الحوزات العلمية ودورها في التحصين الثقافي

 

شبكة النبأ: التحصين الثقافي يمكن تعريفه بوضوح، بأنه يمثل قدرة الفرد والمجتمع على التعامل مع الثقافات الاخرى، من دون أن يفقد هويته الثقافية لصالح تلك الثقافات، بمعنى أن ثقافة الفرد بوجود التحصين الثقافي، غالبا ما تكون ذات جذور راسخة، لا يمكن التأثير عليها، مهما كانت الثقافات الاخرى مغرية برّاقة جاذبة للآخر، علما أن عدم الاطلاع على افكار الآخر أو الامتناع عن ذلك لا يشكل حلا مناسبا، لأننا نريد أن نفهم الآخرين ونطلع على ثقافاتهم وافكارهم، ولكننا في الوقت نفسه، لا تريد أن ننخرط في تلك الثقافات ونهمل او ننسى او نتخلى عن ثقافتنا.

في هذه الحالة نحتاج الى مصدّات قوية وراسخة، عملها يشبه عمل صمامات الأمان، تجعلنا في مأمن من الذوبان في الثقافات الوافدة، وهذا هو بالضبط دور التحصين الثقافي للفرد والمجتمع، لاسيما أننا في عالم مفتوح ومواقع تواصلية إعلامية لا حدود لها، فالعزلة الفردية او المجتمعية عن العالم لم تعد ممكنة، كما أنها ليست ذات جدوى، أما ما يصبّ في صالح الفرد والمجتمع، فهو التعامل مع الثقافات الاخرى بصيغة الند بالند، وهذا يستدعي حضورا فاعلا للتحصين الثقافي التام، فما هي المؤسسة او المنظمة او الجهة القادرة على منح الانسان قوة التحصين الثقافي وعيا وفكرا متميزا؟.

لا شك أن الحوزات العلمية، هي الاكثر تأثيرا من سواها في هذا المجال، لأسباب مهمة و واضحة، فعندما يتوافر عنصر الثقة المتبادلة بين الناس وبين الحوزات العلمية ويصل الى الدرجة القصوى، عند ذاك ستكون هذه الحوزات هي مصدر تحصين الفرد والمجتمع، لأنها فضلا عن عامل الثقة المتبادلة، تمتلك التراكم الثقافي الديني الاخلاقي العميق، القادر على تزويد الفرد والمجتمع برصيد ثقافي كبير، يجعله محصّنا ثقافيا ضد الغزوات الثقافية التي ما تفتأ تتدفق على المسلمين من دون توقف، لأسباب معروفة، تقع في مقدمتها السيطرة السياسية على الدول الاسلامية حتى يسهل للدول الطامعة تحقيق مصالحها واهدافها بسهولة ومن دون معوقات.

ولكن هناك عقبة كأداء تقف في طريق التحصين الثقافي، يتمثل بتحجيم دور الحوزات العلمية في رفد العقل الفردي والجمعي، بما يكفيه من ثقافة و وعي، حتى يتحرّز من الانزلاق في الثقافات الغازية، أما مصدر التحجيم فهو دائما الحكومات المستبدة التي تقف بالضد من فاعلية وقوة الحوزات العلمية، وتأثيرها في المجتمع، لسبب واضح ان الحكومات الرديئة التي تنطوي على ثغرات كثيرة، تتمثل بالفساد والظلم والاختلاس والتجاوز على حقوق الشعب، هذا النوع من الحكومات الفاشلة يخشى العلاقات الوطيدة بين الشعب والحوزات العلمية، وغالبا ما ينظر الى هذه العلاقة على أنها مصدر تهديد دائم لسلطته، ولا يمكن أن تفكر الحكومة المتأخرة سياسيا وعلميا وحضاريا، بإطلاق حريات الحوزة العلمية لكي تقوم بدورها كما يجب، وتطلق العنان للعلاقات الوطيدة بين الناس والحوزات.

وعندما نقول بأن الحوزات العلمية هي مصدر التحصين الثقافي ضد الثقافات الوافدة بقصد الغزو الثقافي، فإننا ننطلق من القدرات الفكرية العميقة والمتنوعة التي تتوافر عليها هذه الحوزات من خلال منابعها ومناهلها التاريخية والواقعية، كما ان الجهد الفكري الثقافي الذي توفره الحوزات العلمية للمجتمع، يمكنه أن يمنح افرد المجتمع وجماعاته كافة مناعة تامة عن التأثر بالموجات الثقافية المغرية، بل مهما يكون نوع الغزو الثقافي وامتيازاته وقدراته، فإن الحوزات العلمية لها اساليبها وقدراتها المتميزة في منح الجميع قدرات اضافية من التحصين الثقافي، الذي يمنح بدوره قدرة للانسان على مواجهة الثقافات الاخرى، بقوة ثقافية مضاعفة ومتوقدة، يمكنها أن تقارع الافكار الدخيلة وتتعامل مع ما ينسجم منها، ومع ما يلتقي منها بمنطلقات الفكر الاسلامي الانساني الرافض للذوبان في ثقافات سطحية مادية، تخضع لسياسات وحسابات دولية كونها تقوم على الجشع والظلم والاكراه لجعل الآخرين تابعين لها.

من هنا لا يجوز للسلطات ان تحجّم دور الحوزات العلمية، لأنها اذا أرغمت الحوزات وادخلتها في حلقة الضعف والتردد، عند ذاك يتعرض المجتمع كله للضعف وتصبح شخصية المجتمع الفردية والجمعية مهزوزة مترددة وفاشلة في الوقت نفسه، ولذلك عندما تكون الحوزات العلمية تابعة للحكومات، فإنها تفقد دورها في القدرة على التحصين الثقافي، لأنها لن تكون محل ثقة الناس، بالاضافة الى انها لن تكون قادرة على القيام بدورها الثقافي في زيادة وعي الفرد والمجتمع، وبالتالي سوف يصبح تحجيم دور الحوزات العلمية وبالا على الجميع بما في ذلك النظام السياسي نفسه، لذا قبل ان تشرع الحكومات بتحجيم الحوزات العلمية وتضعف دورها، عليها أن تستكشف أولا النتائج الخطيرة التي سيتعرض لها المجتمع، في حال معاداة الحكومة للحوزة وسلبها دورها المصيري في التحصين القافي للمجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/تشرين الثاني/2014 - 3/صفر/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م