شبكة النبأ: قيمة الاعتدال المتقدمة
تعمل بالضد تماما من قيمة التطرف المتخلفة، ومن المضامين الأساسية التي
ينطوي عليها الفكر الحسيني، هو مضمون الاعتدال، وتأثيره الكبير في بناء
شخصية الانسان، صعودا الى المؤسسة الأسرية، ثم الجمعية والمجتمعية
بصورة عامة، لتشكيل المجتمع الذي يؤمن ويعمل وينتج في المجالين المادي
والفكري، وفقا لقيمة الاعتدال، مبتغيا – المجتمع- تحقيق الدرجة
المطلوبة في التقدم والاستقرارا والتطور والازدهار، وهو ما سبقتنا إليه
مجتمعات ودول تقود اليوم الركب العالمي المتقدم.
لذلك عندما نتفحص الفحوى العميق للفكر الحسيني الذي بُنِيَتْ عليه
منظومة هذا الفكر المتقدم، فإنها تقوم على ركائز عديدة، يقف في المقدمة
منها قيمة الاعتدال، استنادا الى التعامل الواقعي للامام الحسين عليه
السلام في مواجهته للآخر المتعنت والمتجبر والذي لا تعرف قيمة الاعتدال
وجودا أو تأثيرا لها في مواقفه وسلوكه وأفكاره، فالتعامل بتلك الوحشية
وبذلك التعصّب الأعمى مع الامام الحسين وذويه - من الدوحة المحمدية
الشريفة- وصحبه الاطهار، ينم عن عقول متحجرة على نحو كلّيّ، وقلوب
خالية من الرحمة والاحساس الانساني، لهذا كان سلوك هؤلاء الأشرار لا
يمت بصلة للانسانية، ولا ينطوي على ذرة من قيمة الاعتدال.
على العكس تماما من مواقف الامام الحسين عليه السلام وهو يقود
المواجهة التي تفصل بين أهل الحق واصحابه وبين اهل الباطل وطلابه، فعلى
الرغم من كل سمات التعنّت والتزمّت التي اتسمت بها مواقف واقوال وافعال
الآخر، إلا أن قيمة الاعتدال كانت – ولا تزال- الصفة والجوهر الاساسي
للسلوك الحسيني في التعامل مع الآخر المتطرّف عن جهل واصرار مسبق وأعمى.
هذا السلوك الحسيني يشبه البذرة التي تمّ زراعتها في تربة صالحة،
فقد نبت هذا السلوك وتطاولت شجرة الاعتدال وافصحت عن ثمار الاعتدال حتى
يومنا هذا، فالحسينيون الحقيقيون هم أولئك الذين لا يزالون حتى هذه
اللحظة متمسكين بهذا المبدأ وهذا الفكر الانساني المعتدل، وبقيمة
الاعتدال التي اعتمدها الامام الحسين عليه السلام مع اعدائه والمخالفين
له قبل مئات السنوات، واليوم نحن في أشدّ الحاجة الى هذه القيمة وهذا
السلوك في التعامل مع كل من يصطدم بالفكر الحسيني، ومع كل من يتخذ من
التطرف والتعصب والحقد المسبق منهجا له.
ومن حسنات الفكر الحسيني القائم على الاعتدال، أنه يفتواح الابواب
واسعة للحوار والتفهّم والتقارب، والتعامل بانسانية عالية بين جميع
الاطراف، وصولا الى النتائج التي لا تشكل ضغطا على أحد، ولا تكرهه على
اعتماد مبدأ محدد او عقيدة معينة او دين محدد او حتى فكر ورأي من دون
ان يقتنع به شخصيا، بعيدا عن الاكراه والضغوط، لذلك نحن نحترم الآخر
ولا نقبل افكاره تحت الضغط والاكراه، وهو ايضا لن يتعرض للقوة او
الاجبار من اجل ان يؤمن بفكر لا يقتنع به، ولكن تبقى الابواب مفتوحة
امام الجميع لكي يميز بين الفكر الانساني المسالم، وبين الفكر المتعصب
المتجبر الذي لا يرى الصحيح إلا في ذاته، وهذا لعمري نوع من القسر
الفكري لن يرضاه أحد حتى بقوة الاكراه، فالانسان مجبول على القناعة
المسبقة بالفكر والفعل، وحتى لو اضطر بعضهم للقبول بفكر ما تحت القسر
والاكراه، فإنه يبقى في اعماقه من اشد الكارهين لهذا الفكر الذي أجبر
على التسليم به.
لذلك من اهم صفات وسمات ومؤشرات الفكر الحسيني، أنه لا يتخذ من
القسر والاكراه طريقا له، وهذه بدورها تعد من اهم سمات قيمة الاعتدال
التي يتحلى بها الفكر الحسيني، ويأمل هذا الفكر ومن يؤمن به، من الطرف
الآخر أن يتفحّص ويتملّى ويستكشف بنفسه مزايا الفكر الحسيني، ومنها
قيمة الاعتدال التي تمنح الانسان – كائنا من كان- حرية مفتوحة النهايات
لكي يصل بنفسه الى ما يناسبه من افكار ومبادئ، تجعله ينتمي الى
الانسانية فكرا وسلوكا، وتساعده على الوسطية المشروعية واتخاذ قيمة
الاعتدال منهجا له في افكاره وأفعاله.
هكذا إذاً ونحن نقترب من مناسبة دينية كبيرة عند المسلمين في كل
مكان، ألا وهي زيارة اربعينية الامام الحسين عليه السلام، لا نملك إلا
أن ندعو أنفسنا أولا والآخرين، الى استلهام بالفكر الحسيني الخالد في
حياتنا، ولنأخذ معا بكل القيم التي تحتشد في مضامين هذا الفكر الانساني
الاسلامي المتوهج، ومنها قيمة الاعتدال التي تساعدنا على التلاحم
والتقارب ونبذ الخلافات وليس الاختلافات، وتدفعنا دائما الى السمو
والارتقاء الانساني الذي يمنحنا قدرة على الابداع والتوازن، لخلق بيئة
مستقرة تمنحنا قدرة مضاعفة على مواكبة العصر، وفي الوقت نفسه تزيدنا
تمسكا فكريا وعمليا بقيمة الاعتدال، التي تقودنا نحو بناء الدولة
والمجتمع القوي الحديث المؤمن، والمنفتح على الآخر وفقا لقيمة الاعتدال
الفعّالة. |