طه باقر... باعث الحياة في رقوش الطين

(1912- 1984)

د. علي محمد ياسين

 

يعد العراق واحدا من أقدم البلدان التي عرفت العمران البشري وتأسيس المدن وبناء الحضارات بسبب ما يتمتّع به هذا البلد من ظروف مناخيّة وطبيعيّة هيّأت للإنسان القديم استثمار أرضه الذلول التي لم تكن هشّة هشاشة الرمال ولم تكن صلدة صلادة الجبل، كما منحت مياهه الوفيرة فرصة ملائمة لتعمير الأرض واستصلاحها لغرض الزراعة التي كانت من أهم دوافع الاستقرار وإنشاء المساكن والتجمّعات البشريّة على كوكب الأرض.

وقد خلّفت الحضارات التي توالت على العراق آثارا عملاقة وطُرزا فريدة من البناء العمراني الذي يؤكد عبقريّة الإنسان العراقي الأول وحبّه للإبداع والجمال، غير أنّ توالي الأعصر الطويلة وقسوة عوامل التعرية وشدّتها، وغياب الإحساس بالقيمة الفنيّة والتاريخيّة والعلميّة التي تشتمل عليها هذه الآثار كانت من الأسباب التي أسهمت في اندثار تلك الشواهد الحيّة على رقي الذوق عند ساكني بلاد النهرين، وعلى حبّهم الفطري لتعمير الأرض وتحدّي الطبيعة القاسية وقهرها.

ومع دخول الإنجليز للعراق كمحتلين بدأت المساعي الأولى الجادة للتنقيب الآثاري العلمي للعمائر الحجرية وللمدافن الضخمة التي بقيت ظاهرة فوق الأرض وقاومت عوامل التعرية، وقد حصل تطور واضح في علم الآثار في القرن الماضي بعد استفادته من عناصر جديدة في نطاق العلوم الفيزيائية والطبيعية وعلم النبات والحيوان وعلم البيئة، وأصبحت مثل هذه العلوم أداة مهمة لتفسير المشكلات الأثرية وقد أفاد منها المنقبون الإنجليز الذين تعاملوا مع الآثار العراقيّة على أنّها كنوز إنسانيّة حقيقيّة أيّما فائدة.

وكان للطلبة العراقيين الذين تتلمذوا على يد الآثاريين الإنجليز دور بارز في استجلاء صور الحياة الحضاريّة والثقافيّة قبل آلاف السنين في عراق السومريين والبابليين والآشوريين، ومن الرعيل الأول من هؤلاء يأتي عالم الآثار (طه باقر) المولود بمدينة الحلة عام 1912م والمتعلّم بمدارسها الابتدائية والمتوسطة والمنتقل لإكمال دراسته بعلم الآثار في أمريكا على نفقة وزارة المعارف، وقد حصل باقر على شهادة البكالوريوس والماجستير عام 1938م، ليعود خبيرا في مديريّة الآثار العراقيّة ثمّ أستاذا أكاديميّا لتدريس التاريخ والآثار فأمينا عاما للمتحف العراقي.

ولطه باقر دور بارز في إدارة وإصدار مجلة سومر منذ عددها الأول 1945م، كما كان له دور أساسي في تأسيس قسم الآثار بكلية الآداب في جامعة بغداد سنة 1951 وممارسته التدريس داخل هذا القسم لأكثر من عقد من الزمان.

وقد زاول الدكتور طه باقر مهمّة التنقيب في أغلب مناطق العراق من شماله إلى جنوبه، وكان حريصا أشدّ الحرص في التعامل مع اللُقى والمنحوتات، حتى بات أسلوبه في استخراج الأثر وحفظه وصيانته موضوعا للتندّر والفكاهة بين من يعرفه من زملائه العاملين معه.

كما خلّف لنا طه باقر مجموعة كبيرة من الكتب منها مثلا : الصلات التاريخية بين أقطار الشرق الأدنى القديم، مطبوع سنة 1947م، وكتابه (أحدث الاكتشافات الاثارية، مطبوع سنة 1952م)، وكتابه (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة بجزأين، وكتابه (مقدمة في أدب العراق القديم وقد طبع سنة 1976م)، وكتاب (ملحمة كالكامش المطبوع أكثر من مرّة) فيما ترجم العديد من الكتب التي تناولت الحقبة القديمة من تاريخ العراق ككتاب (ألواح من سومر لمؤلفه صموئيل نوح كر يمر) وكتاب (الرافدان تأليف سيتن لويد) الذي ترجمه بالاشتراك مع زميله بشير فرنسيس، وكتاب (الإنسان في فجر حياته تأليف دو روثي ديفدس) وقد ترجمه مشاركة مع زميله فؤاد سفر.

أمّا علم النقوش أو ما يصطلح عليه بـ(الإبيغرافيا)، وهو علم الكتابة القديمة المنقوشة في الحجر والطين والمعدن والخشب فإنّه خير مُعين للآثاري في معرفة سبب وجود الأثر ومعرفة سبب صناعته وأسرار اللغة المنقوشة على سطحه، لذلك كان طه باقر من العلماء المبدعين في هذا الاختصاص حتى وُصِف من البعض بـ(قارئ الطين) وهو وصف له دلالته الرمزية المحيلة على شدّة اعتكاف الرجل على رُقُم وادي الرافدين وعلى ألواحه ونقوشه وأحجاره، وما كُتب أو خُطّط فوق طينه من حكمة وملاحم وآداب استعذبها البشر كلما تذكّروها وأينما قرأوها.

غير أن ملحمة كلكامش تظل أهم أعمال طه باقر على الإطلاق، فقد عانى هذا الآثاري الفذ كثيرا - كما يذكر في مقدمة كتابه هذا- من أجل إعادة الروح والحياة لبعض الألواح التي تهشمت وتكسرت أجزاؤها بفعل عوامل عديدة، ممّا استدعاه لإمضاء الليالي الطويلة مقارنا نصوص الملحمة التي ترجمها بمتون من لغات قديمة وحديثة، ومفسرا ما غمض منها لإخراجه بأقرب صورة إلى واقعه الحقيقي، وهو ما دعا باقر الذي كان مغرما برحلة كلكامش نحو الخلود الموهوم إلى القول: (لعلّني لا أبالغ إذا قلت إنه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين من منجزاتها وعلومها ومتونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة ان تتبوأ تلك الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة) ليكون اسم طه باقر بذلك محفورا إلى جانب أسماء رموز الحضارة السومريّة، ومقترنا باسم كلكامش إلى الأبد.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 2/كانون الأول/2014 - 9/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م