[newsday.htm] 
 
 
 

 

التوافق النفسي والاجتماعي لدى أبناء الفلسطينيين المحررين من السجون الإسرائيلية

د. أنور وادي/ غزة-فلسطين

أ- مقدمة:

تعتبر تجربة التعذيب والاعتقال من التجارب المؤلمة في حياة الإنسان حيث يتعرض إلى أشكال عديدة من أساليب التعذيب سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو جسدية، وقد تؤدي إلى ظهور العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية وتكون أحياناً من الشدة حيث تؤثر على الفرد بشكل خاص وعلى علاقته الاجتماعية مع الآخرين بشكل عام وخاصة على الناس المقربين منه ولا سيما الأبناء .

وتبقى أثار الصدمة المتمثلة في التعذيب عالقة بالناجين بيد أنها تترك بصماتها كذلك في الجيل اللاحق، ويعجز الآباء عن أن يقيموا علاقة مباشرة مع أبنائهم كما يعجزون عن الحديث معهم رغم حبهم لهم، وقد كان الأبناء أنفسهم عرضة للعنف السياسي وكانوا شهود عيان على الاعتقال لأحد الوالدين أو الاثنين معاً(ياعكبسون ونيلسن،2000م ،ص81).

وجد التعذيب منذ وجد الجنس البشري، ونجد أوصافاً له تعود إلى ما قبل تاريخنا الراهن، وهناك الكثير من القصص التي تتكلم عن معاناة الرسل والفئة المؤمنة على يد الفئة الكافرة منهم قوم موسى وأصحاب الأخدود وأصحاب رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان التعذيب يستخدم على نطاق واسع في العصور الوسطى كما حصل مثلاً في محاكم التفتيش في إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر، وقيل أن التعذيب اختفى من أوروبا خلال القرن الثامن عشر ثم عاد ليظهر ثانية خلال الحرب العالمية الثانية إلى حد ينذر بالخطر وزاد انتشاره منذئذٍ، وأدى انتشاره إلى أن كثير من ضحايا التعذيب أعادوا خبرتهم الصادمة من خلال تعذيب أفراد آخرين( ياعكبسون ونيلسن،2000م، ص17).

إن عملية كبت الحريات معروفة منذ فجر التاريخ، وكان يستخدم التعذيب في ترجيح كفة الجماعات والأمم والصراعات المسلحة التي قامت بينهما ولعل أسباب استخدام الأسر كان لاعتناق معتقداتها السياسية والاجتماعية وإشاعة الخوف في صفوف المدنيين .

وبالرغم من كثرة المواثيق والمعاهدات الدولية المناهضة لانتهاك حقوق الإنسان يبقى التعذيب أحد المشاكل الرئيسية في العديد من دول العالم، ولقد حققت الهيئات والمنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان جهداً عظيماً للحد من هذه الانتهاكات، إلا أن هذه الجهود لم تقابلها جهوداً موازية في مجال البحث العلمي بغرض فهم هذه الظاهرة فهماً عميقاً، وكذلك بغرض توضيح الآثار التي يتركها القمع السياسي على الأفراد والمجتمعات (Basaglu,et al,1992,p3).

إن الأساليب اللاإنسانية للسلطات الإسرائيلية، والصدمات المتتالية المهددة للتوافق النفسي والاجتماعي ليس لها تأثير مؤقت في فترة الاعتقال فقط، بل يمتد تأثيرها إلى أبعد المراحل المستقبلية مما يؤدي إلى اضطراب في البناء النفسي والاجتماعي ليس فقط على المعتقلين أنفسهم بل يمتد إلى الأجيال اللاحقة.إن الإسرائيليين لا زالوا يقومون بأبحاث عن الجيل الثاني والثالث من أبناء الذين تعرضوا للتعذيب على يد الألمان .

وتختلف الحياة داخل السجن عن الحياة المدنية من حيث المعاملة، بالحبس الانفرادي وعدم السماح لزيارة الأهل والحرمان من الطعام وأشكال التعذيب الأخرى مما يترك آثار سلبية على المعتقل ومن ثم على أسرته، وهذه المواقف الضاغطة تسبب الضيق والتوتر على نفسية المعتقل والتي تؤدي إلى عدم توافق نفسي واجتماعي يرتد سلبياً على أبناء المعتقل.

ويشكل الناجون من التعذيب عدداً كبيراً في دول عديدة من العالم. ويعد الشعب الفلسطيني من أكثر الشعوب التي تعرضت للاعتقال والتعذيب على مدى أكثر من ثلاثين سنة حتى يومنا هذا ولا زال الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني يقبعون داخل السجون الإسرائيلية.

ويتأثر سلوك أفراد الأسرة بما يدور فيه وعليه فإن معاناة الشعب الفلسطيني سنوات طويلة جراء فقده لأرضه وتعرضه للنكبات والحروب المتتالية خبرات الاعتقال و التعذيب والتنكيل, قد أفرز واقعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مريرا. وفي ظل هذه الخبرات الأليمة والإحاطات تبرز المشاكل والاضطرابات العقلية والنفسية والسلوكية، والتي يمكن أن يكون لها بالغ الأثر، في شخصية الفرد ومدى توافقه.

وتشير الدراسات النفسية الحديثة إلى أن الأطفال في الأسر وحيدة الوالدية-خاصة تلك الأسر التي خبرت أحداثاً صادمة- يصبحون أكثر عرضة للمعاناة من المشكلات السلوكية(الخليفة،2001م ،ص86).

ونذكر من بين الآثار النفسية الخطيرة جداً نزعة الناجين من التعذيب إلى الانزواء. فقد فقدوا كرامتهن وثقته بالآخرين لذا ينطوون على أنفسهم. عندما يتعرض أحد أفراد العائلة للتعذيب تتأثر العائلة كلها، ويتأثر أبناء الناجين من جراء ذلك تأثيراً مباشراً من حيث تجاربهم الشخصية المتصلة بالعنف والخسائر والاستغلال وتؤثر فيهم بصفة غير مباشرة التجارب التي عاشها أوليائهم وما نجم عنها من ردود فعل( ياعكبسون ونيلسن،2000م، ص140).

وعلاوة على ذلك فإن معظم الناجين من الخبرات الصادمة يطورون أمراضاً نفسية تتراوح بين الذهانات إلى الانتحار ومعظمهم إن لم يكن جميعهم يعانون من الاضطراب النفسي الناتج عن الصدمة(Post Traumatic Stress Disorder (PTSD) كذلك يعتبر مرض الاكتئاب من الأمراض الشائعة لدى هذه الفئة من الناس بالإضافة إلى أن العديد منهم يفشلون في التوافق مع المجتمع الذي يعيشون فيه مما يجعلهم يلجئون إلى تعاطي المخدرات والكحول (Randall and Lutz,1999,p.39).

كذلك يفقد الأبناء آبائهم ولذا يتهددهم القلق والشعور بعدم الأمان، لذا يتعطل نمو الأبناء إن لم تتح لهم فرصة التفاعل مع والدهم0 وقد قام مركز أبحاث وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب في الدنمارك سنة 1989 بدراسة على أبناء العائلات أو أحد الأبوين أو الاثنين معاً ممن نجوا من التعذيب وأوضحت الدراسة أن كل الأبناء لديهم علامات دالة على إصابتهم باختلال نفسي(Montgomery et al,1992).

ويوجد في التراث عدد كافي من الدراسات حول الآثار النفسية والاجتماعية والجسمية للتعذيب، ولكن يوجد عدد غير كافي عن الدراسات التي تناولت أثر التعذيب على أبناء الذين تم سجنهم وتعذيبهم.

فعندما يصدم الأولياء بالسجن أو التعذيب قد يهدد جديا نمو شخصية الأبناء ورفاهيتهم في المستقبل. لذا فإنه من الضروري أجراء البحوث على الأبناء لأباء كانوا ضحايا للتعذيب.

و يعتبر الاهتمام بموضوع التوافق النفسي والاجتماعي لدى أبناء المعتقلين غاية في الأهمية. ومن خلال عملي في برنامج غزة للصحة النفسية منذ سنة1991 فقد عولج الآلاف من الناس الذين تعرضوا للتعذيب بشكل مباشر أو غير مباشر مثل الأبناء ( حوالي 11ألف حسب إحصائيات برنامج غزة للصحة النفسية) وشفي بعضهم ولكن لا يزال الكثير منهم يعانوا من مشاكل عصابية وذهانية مزمنة وعدم التوافق النفسي والاجتماعي والسلوك المضاد للمجتمع والعديد من الشكاوي الجسمية غير المحددة، الناتجة عن التعرض للصدمة والتعذيب.

وسيقوم الباحث من خلال هذه الدراسة بالتعرف على مستوى التوافق النفسي والاجتماعي لدى أبناء الفلسطينيين المحررين من السجون الإسرائيلية،حيث يعتبر مفهوم التوافق النفسي والاجتماعي من المفاهيم الأساسية التي حظيت باهتمام خاص في علم النفس وعلم الاجتماع، ومما دفعة إلى تناول هذه الدراسة العدد الكبير من المعتقلين السياسيين من أبناء الشعب الفلسطيني، وندرة الدراسات التي تناولت هذه البحوث، ولهذا تم اختيار هذه الدراسة.

تعتبر دراسة التعذيب وتأثيره على متغيرات كثيره متعلقة بالأسر والمعرضين للتعذيب من المواضيع الجديدة في مجال علم الاجتماع وعلم النفس والطب.

والأطفال والمراهقون هم مرآة المجتمع، لذلك للدراسة أهمية حيث يتناول هذا البحث التوافق النفسي والاجتماعي لدى أبناء الفلسطينيين المحررين من السجون الإسرائيلية بمدينة غزة، على حين أن الدراسات تتركز حول الأطفال والمراهقون غير العرب بعيدين عن العوامل الثقافية في المجتمع الذي يعيش فيه الأطفال موضوع البحث.

ملخص الرسالة

تتركز هذه الرسالة على وصف وتحليل واقع أبناء المحررين من السجون الإسرائيلية بمدينة غزة، وكشف المشكلات التي قد تؤثر علي توافقهم النفسي والاجتماعي، وتتضمن تساؤلات الدراسة وفروضها التي تهدف إلى معرفة مستوى التوافق النفسي والاجتماعي العام لدى أبناء الفلسطينيين المحررين من السجون الإسرائيلية بمدينة غزة، ومعرفة ما إذا كان مستوى التوافق النفسي والاجتماعي يتأثر بالفئات العمرية لأفراد العينة وبالفئات العمرية للأبناء عند اعتقال آبائهم وبالجنس و بالمواطنة وبتوفير الدعم من الأسرة الممتدة وبمدة اعتقال آبائهم. وذلك بهدف الوصول إلى نتائج تطبيقية مثمرة في هذا المجال.

وقد تم اختيار عينة قصدية تتكون من (100) طفل من أبناء المحررين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية بمدينة غزة والتي تتراوح أعمارهم بين (8-13) وتم استخدام استمارة جمع المعلومات واختبار الشخصية للأطفال الذي يقيس التوافق النفسي والاجتماعي لديهم.

وأوضحت النتائج أن أعلى درجة حصل عليها الأطفال من الاختبار (83) وأدني درجة (14) من اختبار التوافق النفسي والاجتماعي،وبذلك يمكن القول بأن درجة التوافق النفسي والاجتماعي (التوافق العام) لدى أبناء المحررين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية بمدينة غزة كانت متوسطة.

وقد بينت النتائج عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين الأطفال ذوي الفئة العمرية (8-10) سنوات والأطفال ذوي الفئة العمرية (11-13) سنة بالنسبة لدرجات التوافق الاجتماعي.كما أوضحت الدراسة أنه توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين الأطفال ذوي الفئة العمرية (8-10) سنوات والأطفال ذوي الفئة العمرية (11-13) سنة بالنسبة لدرجات التوافق النفسي وكذلك التوافق العام ،والفروق كانت لصالح الأطفال ذوي الفئة العمرية (8-10)سنوات.

وبينت النتائج أن هناك فروقاً لها دلاله إحصائية في التوافق النفسي والاجتماعي والتوافق العام لصالح الأطفال الذين كانت أعمارهم في الفئة العمرية من (0-5) سنوات عند اعتقال آبائهم في مقابل الفئة العمرية من (6-10) سنوات.

كذلك بينت الدراسة عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين اللاجئين والمواطنين بالنسبة لأبعاد التوافق النفسي. كذلك وجدت فروق دالة إحصائيا بين اللاجئين والمواطنين بالنسبة لأبعاد التوافق الاجتماعي والفروق كانت لصالح اللاجئين.

وبينت النتائج وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين أبناء المحررين الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية الذين تلقوا دعم اجتماعي من قبل أسرهم والذين لم يتلقوا دعم اجتماعي بالنسبة لدرجات أبعاد التوافق النفسي والاجتماعي، والفروق كانت لصالح الأطفال الذين تلقوا دعم اجتماعي من قبل أسرهم.

وأضحت الدراسة عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين الذكور والإناث بالنسبة لأبعاد التوافق النفسي والاجتماعي .

وبينت النتائج وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين الأطفال ذوى المستويات الاقتصادية المختلفة بالنسبة لدرجات التوافق النفسي والاجتماعي، حيث بينت أن أقل مستوى توافق نفسي واجتماعي لدى أبناء المحررين الفلسطينيين هو مع المستوى الاقتصادي السيئ ،وأن أفضل مستويات توافقهم النفسي والاجتماعي للأطفال هو مع المستوى الاقتصادي الممتاز.

وتشير النتائج أيضاً إلى عدم وجود فروق ذات دلالة إحصائية بين أبناء المحررين الفلسطينيين الذين قضوا آبائهم فترات اعتقال ( قليلة، متوسطة، كثيرة) بالنسبة لدرجات التوافق النفسي والاجتماعي، وكذلك التوافق العام.

شبكة النبأ المعلوماتية - الاثنين 13/ حزيران/2005 - 6/ جمادى الأولى/1426