتها، ليتبين لها فيما بعد، بأن كل ما نقلته هذه الزعامات إليها، لم يكن أكثر من خيال ليس له أي أساس على ارض الواقع، الهدف منه عرقلة تقدم العملية السياسية الجديدة، والعمل على إصابة العراقيين باليأس والإحباط، خاصة ضحايا النظام الشمولي البائد، الأكثر حساسية إزاء مثل هذه المعلومات.

   إنهم يقدمون للمفاوضات، مجموعات صغيرة وهمية، أو محدودة التأثير، للتستر على المجموعات الأساسية، ولإشغال المفاوض، لحين تلتقط تلك المجموعات الكبيرة أنفاسها، ولذلك يتزامن تسريب أنباء المفاوضات، عادة، مع كل خطة أمنية تبدأ الحكومة العراقية بتنفيذها ضد الإرهابيين.

   كما أشارت بعض المعلومات إلى أن الإدارة الاميركية سعت إلى تفريق صف الإرهابيين من خلال هذا النوع من المفاوضات، كما أنها تسعى بها إلى فضح نواياهم، والكشف عن حقيقة ما يضمرونه، كما تسعى للكشف عن ارتباطاتهم خارج الحدود، ودور دول الجوار، وعدد من الأنظمة العربية كاليمن، مثلا، في دعم وتدريب هذه العناصر الإرهابية، وعلاقة المجموعات المسلحة، بعضها مع البعض الآخر، لذلك نلحظ بأن طابعها امني وليس سياسيا.

   الثالث، هو المشورة السيئة التي ألح بها البريطانيون على الاميركيين، من أجل فتح قنوات الحوار مع المسلحين، وتشبيه الأمر بتجربتهم مع الجيش الجمهوري الايرلندي، الذي ظل يقاتل البريطانيين من أجل تحقيق أهدافه السياسية، إذ ما كان للبريطانيين أن ينهوا العنف المسلح في بلادهم، لولا أنهم قرروا أخيرا التفاوض مع الايرلنديين لتسوية الأزمة.

   هذه الرؤية تحدث عنها البريطانيون إلى عدد من الزعامات السياسية في بغداد، في الاجتماعات التي عقدها السفير البريطاني هناك، في محاولة منه لإقناع ضحايا النظام البائد، بأهمية وضرورة مثل هذا الحوار لإنهاء أزمة العنف والإرهاب في العراق، للتفرغ للعملية السياسية الجديدة وإعادة بناء العراق.

   وليس سردي لكل هذه المعلومات، من أجل أن أبرر أو أهون من خطورة مثل هذه المفاوضات، أبدا، إذ أنني أعتقد بأن مجرد الحديث عن مثل ذلك من قبل الإدارة الاميركية، يعد تناقضا صارخا مع الموقف المعلن لها، والذي يؤكد على تحريم أي نوع من التفاوض مع المسلحين في العراق.

   كما انه يضر بمصداقية الولايات المتحدة الاميركية، ويعرض نواياها للسؤال والتشكيك، ولا يخدم مشروعها الرامي إلى نشر الإصلاح والديمقراطية في العالم العربي.

   كما أن تسريب مثل هذه المعلومات، يشجع الإرهابيين على مواصلة جرائمهم ضد العراق والعراقيين، لأنهم، عادة، يفسرون أية مفاوضات معهم، هو نوع من الانتصار الذي يحققونه على الأرض، والذي يضطر الاميركيين، إلى الانصياع والاعتراف به، ما يجبرهم على فتح قنوات الحوار، ما يشجعهم على تبني سياسة الأمر الواقع للضغط على الاميركيين، وقبل ذلك على العراقيين أنفسهم، ضحايا العنف والإرهاب، وهذا ما يضر بالعملية السياسية الجديدة، جملة وتفصيلا.

   كما أعتقد بأن أي حوار من هذا القبيل، والذي سيتضمن، حتما، مقايضات ومكافآت من أنواع شتى، هو خيانة كبيرة وجريمة كبرى لا ينبغي لا للاميركان ولا لغيرهم أن يتورطوا بها، خاصة وأنهم يرفعون شعار الإصلاح ونشر الديمقراطية، في العراق ومن خلاله في العالم العربي، فهل يعقل تحقيق مثل هذا الإنجاز التاريخي الكبير من خلال مكافأة الإرهابيين؟ أو حتى من خلال مقايضة جرائمهم بالمشاركة في السلطة ؟ في الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني ، بأن من يحقق إنجازا سياسيا بالإرهاب ، لا يمكن أن يكون من المؤمنين بالديمقراطية والشراكة مع الآخر، أبدا .

   وفي معرض الحديث عن هذا الملف، الذي حاول الإعلام العربي الطائفي النفخ فيه لتشوية صورة الحقيقة التي يشهدها العراق، وكأن العملية السياسية تمر بأزمة، لا يمكن حلها إلا بالحوار مع الإرهابيين، لإقناعهم بالانخراط بها، أو كأنهم هم العصاميين عن التعامل مع (الاحتلال) وان الآخرين يتوسلونهم الحوار بأي ثمن كان، أو كأن الإرهابيين بدأوا يحققون أهدافهم السياسية من خلال الإرهاب، أود أن أشير إلى النقاط التالية:

   أولا، لقد سعت بعض العناصر العراقية من أيتام النظام البائد، ممن يعرفون أنفسهم بمصطلح (السنة العرب) والمعروفة بعلاقاتها القريبة من أجهزة المخابرات الاميركية، وكذلك من بعض أجهزة المخابرات الأجنبية والعربية، إلى التلاعب بالألفاظ، وتسمية الطرف العراقي المفاوض، بأنه يمثل المقاومة العراقية الشريفة التي قال بأنها تختلف عن الإرهابيين.

   كان بود العراقيين أن توضح هذه العناصر قصدها من هذه التسمية، فتذكر للرأي العام العراقي، مثلا، نماذج من العمليات المسلحة التي نفذتها هذه المجموعات، ليتأكد العراقيون، على وجه الدقة، من هويتها، وليتيقنوا فيما إذا كانت بالفعل أنها مقاومة شريفة، أم أنها كبقية زميلاتها، مقاومة غير شريفة، ملطخة أياديها بدماء العراقيين الأبرياء، لأن الشعب العراقي، في الحقيقة، لم ير خلال السنتين الماضيتين ولحد الآن، إلا إرهابيين أباحوا دمه وماله وعرضه، وخاضوا بدماء الأبرياء بكل وسيلة ممكنة.

   ثانيا: منذ بداية سقوط الصنم في التاسع من نيسان 2003 ولحد الآن، لم تغلق القوى والأحزاب السياسية العراقية التي تصدرت المشهد السياسي في عراق ما بعد الطاغية الذليل، باب الحوار بوجه أي من العراقيين، بل أن الحوار السياسي كان، ولا يزال، هو مطلب عراقي بحت، قبل أن يكون مطلبا اميركيا أو أوربيا أو حتى عربيا، كما يحاول الإعلام العربي الطائفي الحاقد تصويره، إلا أن كل العراقيين، وعلى رأسهم ضحايا النظام الشمولي البائد، وضعوا ثلاثة شروط أمام من يريد الحوار والمشاركة والالتحاق بالعملية السياسية الجديدة، وهي؛

   ألف: أن لا يكون متورطا بدم عراقي، وأضع هنا خطا أحمر تحت العبارة (دم عراقي)، لأن المقاوم الشريف لا يتورط بدم شعبه، مهما كانت الظروف، أما أن يعلن، وبكل وقاحة، بأن كل المواطنين هدفا مشروعا لعملياته المسلحة، ثم يسعى لترجمة بلاغه هذا إلى فعل إرهابي، يستهدف قتل أكبر عدد من الأبرياء، بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ، فهذا ليس من المقاومة بشئ أبدا، انه الإرهاب بعينه.

   ولذلك، فلقد التحقت شخصيات وقوى كثيرة في العملية السياسية، من خلال الحوار البناء، بعد أن تأكد للعراقيين عدم تورطهم بدم عراقي، كان اخرها مجموعة الممثلين للعرب السنة في لجنة صياغة الدستور والتي باشرت مهامها في اللجان الفرعية، بعد أن تأكد للجنة اجتثاث البعث أنهم عناصر نظيفة لا يرتبطون بالنظام البائد بأية صلة، كما أنهم لا يرتبطون بمجموعات العنف والإرهاب بصلة.

   كما شمل ذلك العديد من القوى والشخصيات العراقية بغض النظر عن انتماءاتها الاثنية أو المذهبية أو حتى السياسية، المهم أنها لم تكن متورطة بدم عراقي، ولذلك نرى اليوم أن الحكومة العراقية الانتقالية تضم في صفوفها مختلف الشخصيات التي تمثل كل الطيف الاجتماعي العراقي.

   حتى الأخوة السنة العرب التي تستنجد الأنظمة العربية الطائفية، ومن ورائها بعض دول أوربا وأحيانا الأمم المتحدة، لإنقاذهم مما تسميه، كذبا وزورا، بمحاولات التهميش والإقصاء، التي تدعي أنهم يتعرضون لها على يد ضحايا النظام البائد، قد شاركوا في هذه الحكومة، ليس من خلال العنف والقتل والإرهاب، وإنما عن طريق الحوار، لأن العراقيين يرفضون توظيف الدم العراقي البرئ، لتحقيق مواطئ قدم لأية جهة كانت في العملية السياسية الجديدة، فالابتزاز مرفوض في العراق الجديد، جملة وتفصيلا.

   باء: أن تكون المجموعات التي تريد الالتحاق بالعملية السياسية والاشتراك فيها من خلال الحوار، واضحة القيادة والأهداف، إذ لا يمكن الحوار مع جماعات مجهولة القيادة، أو غامضة الأهداف، أو مع عناصر ملثمة لا يمكن التعرف عليها، ورؤية أشباحها إلا عندما تظهر على الشاشة الصغيرة، لتتلو على العراقيين بيان إدانة جديد، وهي تمسك بضحيتها التي ستعمد إلى ذبحها من الوريد إلى الوريد، فور الانتهاء من قراءة البيان، ليتبين، بعد ذلك، أنها قبضت مبلغ (100) دولار أو (200)، مقابل ذبح الضحية، التي تواجه الموت تحت عنوان (المقاومة).

   كما لا يمكن الحوار مع أطراف بوجهين، تبدي شيئا وتضمر شيئا آخر، فتبدي استعدادها للحوار، وتضمر علاقاتها المشبوهة مع الإرهابيين، كما هو شأن بعض الجهات المتسترة بالدين، كالهيئة المسماة بـ (علماء المسلمين) التي ذاق العراقيون من نفاقها ذرعا، بعد أن تأكد لهم نفاقها، لدرجة الخطورة على وحدة العراق وشعبه.

   جيم: أن يعلن صراحة موقفه من البناء الديمقراطي الجديد في العراق، إذ لا يمكن أن يشترك في العملية السياسية الجديدة، والتي تقوم في الأساس على مبدأ الشراكة الحقيقية بين كل مكونات المجتمع العراقي من دون استثناء أحد، من تشبعت عقليته بسياسة إقصاء الآخر، وحرمانه من حق الحياة الذي وهبه له رب العزة والجلال، وحبه للتسلط على الآخرين، ومن يصنف العراقيين إلى مواطنين من الدرجة الأولى، وآخرين من الدرجة الثانية، أو الثالثة.

   وأقولها بكل صراحة ووضوح، وليسمح لي العراقيون أن أتحدث باسمهم هذه المرة فقط، وادع كل من يجد في نفسه، هذه الشروط، ويعتقد أنه قادر على الالتزام بها، فليتصل بأقرب مواطن عراقي من ضحايا النظام الشمولي البائد، ويعرف نفسه له، ليعرفه بدوره على من بامكانه أن يحول النية إلى حوار، والحوار إلى فعل ايجابي صالح، وعندها سنغلق الباب أمام المسلحين والقوى الخارجية التي تتحدث باسم (السنة العرب)على وجه التحديد، أو تلك التي تتباكى على هذه الشريحة دون غيرها، لحاجة في نفس يعقوب.

   هذا، فيما يخص المسلحين العراقيين، أما الأجانب، فليس أمامهم من خيار سوى الرحيل عن ارض العراق الطاهرة، والعودة إلى بلدانهم، وليعلنوا الجهاد ضد (الكفار) من هناك، وليفتحوا أبواب (الجنة) الموعودة لأنفسهم من هناك، وليس من بغداد.

   أما الذين يشبهون مثل هذه المفاوضات، بتلك التي أجراها البريطانيون مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، فإنهم مخطئون إلى درجة كبيرة.

   فالفارق بين الحالتين واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار، إلا لمن يريد أن يغالط نفسه ويضحك عليها، قبل أن يسعى للضحك على ذقون الآخرين.

   فالفارق يكمن في: 

   أولا، هوية المفاوضين، ففي الحالة الايرلندية، تفاوض البريطانيون مع المسلحين وليس الفرنسيون مثلا أو الهنود، بدلا عنهم، أما في الحالة العراقية، فان من يتفاوض مع المسلحين ليس العراقيون، وإنما الاميركيين والبريطانيين، الأمر الذي يطعن السيادة العراقية في الصميم، ويثير الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام، إذ لو أن هناك أية مصلحة للعراق من خلال مثل هذه المفاوضات، فلماذا لا تمنح الفرصة للعراقيين للمبادرة إليها، وهم الأحرص من الآخرين على تحقيق أية مصلحة لهم ولبلدهم ؟ إلا إذا يريد الاميركيون والبريطانيون تحويل مثل هذه المفاوضات إلى سيف بيدهم مسلط على رقاب العراقيين، يلوحون به كلما ارتأت الضرورة، أو مصالحهم.

   ثانيا، لم يكفر الايرلنديون بالعملية السياسية، وإنما حاولوا توظيف الكفاح المسلح لتحقيق أهداف سياسية مشروعة وواضحة، والدليل على ذلك، أن جيشهم السري كان يمتلك جناحا سياسيا مشاركا في السلطة، قيادته علنية وأهدافه السياسية واضحة، كأية قوة مسلحة في هذا العالم، تسعى لتحقيق أهداف سياسية مشروعة، أما المسلحون في العراق، فكل شئ فيهم مجهول، باستثناء هدفهم الوحيد المنحصر في إرعاب العراقيين، من خلال قتل أكبر عدد منهم، لتعطيل العملية السياسية الجديدة.

   ثالثا، في الحالة الايرلندية، من كان يقاتل البريطانيين، هم أبناء الشعب الايرلندي، وليس الباكستانيين أو المصريين أو غيرهم، أما في الحالة العراقية، فان من يمارس العنف والإرهاب هم المسلحون الذين تجمعوا في العراق من كل حدب وصوب، تكالبوا على هذا البلد وأهله، من أجل إفشال تجربتهم في بناء نظام ديمقراطي جديد.

   رابعا، لم يكفر المقاتلون الايرلنديون، الايرلنديين الذين تعاونوا مع البريطانيين، أو من خالفهم في العقيدة والمذهب، كما أنهم لم يبيحوا دماء شعبهم على الهوية والانتماء، ولذلك لم يتورطوا بدم ايرلندي، أما عندنا في العراق، فان المسلحين تورطوا بالدم العراقي، أكثر من تورطهم بدماء (الأجنبي الكافر) على حد زعمهم.

   خامسا، لقد شجعت المفاوضات المسلحين الايرلنديين، على نبذ العنف والانخراط في العملية السياسية، أما في الحالة العراقية، فعلى العكس تماما، فان أي مفاوضات من هذا القبيل، ليس فقط لا تشجع الإرهابيين على نبذ العنف والانخراط في العملية السياسية الجديدة، وإنما ستحثهم على مواصلة جرائمهم أكثر فأكثر، بعد أن يتذوقوا طعم الانتصار المزعوم بالسلاح على السياسة، وان أكبر دليل على ذلك، هو تزامن التصعيد الإرهابي، كلما تسربت معلومات التفاوض إلى وسائل الإعلام.

   كما أن ذلك سيدفع بالسلميين من العراقيين الذين لا زالوا يشعرون بالغبن، وكونهم مهمشين في العملية السياسية الجديدة، لسبب أو لآخر، وسيحفزهم على حمل السلاح والانخراط في صفوف (المقاومة الشريفة).

   وغير ذلك الكثير من الفروق الجوهرية بين الحالتين، ولذلك فان محاولات التشبيه بين الحالتين من قبل من تورط بمثل هذه المفاوضات، ستبوء بالفشل.    

السؤال الثاني: أين يكمن المأزق الحقيقي في العراق ؟ وهل تعتقدون بأن للولايات المتحدة أخطاء كبيرة في العراق ؟

الجواب: ينقل عن الزعيم البريطاني المعروف إبان الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل،  قوله (يكفي بريطانيا أعداءا، أن صديقتها فرنسا)، في إشارة منه إلى مدى غباء الفرنسيين في التعامل مع أصدقائهم، وأنا أقول، بأنه (يكفي الديمقراطية أعداءا، أن صديقتها الولايات المتحدة الاميركية).

   لقد ارتكبت الولايات المتحدة من الأخطاء الكبير جدا في العراق، ما جعل من ثمن بناء الديمقراطية في هذا البلد، باهضا جدا.

   شخصيا، أعتقد بأن من اكبر هذه الأخطاء، هو أن الولايات المتحدة، تصغي إلى نصائح واستشارات أعداء العراق، أكثر مما تصغي إلى أصدقائها، وهم حاليا، في حالة العراق، الشعب العراقي فقط.

   ففي بلد كالعراق، تقول الولايات المتحدة أنها ذهبت للحرب هناك لإسقاط الديكتاتورية والنظام الشمولي، ومساعدة شعبه على بناء الديمقراطية، كيف تسمح لنفسها أن تستشير من لا يريد بالعراق خيرا، وهم، مجموعات الضغط الصهيونية التي لا تضع نصب عينيها سوى مصالح (إسرائيل) في المنطقة، والنظام العربي السني الطائفي الذي ارتعدت فرائصه منذ سقوط الصنم في بغداد، وبروز الشيعة والكرد كقوتين أساسيتين في العراق الجديد ؟ .

   بالنسبة للجهة الأولى، فمن الواضح جدا، فان إسرائيل لا زالت تتخوف من قيام عراق ديمقراطي قوي، أما الجهة الثانية، فمن الواضح كذلك، أن الأنظمة العربية لا يروق لها أن ترى عراقا للشيعة، كما للسنة، دور أساسي فيه، وللكرد كذلك، كما للعرب، دور محوري فيه، وللأقليات كما للأكثرية دور متساو فيه، ولذلك عمدت هذه الأنظمة، ومنذ سقوط الصنم، إلى نسج مخاوف وهمية إزاء تنامي الدور الشيعي في العراق الجديد، وان كان ذلك كنتيجة طبيعية لما تفرزه صناديق الاقتراع، في انتخابات عامة، حرة ونزيهة.

   أعتقد، لو أن الولايات المتحدة الاميركية، أرادت أن تعيد القوة إلى مصداقيتها التي فقدت الكثير الكثير منها، بسبب الأخطاء الفضيعة التي ارتكبتها في تجربة بناء الديمقراطية في العراق، عليها أولا أن تصم أسماعها بوجه اللوبي الصهيوني والأنظمة العربية، وأن تعطي ظهرها لمثل هؤلاء المستشارين السيئين،  وعليها أن لا تسمع إلى استشاراتهم السيئة جدا، لأنها، وبصراحة، تورطها مع الشعوب أكثر مما تخدمها، وان جهود واشنطن في حث العالم العربي على الإصلاح وبناء الديمقراطية، باتت على كف عفريت، ستنهار كليا إذا لم تستعجل إعادة النظر في مصادر معلوماتها واستشاراتها، وعليها أن تتأكد بأن هتين الجهتين، سوف لن تقدما لها أية استشارة حسنة تخص الملف العراقي، وعليها، إذا ما أرادت أن تنجح في التجربة، أن تصغ إلى العراقيين فحسب، فأهل مكة، كما يقول المثل المعروف، أدرى بشعابها.

   هذا الخطأ الكبير، هو الذي ولد مجموعة الأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، إذ اعتقد بان المشورة السيئة، مثلا، هي التي نصحت واشنطن بحل الجيش العراقي، وهي التي دفعتها لتبني نظرية (تجميع الجراثيم)، أي إفساح المجال للعناصر الإرهابية التي كانت قد تورطت بها عدد من البلاد العربية، اثر عودة ما يطلق عليهم اسم (الأفغان العرب) من أفغانستان بعد رحيل الاحتلال الروسي عنها، وعودتهم إلى بلدانهم، ليتحولوا إلى عناصر إرهابية تكفر المجتمع، والتي كانت السلطات العربية في العديد من البلاد العربية، وبالتعاون مع أجهزة مخابرات دولية وإقليمية معروفة، قد ساعدت على صناعتهم ودعمهم بكل أسباب التكوين والاستمرار وكسب القوة، إفساح المجال لهذه العناصر للتجمع في العراق، من أجل نقل المعركة مع الإرهاب من العالم، وعلى وجه التحديد، من الولايات المتحدة والعواصم العربية والإسلامية الصديقة لها، إلى داخل العراق، لحين إيجاد المخرج والنهاية لهذه الحرب.

   كما أن استشارات هذه الأطراف، هي التي أقنعت الإدارة الاميركية، بالمخاوف الوهمية التي نسجتها حول القوة الشيعية المتنامية، والتي أقنعت الإدارة بخطورة تسليم السيادة وملفات الأمن والمال والنفط، إلى الحكومات العراقية التي تعاقبت على السلطة خلال المرحلة الانتقالية الممتدة منذ سقوط الصنم، ولحد الآن، الأمر الذي أدخل العراق بدوامة العنف والإرهاب، بسبب جهل الاميركيين بطريقة التعامل المثلى مع مثل هذا الملف المعقد.

   ويأتي الكشف عن أنباء المفاوضات التي أجرتها عناصر من أجهزة الاستخبارات الاميركية، مع عدد من المسلحين، كآخر الأخطاء الاميركية في العراق، بسبب هذا النوع من الاستشارات السيئة، من دون أن نلحظ في الأفق نهاية قريبة لها.

السؤال الثالث: ما هو تقييمكم للعملية السياسية في العراق، بعد إجراء الانتخابات وتشكيل الجمعية الوطنية وحكومة الدكتور الجعفري ؟ وهل أنتم راضون عن أداء الأحزاب والقوى السياسية العراقية ؟ .

الجواب: إذا أخذنا بنظر الاعتبار حجم التحديات التي تواجه العراقيين اليوم، أعتقد بان العملية السياسية، بمجملها، تسير في الاتجاه الصحيح، وإنها لا زالت تتقدم إلى الأمام، خاصة في ظل الإصرار العراقي على طي مراحلها المرسومة، في مواعيدها المحددة، بالرغم من كل العوائق.

   لقد كانت الانتخابات العامة، أروع صورة للشجاعة والتضحية والعزيمة والإصرار العراقي، على مواجهة التحديات من أجل بناء عراق جديد، في ظل الحرية والكرامة والمساواة وتكافؤ الفرص.

   كما أن العملية الدستورية المرتقبة، ستكون بإذن الله تعالى، الصورة المثالية التالية التي سيرسمها العراقيون بإصرارهم وعزيمتهم وهممهم العالية، وصدق رسول الله (ص) حين قال (يطير المرء بهمته، كما يطير الطائر بجناحيه) فلا زال العراقيون يمتلكون ناصية هممهم العالية، فان العراق بخير، مهما تكالب عليه الأعداء، الذين مهما تجبروا، فلن يكونوا أسوء من نظام الطاغية الذليل الذي ولى عهده الأسود بإرادة العراقيين وتضحياتهم، بالرغم من كل ما بذله من أجل تركيعهم وإذلالهم، إلا أن إرادة الشعب ظلت هي الأقوى دائما بحمد الله تعالى.

   ومن باب (صديقك من صدقك ــ بفتح الدال ــ لا من صدقك ــ بتشديد الدال ــ) أود أن أشير إلى الملاحظات التالية على الأداء السياسي للقوى والأحزاب التي تتصدر اليوم المشهد السياسي العراقي، سواء، تلك التي في السلطة، أو التي في خارجها:

    فمن جانب، تحتاج هذه القوى إلى أن تكون أكثر شدة في تعاملها مع الولايات المتحدة على وجه التحديد، وبصراحة أقول، فان الاميركان لا يحبون التعامل مع العملاء، بقدر حبهم للتعامل مع الأصدقاء اللدودين (الأقوياء) وان المجاملة أو إبداء الضعف في التعامل معهم لا يعطي نتيجة تذكر، ولذلك يلزم التعامل معهم بندية وليس باسترخاء، فان ذلك يخدم العراق أكثر، كما انه يخدم المشروع الديمقراطي الاميركي، في نفس الوقت.

   كما يلزم هذه القوى أن تتعامل بديمقراطية أكثر مع العراقيين، وعليها أن تنبذ السياسات اللامسؤولة التي ابتليت بها والتي ورثتها من النظام البائد في إطار ما يعرف بنظرية الإسقاط التي تعني ابتلاء أو تأثر الضحية بأخلاقيات الجلاد.

   عليها كذلك، أن تكون أكثر شفافية، فتتحدث عن المشاكل بصراحة أكبر، وأن لا تبرر للأخطاء، ولا تسعى للتغطية على الأمراض التي تعاني منها الدولة، وأن تشير إلى الخلل وأسبابه والمسؤول عنه بلا مواربة، حتى يساهم الجميع في بناء عراق جديد بكل معنى الكلمة.

   كما أن عليها أن تخفف من حدة الحزبية المقيتة في مفهومها السلبي السيئ الذي يتبنى القول المعروف (شرار قومي، أفضل من خيار قوم آخرين) لتبادر إلى وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وعليها أن تضع سياسة الانتقام وتصفية الحسابات جانبا، لتنفتح على عراقيي الداخل أكثر فأكثر، وأن لا تنظر إليهم، بفوقية وبعين جانبية، وعليهم جميعا أن يتذكروا بأن صمود العراقيين في الداخل هو الذي أوصلهم إلى ما هم عليه الآن.

   من المهم جدا على الجميع، أن ينفتح على الطاقات الخلاقة، ليكسبها إلى صفوفه أو إلى جانب العملية السياسية الجديدة، والى جانب الجهود المبذولة الرامية إلى إعادة بناء العراق الذي خربته الدكتاتورية.

   يجب أن يكون هم الجميع كيف يخدم لا كيف يحكم، فالخدمة المستمرة، سبب لاستمرار المسؤول في سلطته، أما استمراره في السلطة، فلا يعني بالضرورة، إصراره على الخدمة.

شبكة النبأ المعلوماتية - السبت 16/ تموز/2005 - 8/ جمادى الأولى/1426