الارهاب التكفيري الحالي كنتاج للحداثة

حاتم حميد محسن

 

عندما يسعى تنظيم ما يسمى بـ داعش للاطاحة بالدول القومية التي أسسها الاوربيون قبل قرن، فان والقسوة والطبيعة الوحشية لهذا التنظيم تلخّص العنف الذي يراه البعض متأصلا بالدين عموما وفي الاسلام بشكل خاص. انه يشير ايضا الى ان ايديولوجية المحافظين الجدد التي أجّجت حرب العراق كانت مضللة، كونها افترضت ان الدولة القومية الليبرالية هي نتيجة حتمية للحداثة، وانه حالما تنتهي دكتاتورية صدام حسين فان العراق سوف ينجح ليصبح ديمقراطياً على الطراز الغربي. بدلا من ذلك، وجدنا ان داعش، الذي وُلد في حرب العراق والمصمم على إعادة اوتوقراطية الخلافة السائدة في عصر ما قبل الحداثة، يبدو انه يريد العودة الى ذلك الماضي. في 16 نوفمبر، نشر المسلحون شريط فيديو يبيّن انهم قطعوا رأس خامس رهينة غربي، بيتر كاسغ موظف الإغاثة الامريكي، بالاضافة الى العديد من الجنود السوريين الذين اُلقي القبض عليهم. البعض ينظر الى الطموحات الشرسة لتنظيم داعش كدليل على عجز الاسلام المزمن في احتضان القيم الحديثة.

ومع ان داعش هو بالتأكيد حركة اسلامية، لكنها حركة ليست عادية ولا هي من الماضي البعيد، لأن جذورها تكمن اساساً في الوهابية، ذلك الشكل من الاسلام الذي طُبق في العربية السعودية التي لم تنشأ الاّ في القرن الثامن عشر. في تموز 2013، أعلن البرلمان الاوربي ان الوهابية هي المصدر الرئيسي للإرهاب العالمي، مع ان مفتي السعودية الكبير ادان داعش بأقوى العبارات، واصر بان "افكار التطرف، الراديكالية والارهاب لاتنتمي للاسلام باي شكل". اعضاء آخرين من الطبقة السعودية الحاكمة ينظرون للحركة باحترام اكبر، مثمنين معارضتها القوية للشيعة وبسبب ايمانها السلفي وطاعتها للممارسات الاصلية للإسلام. عدم الانسجام هذا هو تذكير مفيد باستحالة وضع تعميم دقيق لأي اعتقاد ديني.

شكلان للوهابية

 في تاريخها القصير، طورت الوهابية شكلين متميزين، كل منهما اتخذ معنى للعنف مختلف كليا.خلال القرن الثامن عشر، انتشرت حركات الصحوة الاسلامية في عدة اجزاء من العالم الاسلامي حينما بدأت القوى الامبراطورية للمسلمين تفقد سيطرتها على الاقاليم. وفي تلك الاثناء كان الغرب بدأ بفصل الكنيسة عن الدولة، لكن هذا النموذج العلماني كان ابتكارا راديكاليا: بنفس راديكالية الاقتصاد التجاري الذي كانت اوربا تطورهُ في الوقت ذاته. لم توجد ثقافة اخرى اعتبرت الدين فعالية فردية خالصة، منفصلة عن الاهداف الدنيوية بما فيها السياسة، لذا بالنسبة للمسلمين كان التشظي السياسي لمجتمعاتهم يشكّل ايضا مشكلة دينية. وبما ان القرآن منح المسلمين مهمة مقدسة – ليبنوا اقتصاداً عادلاً فيه يُعامل كل فرد باحترام ومساواة – فان الرفاهية السياسية للامة كان دائما مسألة رسالة مقدسة. لو قُمع الفقراء واستُغل الضعفاء وفسدت مؤسسات الدولة، فان المسلمين مجبرون لبذل كل جهد لإعادة المجتمع لوضعه السليم.

لذا فان مصلحي القرن الثامن عشر كانوا مقتنعين بانه اذا كان على المسلمين استرجاع القوة والشموخ المفقودين، فلا بد ان يعودوا الى اصول دينهم، لكي يضمنوا ان الله - بدلا من المادية او الطموحات الدنيوية – هو المهيمن على النظام السياسي. لم يكن هناك اي طابع عسكري في هذه "الاساسيات"، بل، كانت محاولة اساسية لإعادة توجيه المجتمع وهي لم تستلزم اي شكل من الجهاد. احدى اهم الحركات الاصلاحية كانت حركة محمد عبد الوهاب (1703-91)، الرجل المتعلم في نجد بوسط الجزيرة، الذي كانت تعاليمه تحفز الاصلاحيين المسلمين والمتشددين حاليا. هو كان مهتما خصيصا بشفاعة وزيارة الاشخاص الاولياء واداء الطقوس الوثنية عند القبور، والتي اعتبرها اضفاء للالوهية على اناس فانين. هو أصر على كل رجل وامرأة وجوب التركيز بدلا من ذلك على دراسة القرآن والحديث (السنة). و كما في مارتن لوثر، اراد ابن عبد الوهاب الرجوع الى التعاليم الاولى للدين ونبذ كل التراكمات اللاحقة للقرون الوسطى. ولذلك هو عارض الصوفية والشيعية واعتبرهما كهرطقة او بدعة، وجادل كل المسلمين ان يرفضوا التفسيرات التي جرى تلقينها عبر القرون من جانب العلماء وان يفسروا النصوص لأنفسهم.

هذا بالطبع اغضب رجال الدين وهدد الحكام المحليين الذين اعتقدوا ان التدخل بهذه العبادات المعروفة سيسبب اضطرابا اجتماعيا. في النهاية، وجد ابن عبد الوهاب مناصرا له في شخص محمد ابن سعود زعيم نجد الذي تبنّى افكاره. لكن توترا سرعان ما نشب بين الاثنين لأن ابن عبد الوهاب رفض الموافقة على الحملة العسكرية لابن سعود للاحتلال والسلب، مصرّاً على ان الجهاد لا يمكن استخدامه للمنافع الذاتية وانما يُجاز فقط عندما تتعرض الامة لهجوم عسكري. هو ايضا حرّم عادة العرب في قتل سجناء الحرب، والتدمير المتعمد للاملاك او ذبح المدنيين بما فيهم النساء والاطفال. وهو لم يدّعي ابداً ان من يسقطون في المعركة هم شهداء يُكافئون بمكان عالي في الجنة، لأنه يرى ان الرغبة بمثل هذا التفخيم الذاتي لا تنسجم مع الجهاد.

اذاً امامنا شكلان من الوهابية: اذا كان ابن سعود سعيدا في فرض الاسلام الوهابي بالسيف لتعزيز موقعه السياسي، فان ابن عبد الوهاب اصر على ان التعليم والدراسة والنقاش هم الوسائل الشرعية الوحيدة لنشر الايمان الحقيقي.

وعلى الرغم من ان النص المقدس كان هاما جدا لايديولوجية ابن عبد الوهاب، لكن الاصرار على ان نسخته للاسلام هي الوحيدة الصالحة، يكون بذلك قد شوّه رسالة القرآن. القرآن اكّد بوضوح ان "لا يجب ان يكون هناك اكراه في مسائل الايمان"، وأعلن ان المسلمين يجب ان يؤمنوا بوحي جميع الانبياء العظام وان التعددية الدينية كانت رغبة الله. لذا، كان المسلمون تقليديا قلقين من التكفير، او اتهام المسلم بالكفر.

كانت الصوفية في السابق تولي احتراما كبيراً للتقاليد والمعتقدات الدينية الاخرى، ومثّلت الشكل الاكثر شعبية للاسلام ولعبت دورا هاما في كلا الحياتين الاجتماعية والدينية. "لا تمجّد ايمانك الخاص كثيرا لدرجة ترفض معها الايمان بكل الاشكال الاخرى للايمان"حسبما ذكر الصوفي الكبير ابن عربي. "الله هو كل العالم وهو حاضر في كل مكان ولايمكن ان يكون مقتصرا على اي عقيدة". كان من الشائع للصوفي الادّعاء انه ليس يهوديا ولا مسيحيا ولا مسلما، لأنك حالما تلقي لمحة على الاله، ستترك خلفك هذه الفروقات التي هي من صنع الانسان.

وعلى الرغم من رفضه للأشكال الاخرى للاسلام، امتنع ابن عبد الوهاب ذاته عن التكفير، مجادلاً ان الله وحده يقرأ ما في القلوب، ولكن بعد موته رمت الوهابية التحفظ جانبا واصبحت التعددية الصوفية السخية تثير الشكوك المتزايدة في العالم الاسلامي.

بعد موته، ايضا، اصبحت الوهابية اكثر عنفا، وكوسيلة من ارهاب الدولة. وحينما سعى عبد العزيز ابن محمد ابن سعود لتأسيس مملكة مستقلة، استخدم ابنه وخلفه التكفير لتبرير الذبح الجماعي للناس المعارضين. في عام 1801، هاجم جيشه مدينة كربلاء الدينية في العراق، ونهب قبر الامام الحسين وذبح الالاف من الشيعة بما فيهم النساء والاطفال. وفي عام 1803، ونتيجة الخوف والرعب، استسلمت مدينة مكة المقدسة للقائد السعودي.

وفي النهاية، في عام 1815، ارسل العثمانيون محمد علي باشا حاكم مصر فقضى على الجيش الوهابي وحطم عاصمتهم(1). لكن الوهابية اصبحت مرة اخرى قوة سياسية خلال الحرب العالمية الاولى عندما حاول الزعيم السعودي – عبد العزيز آخر- انشاء حكومة مستقلة وبدأ باقتطاع مملكة كبيرة لنفسه في الشرق الاوسط مستخدما جيشه البدوي المتعصب المعروف باسم الاخوان او الاخوان المسلمين.

الاخوان الاوائل

واذا اردنا البحث عن جذور داعش سنجدها في الاخوان. لكي يجزأوا القبائل ويمنعوهم عن حياة الترحال التي بدت غير منسجمة مع الاسلام، قام رجال الدين الوهابيين بإسكان البدو في الواحات، فيها تعلموا الزراعة ومهن الحياة المستقرة وجرى تلقينهم الاسلام الوهابي. وعندما جرى استبدال غارات الغزو التي كانت تقتصر على النهب، بالجهاد، اصبح هؤلاء المقاتلون البدو اكثر عنفا واشد بطشا، يغطون وجوههم عندما يلاقون الاوربيين او احد من غير العرب السعوديين ويقاتلون بالرماح والسيوف لأنهم يبغضون السلاح غير المستخدم في زمن النبي. وفي غارات الغزو القديمة، كان البدو دائما حريصين على تقليل الأضرار الى ادنى حد ولم يهاجموا غير المسلحين. اما الآن يقوم الاخوان وبشكل روتيني بذبح المرتدين والقرويين المدنيين بالآلاف بما فيهم النساء والاطفال، وهم بكل بساطة يقطعون اعناق كل الاسرى من الذكور.

في عام 1915، قرر عبد العزيز مهاجمة الحجاز (المنطقة الغربية من السعودية الحالية التي تضم مدينتي مكة والمدينة)، والخليج الفارسي الى الشرق من نجد، والاراضي التي تسمى الان سوريا والاردن في الشمال، ولكن في العشرينات من القرن الماضي خفف عبد العزيز من طموحاته لكي يكتسب مكانة دبلوماسية كدولة قومية في تعامله مع بريطانيا والولايات المتحدة. غير ان الاخوان استمروا بغزو المحميات البريطانية في العراق وشرق الاردن والكويت مصرّين على عدم وجود حدود للجهاد. وباعتبار ان كل اشكال التحديث هي بدعة، قام الاخوان ايضا بمهاجمة عبد العزيز لسماحه باستخدام التلفون والسيارات والتلغراف والموسيقى والتدخين واي شيء لم يُعرف في زمن الرسول – الى ان تمكّن عبد العزيز في النهاية من سحقهم وانهاء تمردهم عام 1930.

وبعد هزيمة الاخوان، تخلّت الوهابية الرسمية للملكة السعودية عن الجهاد المسلح واصبحت حركة دينية محافظة مشابهة للحركة الاصلية زمن ابن عبد الوهاب، ماعدا التكفير الذي بقي حتى الان ممارسة مقبولة وجوهرية للايمان الوهابي. هذه النقطة جعلت هناك توترا دائما بين المؤسسة السعودية الحاكمة والوهابيين الاكثر راديكالية. ان حماس الاخوان وحلمهم في التوسع الاقليمي لم يمت، وانما اكتسب ارضية جديدة في السبعينات من القرن الماضي عندما اصبحت المملكة قطبا محوريا للسياسة الخارجية الغربية في المنطقة. واشنطن رحبت بمعارضة السعودية لجمال عبد الناصر وللنفوذ السوفيتي. وبعد الثورة الايرانية، أبدت امريكا دعما ضمنيا لخطة السعوديين في مواجهة الراديكالية الشيعية عبر وهبنة كل العالم الاسلامي.

تأثير موارد البترول

ان ارتفاع اسعار البترول عام 1973 – بعد ان منع المنتجون العرب تصدير النفط للولايات المتحدة احتجاجا على دعمها اسرائيل – هيأ للملكة الاموال الضرورية لتصدير الشكل الفقهي للاسلام. لقد جرى استبدال الجهاد المسلح القديم المستخدم لنشر الدين بالقهر الثقافي. منظمة العالم الاسلامي المرتكزة على اساس سعودي فتحت مكاتب لها في كل مدينة يسكنها مسلمون، وقام وزير الشؤون الدينية السعودي بطبع وتوزيع الترجمة الوهابية للقرآن، والنصوص الفقهية الوهابية وكتابات المفكرين المحدثين التي وجدها السعوديون منسجمة معهم، مثل سيد ابو الاعلى المودودي وسيد قطب وصلت الى الجاليات المسلمة في جميع انحاء الشرق الاوسط وافريقيا واندونيسيا والولايات المتحدة واوربا. في جميع هذه الامكنة، قام السعوديون ببناء مساجد على الطراز السعودي فيها مبشرين وهابيين واسسوا مدارس وفرت تعليم مجاني للفقراء بمناهج وهابية. وفي نفس الوقت، كان الذكور الشباب من الدول الاسلامية الاكثر فقرا كمصر وباكستان الذين كانوا مجبرين للبحث عن عمل لمساعدة عوائلهم يتوجهون الى السعودية ودول الخليج، فارتبطت وفرتهم النسبية بالوهابية وجلبوا معهم هذا الدين الى اوطانهم حيث اصبحوا يعيشون في اماكن جديدة فيها مساجد سعودية ومراكز للتسوق تفصل بين الجنسين. السعوديون طالبوا هؤلاء الشباب بالانسجام الديني مقابل ذلك السخاء، لذا فان الرفض الوهابي لكل اشكال الاسلام والمعتقدات الاخرى تغلغل بقوة الى برادفورد في بريطانيا وبوفولو في نيويورك كما في باكستان والاردن وسوريا، وهو يشكل تجاهلا خطيرا لتعددية الاسلام التقليدية.

ولذلك، فان جيلا كاملا من المسلمين نما وترعرع في ظل شكل خاص للاسلام منحهم رؤية سلبية عن المعتقدات الاخرى وفهما طائفيا متعصبا لدينهم. ومع ان التطرف لم يكن غاية بذاته، لكنه كان رؤية يمكن توظيفها راديكاليا. في الماضي، كانت تفسيرات الفقهاء والتي رفضها الوهابيون، وضعت التفسيرات المتطرفة للنصوص تحت المراقبة، ولكن يوجد الان اشخاص غير مؤهلين مثل اسامة بن لادن كانوا احرارا في تطوير قراءات خاصة للقرآن. ولكي يمنعوا انتشار الراديكالية، حاول السعوديون ابعاد شبابهم عن المشاكل الداخلية للمملكة اثناء الثمانينات وذلك بتشجيع مشاعر الوحدة الاسلامية التي لم يوافق عليها علماء الوهابية.

شعار وحدة المسلمين

وعندما كان الاسلاميون في دول مثل مصر يكافحون الاستبداد والفساد المحلي، كان الاسلاميون السعوديون يركزون على الاذلال والقمع الذي يتعرض له المسلمون في العالم. التلفزيون ينقل الى داخل المنازل السعودية المريحة صوراً عن المسلمين وهم يعانون في فلسطين ولبنان. الحكومة ايضا شجعت الشباب للالتحاق بالقوافل المستمرة للمجندين من العالم العربي الذين التحقوا سابقا بالمجاهدين الافغان ضد الاتحاد السوفيتي. رد فعل هؤلاء المقاتلين يُلقي الضوء على دوافع منْ التحق حاليا بالجهاد في سوريا والعراق.

في استبيان اجري للسعوديين الذي تطوعوا للقتال في افغانستان ومن ثم قاتلوا في البوسنة والشيشان او تدربوا في معسكرات القاعدة وُجد ان معظمهم تحفز ليس بالكراهية للغرب وانما بالرغبة في مساعدة الاخوة المسلمين والاخوات – بنفس الطريقة التي غادر بها الاوربيون بلدانهم عام 1938 لقتال الفاشية في اسبانيا، او حين انتقل اليهود من كل دول الشتات وتوجّهوا الى اسرائيل في حرب عام 1967. ان مصلحة الامة هي دائما روحية بالاضافة للاهتمام السياسي بالاسلام، لذا فان محنة اخوانهم المسلمين تضرب في جوهر هويتهم الدينية. هذا التأكيد الوحدوي للاسلام كان ايضا جوهريا في بروبوغندا بن لادن، والفيديو الذي يعرض السعوديين المشاركين في هجوم سبتمبر 2001 يبيّن انهم لم يتأثروا كثيرا بالوهابية بقدر تأثرهم بحالة الاذلال والالم للامة ككل.

وكما في حالة الاخوان، كانت داعش تمثل تمرداً ضد الوهابية الرسمية للعربية السعودية الحديثة. سيوفهم، وجوههم المغطاة والاعدامات بقطع العنق كله يذكّر بالاخوان المسلمين الاصليين. ولكن من غير المحتمل ان جحافل داعش تتألف كليا من المجاهدين الاشداء. عدد لا يستهان به منهم ربما علمانيين مستائين من الوضع الراهن في العراق: بعثيون من نظام صدام حسين وجنود سابقين في جيشه المنحل. وفي كل الاحتمالات، كان القليل من المجندين الشباب متحفزين بالوهابية او بمُثل اسلامية اكثر تقليدية. في عام 2008، لاحظت وحدة الـ ام 15 للعلوم السلوكية، انه "بعيداً عن كونهم متعصبين دينيين، كان عدد كبير من اولئك المتورطين في الارهاب لا يمارسون دينهم بانتظام. العديد منهم يفتقر الى التعاليم الاولية للدين ويمكن اعتبارهم مبتدئين". جزء كبير من الذين ارتكبوا اعمالاً ارهابية منذ هجوم سبتمبر كانوا غير مكترثين، او متعلمين ذاتيا، مثل المسلح المتأسلم الذي قام اخيرا بالهجوم على البرلمان الكندي. هم ربما يدّعون العمل باسم الاسلام، ولكن عندما نجد شخص غير موهوب ومبتدئ يقول انه يعزف سمفونية بيتهوفن، فنحن لا نسمع الاّ تنافراً نغمياً. اثنان من الجهاديين الذين توجها من برمنغهام الى سوريا في مايو الماضي طلبا كتاب "اسلام لغير المتعلمين" Islam For Dummies من دار أمزون.

الارهاب كنتاج للحداثة

سيكون من الخطأ اعتبار داعش كارتداد رجعي، انه، كما ذكر الفيلسوف البريطاني جون غراي، هو حركة حديثة كليا واصبحت فعالة، وشركة بتمويل ذاتي لها اصول تقدر قيمتها 2 بليون دولار. سرقاتها من الذهب من المصارف واعمال الخطف وتهريب وبيع البترول في المناطق المحتلة واعمال الابتزاز جعلها اغنى جماعة جهادية في العالم. لا شيء اعتباطي او غير عقلاني في عنف داعش. اشرطة الفيديو للاعدام خُطط لها بعناية لتثير الرعب وتمنع الانشقاق وتزرع الفوضى في اكبر عدد من السكان.

ان القتل الواسع هو ظاهرة حديثة. خلال الثورة الفرنسية، التي قادت لظهور اول دولة علمانية في اوربا، قام اليعاقبة Jacobins علنا بقطع رؤوس 17 ألف شخص من الرجال والنساء والاطفال (2). وفي الحرب العالمية الاولى، قامت حركة تركيا الفتاة بذبح اكثر من مليون ارمني، بما فيهم النساء والاطفال وكبار السن، ليخلقوا امة تركية نقية. السوفيت البلشفيك، الخمير الحمر، والجيش الاحمر كلهم استخدموا الارهاب المنهجي لتطهير الانسانية من الفساد. ونفس الشيء، استعمل داعش العنف لتحقيق هدف واحد محدد وواضح يستحيل انجازه بدون الذبح. وبهذا، فهو تعبير آخر عن الجانب المظلم للحداثة.

في عام 1922، حينما استلم كمال اتاتورك السلطة، استكمل التوجهات العنصرية لتركيا الفتاة بالتهجير القسري من تركيا لكل المسيحيين المتحدثين باليونانية، وفي عام 1924 اعلن عن الغاء الخلافة التي تعهد داعش الان بإعادتها. كانت الخلافة ومنذ وقت طويل رسالة جامدة سياسيا، ولكن بسبب رمزيتها لوحدة الامة وارتباطها بالنبي، حزن المسلمون السنة على ضياعها فشعروا بصدمة روحية وثقافية. غير ان مشروع داعش في الخلافة ليس له مناصرين بين علماء الامة على الصعيد العالمي وقوبلت بالسخرية في عموم العالم الاسلامي. ذلك لأن قيود الدولة القومية تصبح وبشكل متزايد اكثر وضوحا في عالمنا، وهذا ينطبق خصيصا على الشرق الاوسط، الذي لا يمتلك تقاليد قومية، ولأن الحدود التي رسمها الغزاة كانت شديدة الاعتباطية لدرجة يصبح من المستحيل خلق روح قومية حقيقية.

ان الدولة الليبرالية الديمقراطية برزت في اوربا جزئيا لخدمة الثورة الصناعية، التي جعلت قيم التنوير لم تعد مجرد طموح كبير وانما ضرورة عملية. انها لم تكن مثالية: نقاط ضعفها كانت دائما في عدم مقدرتها على التسامح مع الاقليات الاثنية – وهو الفشل المسؤول عن اشد الاعمال وحشية في القرن العشرين. في اجزاء اخرى من العالم وحيث برز التحديث بطرق مختلفة، كانت هناك سياسات اخرى اكثر ملائمة. لذا فان الدولة الليبرالية ليست نتيجة حتمية للحداثة، محاولة انتاج ديمقراطية في العراق باستعمال الطرق الاستعمارية للغزو، والاخضاع والاحتلال تؤدي فقط الى ولادة غير طبيعية – وهكذا وُلد داعش من هذه النتيجة المشوهة.

ان داعش ربما تجاوز ذاته، سياساته لا يمكن الاستمرار فيها وهي تواجه معارضة حقيقية من كل من الشيعة والسنة. ولكي نتعامل بواقعية مع الموقف، نحتاج الى فهم دقيق ومحدد لدور الاسلام في الصراع، والى الاعتراف بان داعش ليس عودة رجعية للماضي البدائي، وانما بالمعنى الحقيقي هو نتاج للحداثة.

NewStatesman البريطانية، عدد 27 نوفمبر 2014، من الوهابية الى داعش: كيف كانت السعودية المصدِّر الرئيسي للارهاب العالمي؟ Wahhabism to ISIS: how Saudi Arabia exported the main source of global terrorism.

..................................

الهوامش

(1) يذكر علي الوردي في كتابه (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) ان والي مصر محمد علي ارسل ابنه ابراهيم باشا الى الحجاز لمقاتلة الوهابيين. حين وصل ابراهيم باشا وعمره 27 عاما وقف عند قبر النبي متضرعا ان يساعده الله في قتال الوهابيين العصاة. استطاع ابراهيم باشا هزيمة الوهابيين وملاحقتهم في الصحراء حتى وصل الى عاصمتهم الدرعية فتمكن من احتلالها واسر اميرهم عبد الله بن سعود. وبعد انتصاره عليهم عقد ابراهيم باشا مؤتمرا جمع فيه علماء الوهابية، ووجّه سؤالاً الى احد كبار علمائهم قائلا"هل تؤمن بان الله واحد وان الدين الصحيح الواحد هو دينكم؟ فلما اجاب الوهابي بنعم رد عليه ابراهيم باشا "ما رأيك في الجنة وما عرضها؟"، يشير ابراهيم الى الاية وجنة عرضها السماوات والارض، فلم يعترض الوهابي، حينها قال ابراهيم اذا كان عرضها كما تقول واذا وسعتك انت وامثالك رحمة الله فدخلتم الجنة، الا تكفي شجرة واحدة تضللكم جميعا؟ فلمن اذاً بقية الدار؟ أسألك الجواب، فلما لم يستطع الجواب أمر ابراهيم جنوده بقطع رقابهم جميعا ودُفنوا في ساحة الجامع.

(2) وهو العنف الذي نشب بعد الثورة الفرنسية من 5 ايلول عام 1793 الى 28 تموز 1794. ونتيجة للصراع الدموي بين القوى السياسية المتنافسة، شهدت هذه الفترة اعدامات واسعة النطاق لأعداء الثورة. بلغ عدد الضحايا عشرات الآلاف، حيث اُعدم في باريس وحدها 2639 شخص و25 ألف آخرين اُعدموا في اماكن اخرى من فرنسا.اتساع الحرب الاهلية وتقدم الجيوش الاجنبية داخل حدود الدولة خلق كارثة كبرى وزاد من التوتر القائم سلفا بين جماعتي الـ Girondins و Jacobins الاكثر تطرفاً. القمع تسارع في شهر تموز عام 1794 بما سمي الارهاب العظيم وانتهى بانقلاب وضع حدا لمرحلة الارهاب واُعدم العديد من قادة الارهاب اليعقوبيين.

..........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 9/كانون الأول/2014 - 16/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م