الأثر الجيوسياسي للنفط الرخيص

أنمارتين فيلدشتاين

 

كمبريدج ــ في الأشهر الخمسة الماضية، انخفض سعر النفط بنسبة تجاوزت 25%، لكي يصبح أقل من 80 دولاراً للبرميل. وإذا ظل السعر عند هذا المستوى، فإن هذا قد يخلف عواقب بالغة الأهمية ــ بعضها خير وبعضها الآخر شر ــ على العديد من البلدان في مختلف أنحاء العالم. وإذا سجلت أسعار النفط المزيد من الهبوط، كما يبدو مرجحا، فإن العواقب الجيوسياسية في بعض البلدان المنتجة للنفط قد تكون مأساوية.

إن سعر النفط في أي وقت يعتمد على توقعات المتعاملين في السوق بشأن العرض والطلب في المستقبل. والدور الذي تلعبه التوقعات يجعل سوق النفط مختلفة تماماً عن أغلب الأسواق الأخرى. ففي سوق الخضراوات الطازجة على سبيل المثال، لابد أن تتوازن أسعار العرض والطلب مع المحصول الحالي. وعلى النقيض من هذا، يستطيع منتجو النفط وغيرهم في الصناعة أن يحجبوا الإمدادات عن السوق إذا تصوروا أن السعر سوف يرتفع في وقت لاحق، أو ربما يزيدوا من المعروض في السوق إذا تصوروا أن الأسعار قد تنخفض.

تحجب شركات النفط الإمدادات عن السوق من خلال خفض كمية النفط التي تستخرجها من الأرض. وبوسع منتجي النفط أيضاً أن يقيدوا المعروض من خلال إبقاء المخزون من النفط في ناقلات النفط في البحار أو غير ذلك من مرافق التخزين. وفي المقابل، يستطيع المنتجون أن يضيفوا المزيد إلى النفط المعروض في السوق بزيادة الإنتاج أو تخفيف المخزون لديهم.

وتشير توقعات السوق التي تعكسها الأسعار اليوم إلى انخفاض الطلب وزيادة العرض في المستقبل. ويعكس انخفاض الطلب ضعف النشاط الاقتصادي الحالي، وخاصة في أوروبا والصين، والأمر الأكثر أهمية، التغيرات التكنولوجية الأطول أمدا، والتي من شأنها أن تزيد من كفاءة استخدام الوقود وأن تحث على استخدام الطاقة الشمسية وغير ذلك من مصادر الطاقة غير النفطية. وتعكس الزيادة في المعروض المحتمل في المستقبل ناتجاً جديداً يستخرج بطريقة التكسير الهيدروليكي، فضلاً عن تطوير رمال القطران في كندا، والقرار الذي اتخذته المكسيك مؤخراً بالسماح لشركات النفط الأجنبية بتطوير مصادر الطاقة في البلاد.

وتشير هذه التغيرات في الطلب والعرض إلى أن سعر النفط في المستقبل سوف يكون أقل من توقعات القائمين على الصناعة قبل بضعة أشهر. ولعل بعض التغيرات الأخيرة في الطلب والعرض المتوقع في المستقبل كان من الممكن توقعها في وقت سابق. ولكن ليس هناك من سبيل لمعرفة متى قد تتغير المواقف والتوقعات. ويعكس تقلب أسعار النفط تاريخياً هذه التحولات النفسية فضلاً عن التغيرات في الواقع الموضوعي.

وترتبط أسعار النفط اليوم بأسعار الفائدة المتوقعة. وبشكل أكثر تحديدا، يجد منتجو النفط أنفسهم أمام اختيار استثماري: فبوسعهم أن يزيدوا الإنتاج الآن، وأن يبيعوا النفط الإضافي بسعر اليوم ثم يستثمروا العائدات بأسعار الفائدة الطويلة الأجل، أو يتركوا النفط في الأرض كاستثمار.

وتشجع أسعار الفائدة المنخفضة المنتجين على ترك النفط في الأرض. وعندما تتجه أسعار الفائدة الطويلة الأجل الحالية المنخفضة بشكل غير طبيعي إلى الارتفاع على مدى السنوات القليلة القادمة، فسوف تصبح زيادة المعروض من النفط واستثمار الدخل الناتج عن ذلك بأسعار فائدة أعلى أكثر جاذبية لدى المنتجين. وما لم تتغير التوقعات بشأن أساسيات العرض والطلب في المستقبل، فإن ارتفاع أسعار الفائدة سوف يدفع أسعار النفط إلى المزيد من الانخفاض.

الواقع أن انخفاض أسعار النفط خبر طيب بالنسبة لاقتصاد الولايات المتحدة، لأن هذا يعني ضمناً ارتفاع الدخول الحقيقية للمستهلكين الأميركيين. وداخل الولايات المتحدة، تعمل الأسعار المنخفضة على تحويل الدخل الحقيقي من منتجي النفط إلى الأسر الأميركية، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع الطلب في الأجل القريب لأن الأسر تنفق نسبة أعلى من دخولها مقارنة بما تنفقه شركات النفط. ولنفس السبب، تعطي الأسعار المنخفضة دَفعة للطلب الكلي في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى مستوردة للنفط.

ومن بين أكبر الخاسرين من تراجع أسعار النفط العديد من البلدان التي ليست على صداقة مع الولايات المتحدة وحلفائها، مثل فنزويلا وإيران وروسيا. وهذه البلدان تعتمد بشكل كبير على عائداتها من النفط لدعم إنفاق حكوماتها ــ وخاصة برامج التحويلات المالية الضخمة. ولكن حتى عند مستوى 75 أو 80 دولاراً للبرميل، سوف تواجه الحكومات صعوبة في تمويل البرامج الشعبوية التي تحتاج إليها للحفاظ على الدعم الشعبي.

ورغم أن المملكة العربية السعودية والعديد من بلدان الخليج هي أيضاً من الدول الرئيسية المصدرة للنفط، فإنها تختلف عن غيرها من الدول المنتجة من ناحيتين مهمتين. فأولا، تكاليف استخراج النفط في هذه الدول منخفضة للغاية، وهذا يعني أنها سوف تتمكن من الإنتاج بهامش ربح معقول بالأسعار الحالية ــ أو حتى عند مستوى أقل كثيراً من الأسعار. وثانيا، تسمح الاحتياطيات المالية الهائلة لهذه الدول بتمويل أنشطتها المحلية والدولية لفترة طويلة، في حين تسعى إلى تحويل اقتصاداتها للحد من اعتمادها على عائدات النفط.

إن انخفاض أسعار النفط إلى مستويات أدنى قد يؤدي إلى عواقب جيوسياسية كبيرة. فانخفاض سعر البرميل إلى 60 دولاراً من شأنه أن يخلق مشاكل حادة في روسيا بشكل خاص. ذلك أن الرئيس فلاديمير بوتن لن يظل قادراً على الحفاظ على برامج التحويلات المالية التي تدعم مستويات دعمه الشعبي حاليا. وسوف تكون العواقب مماثلة في إيران وفنزويلا.

ليس من الواضح ما إذا كانت الأنظمة الحاكمة الحالية في هذه البلدان قد تتمكن من البقاء برغم حدوث انخفاض كبير ودائم في أسعار النفط في المستقبل. وعلى النقيض من ذلك، من الواضح أن البلدان المستوردة للنفط سوف تستفيد كثيرا ــ كما استفادت كثيراً بالفعل حتى الآن.

* أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد والرئيس الفخري للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 29/تشرين الثاني/2014 - 6/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م