الشرعية

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: عند اندلاع ما عرف وقتها بثورات الربيع العربي، اندلع معها الحديث عن الشرعية والمشروعية لهذه الثورات، وماهي المسافة الفاصلة بين الشرعية والمشروعية بعد تغيير انظمة الحكم في بلدانها، رغم ان الكثير من تلك البلدان قد شهد ثورات سابقة منذ تشكل الدول الوطنية، او حتى قبلها، الا ان الحديث وقتها كان ينصب عن شرعيات اخرى وهي الشرعية الثورية تحديدا، وكذا الحال في ايران من خارج النطاق العربي، الذي بقي شعارها الثوري مرفوعا حتى الان.

الشرعية في العلوم السياسية مفهوم أساسي. وهو في الأصل العربي للمفهوم يوحي بارتباطه بشكل مباشر بالاتفاق مع (الشرع)، والأصل الأجنبي لا يبتعد عن ذات المعنى كثيرا، و إن كان يساعد في الكشف عن تعدد المصادر الرضائية ( أي التي يرتضيها الناس) كأساس للشرعية.

في الأصل اللاتيني لكلمة الشرعية تاتي بمعنى (إضفاء الصفة القانونية على شيء ما) وتضفي الشرعية طابعاً ملزماً على أي أمر أو توجيه و من ثم تحول القوة إلى سلطة، تختلف الشرعية عن المشروعية في أن الأخيرة لا تكفل بالضرورة تمتع الحكومة بالاحترام أو اعتراف المواطنين بواجب الطاعة.

فالمشروعية بهذا المعنى مشتقة من التوافق مع القانون أو اتباعه، أما الشرعية فهي الأصل الذي يفترض أن يستند إليه القانون (و من ثم المشروعية). ورغم أن التصور المثالي يفترض أن تكون القوانين (و المشروعية) تتمتع في الآن ذاته بالشرعية، إلا أن الواقع يعرف العديد من الأمثلة المخالفة لذلك، حيث تنشأ فجوات بين الشرعية و المشروعية، يكون من أبرز مظاهرها وجود قوانين لا تستند إلى الأساس الرضائي المتفق عليه، أو حتى تنتهك هذا الأساس وتتعارض معه.

ترتبط قضية الشرعية بواحد من أقدم الجدالات السياسية وأكثرها أهمية وهو الجدل حول مشكلة (الالتزام السياسي) ففي ثنايا تحليلهم لمدى وجوب احترام الدولة وطاعة قوانينها على المواطنين، طرح منظرو العقد الاجتماعي مثل هوبز ولوك تساؤلات حول توقيت وأسس وكيفية ممارسة الحكومة للسلطة الشرعية في المجتمع. ويلاحظ أن الدلالات السياسية الحديثة لا تركز على مسألة لماذا ينبغي على الناس أن يطيعوا الدولة على نحو مجرد، بل على قضية سبب طاعتهم لدولة معينة أو نظام معين للحكم.

وكان ماكس فيبر قد قدم الإسهام الأساسي في فهم الشرعية كظاهرة اجتماعية حيث حدد ثلاثة أنواع من الشرعية. السياسية هي: السلطة التقليدية (القائمة على التاريخ والعادات) والسلطة الكاريزمية (القائمة على قوة الشخصية)، والسلطة الرئيسية القانونية (المستندة إلى إطار من القواعد الرسمية القانونية).

ووفقاً لفيبر، فإن المجتمعات الحديثة تتجه بشكل متزايد إلى ممارسة السلطة الرشيدة القانونية، وتبنى الشرعية النابعة من احترام القواعد الرسمية القانونية.

وثمة اقتراب بديل للتعامل مع مفهوم الشرعية طوره منظرو الماركسية المحدثة بالتركيز على الميكانيزمات والآليات التي توظفها المجتمعات الرأسمالية لتقييد الصراعات الطبقية وكبح جماحها عبر تصنيع الرضا العام واختلافه من خلال التوسع في الديمقراطية والإصلاح الاجتماعي. ومن ثم تصبح الشرعية مرتبطة بمواصلة الهيمنة الأيديولوجية وفي هذا الإطار طرح مفكرو الماركسية المحدثة مثل هابرماس مفهوم "أزمات إضفاء الشرعية أو أزمات الشرعية" في المجتمعات الرأسمالية ،حيث يضحى من الصعب الحفاظ على الاستقرار السياسي بالاعتماد على الرضا وحده. ويكمن المصدر الأساسي لهذه " النزعات التأزمية" في التناقض المزعوم بين منطق التراكم الرأسمالي من جهة والضغوط الشعبية التي تطلقها السياسات الديمقراطية من جهة أخرى.

وكثيرا ما تختلط الشرعية بالقانونية؛ أى بالمعنى القانونى والشكلى للشرعية؛ غير أن الشرعية فى حقل السياسة وإدارة شـئون الحكم هى أعمق فى معناها وفى جذور نشـأة الدولة كنتيجة لتطور طبيعى مراد ومحقق بصورة مقصودة خصصت فيها السلطة بكيان الدولة وليس بشخص أو أشخاص معينين. وعلى هذا الرأي لم تكن الدولة إلاّ شكلا سياسيا طبعيا؛ تعاقبت فى تطورها وأصل شرعية السلطة فيها على انقاض أشكال أخرى للتشكيلات الطبيعية؛ العشيرة؛ القبيلة؛ جماعات قومية ؛ وهى فى الأصل محل اثبات للنظام الإجتماعى؛ وتبقى أصول نشـأتها مناطة بإجراءات قانونية نجد أصولها فى كل من النظريات الثلاث:

1) نظرية العقد الإجتماعى: التى وصفها جان جاك روسو بأنها: (إتفاق إرادى وّضع فى وقت معين بين أفراد تنازلوا بإرادتهم عن استقلالهم؛ تأسست بموجبه (الدولة) المكونة من قبل المشتركين فى العقد الإجتماعى؛ وعليه فإن فرضية العقد فى هذه النظرية هى وحدها التى يمكن أن تقدّم تفسيرا قانونيا صحيحا لنشأة وتكوين الدولة.

2) وكذلك نظرية العقد السياسى؛ فإنها تؤكد ان العقد السياسى هو اتفاق بين أشـحاص أو هيئات سياسية يشكلون جميعا كادرات إجتماعية سابقة عن تأسيس الدولة؛ تتفاهم لإقامة سلطة سياسية مركزية تتأسس من خلالها و تقوم الدولة.

3) وتبقى نظرية: المؤسسة والدسـتور مرجعية يمكن البناء عليها فى إن ولادة الدولة قد نجمت عــن التاريخ وقد دعّم هذه النظرية عدد من رجال القانون العام الدوليين الذين قالوا ان (الدولة لا ترقى إلــى الحياة القانونية إلاّ منذ اللحظة التى يصبح لها دسـتور)؛ وكما يقول "كار دى مالبرغ": (أن نشـــــأة الدولة تتطابق مع وضع أول دسـتور لها مكتوبا أم غير مكتوب؛ أى مع ظهور النظام الذى يعطى لأول مــرة للمجموعة أجهزة تؤمّن لها وحـدة إرادتها وتجعل منها شخصا دوليا..).

ووفقا لنظريتى العقد الإجتماعى والعقد السياسى؛ فإن أساس الدولة وسيادتها تقوم على اتفاق تعاقدى بين أطراف هذا العقد؛ التى حددها روسو فى العقد الإجتماعى بأنه: (إتفاق اجتماعى إرادى مقبولا من إجما ع رعايا الدولة فى "المسـتقبل" وهو أساس الحريات الفردية؛ تكون الدولة فيه هى الجمعية السياسية المكونة بحرية من قبل المشتركين فى هذا العقد " الاجتماعى" وهو نفس العقد"السياسى"لتأسيس وقيام الدولة وإن عُرّفت أطرافه بأنها؛ أشخاص أو هيئات يشكلون جميعا الكادرات الإجتماعية فى الأمة؛ أو هي: (منظمات المجتمع المدنى) بتعريفاتها الحديثة.

 تفترض الشرعية وجود قواعد قانونية صادرة عن سلطة مختصة وفقا لنظام قانوني معين. ولابد  من الأشارة ـ هنا أيضا الى ان الشرعية مبدأ مطلق او عام ـ أي لايرد عليه استثناء من جهة من يطبقه، وهو كما يسري في مجال القانون العام، كذلك يسري في مجال القانون الخاص.

ويذهب البعض في الفقه العربي الى القول، بان للشرعية معنيين،  معنى  عام وواسع وهو  يشمل كافة التصرفات من حيث وجوب خضوعها للقانون سواء في مجال القانون العام او الخاص، ولها معنى خاص وضيق، وهو خضوع التصرفات الصادرة من اشخاص القانون العام فقط للقانون.

ولابد من الاشارة الى ان جانبا من الفقه العربي قد اعطى للشرعية هذا المعنى، حيث ذهب الدكتور ـ فؤاد العطار الى  القول: (ويقصد بالشرعية ان يحترم كل من  الحاكم والمحكوم القانون ويخضع لسلطانه) ويعرف الدكتور (محسن خليل ـ المشروعية بأنها): (خضوع الحكام والمحكومين للقانون على السواء).

 ولابد من الأشارة ايضا الى ان مضمون الشرعية في الفقه الغربي ينصرف الى حماية الفرد واعطاء المجال له في ان يفعل مايشاء دون ان يضر بالاخرين.

وهكذا فتهدف الشرعية الى حماية الفرد من تعسف السلطة العامة وتقييدها في كل تصرفاتها بالقانون من اجل تحقيق التوازن بين السلطة الممنوحة للهيئات العامة، وبين الحرية التي يمارسها الافراد كحق طبيعي.

وينبغي الوعي باختلاف استخدام مصطلح الشرعية بين الفلسفة السياسية والعلوم السياسية. فالفلاسفة السياسيون عادة ما ينظرون إلى الشرعية كمبدأ أخلاقي أو عقلاني يشكل القاعدة التي يمكن للحكومة الاعتماد عليها في مطالبة المواطنين بالطاعة في حد ذاتها. وفي المقابل، يتعامل علماء السياسة مع مفهوم الشرعية من منطلق علم الاجتماع كتعبير عن إرادة الامتثال لنظام الحكم بغض لنظر عن كيفية تحقق ذلك.. وينظر هذا الموقف إلى الشرعية بمعنى " الاعتقاد في الشرعية" أي الاعتقاد في " الحق في الحكم" وذلك كاستمرار للتصور الذي طرحه ماكس فيبر.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/تشرين الثاني/2014 - 28/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م