فجوة الحداثة العربية في السياسة والفكر

يرى باحث مصري أنه رغم مرور نحو قرنين على أول اتصال ثقافي بين العالم العربي والغرب في العصر الحديث فان الحداثة العربية في السياسة والفكر لاتزال تحتذي النموذج الغربي حتى أن كثيرا من نماذج الابداع العربي تقع في حالة من الارتباك وتفقد خصوصيتها.

وقال الشاعر محمود نسيم في كتابه (فجوة الحداثة العربية) ان البواكير الثقافية الاولى للحداثة ظهرت في مطلع القرن التاسع عشر "اثر أول بعثة دراسية أوفدها محمد علي (الذي حكم مصر بين عامي 1805 و1848) الى باريس ومن يومها الى الان ما برح الغرب حاضرا بشكل أو باخر في أغلب الكتابات العربية."

وأضاف أن العلاقة بين الذات القومية العربية والاخر الغربي شكلت الملامح الاساسية في حركة الحداثة العربية كما أدت الى بعض الالتباسات منها ازدواجية الثقافة والسياسة "ضمن مفهوم الغرب. أي في كون هذا المفهوم منطويا على عنصرين لا ينفصلان عنه يسير كل منهما بطبيعته في اتجاه مضاد للاخر."

ودلل على ذلك بأن الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801) كان لها شقان ثقافي وعسكري حيث كان العلماء الذين وضعوا كتاب (وصف مصر) جزءا لا يتجزأ من الحملة العسكرية "وجاءت الحملتان سويا لكي تقدما رمزا صارخا ومبكرا للالتباس الاساسي في معنى الغرب وهو ما انعكس على تاريخ العلاقة المعقدة التي ربطت أو فرقت بيننا (العرب) وبين الغرب."

وأشار الى أنه منذ تلك اللحظة المبكرة كان قادة النهضة العربية "بمعنى ما تجسيدا لتلك الازدواجية.. التأثر الثقافي والمقاومة السياسية وهي ازدواجية تعكس سمة جوهرية في البنية الاساسية للغرب الحديث."

وصدر الكتاب الذي يقع في 546 صفحة من القطع الكبير عن أكاديمية الفنون بمصر. ويعد باكورة (سلسلة الرسائل) التي تهدف بها الاكاديمية كما قال رئيسها المخرج السينمائي مدكور ثابت الى الاشتباك مع "ثقافة المجتمع وأصواته وهمومه وأمانيه."

وكان الكتاب أطروحة الباحث لنيل درجة دكتوراه الفلسفة في النقد الفني العام الماضي من أكاديمية الفنون تحت عنوان (الخطاب الفلسفي في الحداثة العربية في الفترة ما بعد يونيو ر1967. بحث في جماليات الظاهرتين المسرحية والشعرية."

واحتلت اسرائيل في حرب يونيو حزيران عام 1967 شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية اضافة الى قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية العربية. ويعتبر كثير من النقاد والمفكرين العرب تلك السنة فارقة في الفكر والابداع العربيين.

وتضمن الكتاب نص رسالة الدكتوراه اضافة الى سجالات أعضاء لجنة المناقشة.

وأوضح ثابت في مقدمة بلغت 62 صفحة أن الاكاديمية ستتبنى مشروعا لنشر الرسائل ذات القيمة الفكرية حتى "تخرج الانشطة العلمية للاكاديمية للنور وتصبح منصة للتفاعل مع حركة الفكر المصري والعربي عبر النقد والحوار والجدال والتحليل الى اخر صور التفاعل الحي بما يحقق للاكاديمية الخروج من عزلة الانكباب على الشق التعليمي وحده لتشتبك مع المجتمع."

وقال نسيم ان الغرب ينطوي على ثنائية تتلخص في دوره كمصدر للاشعاع المعرفي بالتوازي مع الرغبة في التوسع والسيطرة وأدى هذا الى "تشوهات عميقة في صميم الحضارة الاوروبية ذاتها بقدر ما ولدت (الثنائية) تشوهات مماثلة في المجتمعات التي احتكت بتلك الحضارة."

وأشار الى أن فن الرواية جديد في العالم العربي قياسا الى الشعر وهذا يجعل الرواية أكثر تحررا مما أعتبره قيودا متوارثة فاذا كان "التراث الشعري العربي أحد مصادر خصوبة الشعر الحديث فقد كان قيدا عليه في الوقت نفسه الامر الذي لا نجده في الرواية."

ولكن نسيم الذي أشار الى أن فن الرواية جديد في العربية شدد على أن اعتماد التقنيات الغربية وحدها لا يؤدي بالضرورة الى تحقق الحداثة الروائية بل ان "طغيان الروح الغربية على الرواية العربية أوقعها في حالة من الارتباك وجعلها تتأخر في اكتساب خصوصيتها وملامحها المميزة."

كما حمل النقد الروائي أيضا جانبا من المسؤولية بمساهمته "في حالة الارتباك هذه لانه كان يرى الرواية العربية من خلال المقاييس الغربية وحدها ومن خلال نماذج محددة بالذات الأمر الذي دفع بعدد من الروائيين الى تقليد هذه النماذج أكثر من محاولة البحث عن صيغة روائية خاصة بهم وربما كان التراث عاملا مساعدا في الوصول الى هذه الخصوصية."

وباعتبار الغرب هو الأكثر تقدما وقوة وتأثيرا في العالم اليوم فان نسيم يقول ان الغرب يعتبر ثقافته "هي مقياس للحداثة وضمن هذا الاطار يرى الغرب الاخر ويحدد له المقاييس لكي يتم الاعتراف به... ومن منظور الاستلاب فان الاقل تقدما لكي يكتسب اعتراف الغرب ويحس بجدارته ينسج على منوال القوي ويقلده."

وضمن ما وصفه نسيم بنظرة الغرب الاستشراقية يصدر في العالم العربي في السنوات الاخيرة عدد كبير من الروايات التي كتبت "بهدف الادهاش... هذه الروايات تقول للغرب ما يجب أن يسمعه أكثر مما تقول له عن طبيعة الحياة في هذه البقاع من العالم وفي هذه المنطقة بالذات. هذه الروايات كتبت باللغة الاخرى أو كانت وهي تكتب تراهن على أهميتها وجدارتها ومن ثم عودتها الينا من خلال الترجمة."

وفي تناوله للحداثة الشعرية تساءل نسيم عن مدى تحقق أو وجود "حداثة نقدية ترقى الى الانجاز الشعري الحديث."

وقال ان النقد الادبي "لا ينشط في حقله الخاص أو يوجد حداثته الخاصة بل يقبع في هامش المتن الابداعي."

وأشار الى أن الحداثة الشعرية العربية شهدت "مراجعات حادة لكثير من التصورات والممارسات الشعرية" مستشهدا برأي الشاعرة العراقية نازك الملائكة في الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة التي كانت من بين روادها في أربعينيات القرن الماضي.

وكانت الملائكة حين أصدرت كتابها (قضايا الشعر المعاصر) في مطلع الستينيات قد توقعت أن تنحسر قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر لصالح القصيدة العمودية التقليدية ولكن المشهد الشعري العربي الان تسوده قصيدة النثر التي بلغ عمرها حوالي 50 عاما بحيث أصبحت قصيدة التفعيلة بجوارها استثناء.

وأشار نسيم الى وصف الشاعر السوري أدونيس لقصيدة النثر بأنها "خطرة. خطرة لانها حرة."

وخلص نسيم الى أن "الحداثة الغربية تستمد معياريتها من ذاتها دون الاحالة الى نماذج أخرى فيما استمدت الحداثة العربية صورتها عن ذاتها عبر تأويل النموذجين الغربي والتراثي."

وأضاف أن حركة الحداثة في الابداع العربي عانت منذ البداية الى الان "من الاشكالية نفسها التي واجهتها حركة الحداثة السياسية العربية ولكن مع فارق أنها لم تدرك هذه الاشكالية الا نادرا بسبب من أن الابداع العربي ظل على الاغلب أسير عزلته المفروضة عليه خارج وظيفته التغييرية لأسباب تتعلق بالبنية الثقافية المتخلفة للمجتمع والقمع السياسي... الحداثة عند عدد كبير من الكتاب والشعراء العرب حداثة ظاهرية. لم تكن سوى تمويه."

ويعمل نسيم مديرا لتحرير مجلة (فصول) المصرية المتخصصة في النقد الادبي وله دواوين شعرية منها (السماء وقوس البحر) و(عرس الرماد) و(طائر الفخار) اضافة الى كتاب نقدي ومسرحيتين شعريتين.

شبكة النبأ المعلوماتية -الاحد  3/ تموز/2005 - 25/ جمادى الأولى/1426