الحوزات العلمية وبناء المنظومة الأخلاقية

 

شبكة النبأ: ينقل لنا التاريخ ذلك العداء الواضح الذي تكنّه الأنظمة السياسية القمعية للحوزات العلمية، فالصراع بين الطرفين، يبدأ من الحكومة المستبدة، لأنها ترى في الحوزة العلمية مصدر تهديد دائم لها، ولمصالحها التي تأتي دائما على حساب الشعب، والفقراء منهم على وجه الخصوص، ولأن هذا السلوك الحكومي القمعي ينطوي على ظلم كبير يطول الناس، فإن الحوزات العلمية تقف بالضد من هذا السلوك، وتصطف الى جانب المعتدى عليهم من عامة الشعب والفقراء، الامر الذي لا يروق للحاكم المستبد وحكومته القمعية، فيبدأ رحلة الصراع والتناقض مع الحوزة العلمية، ويبدأ بمحاصرتها وتكبيلها، ويبذل قصارى جهده من اجل منعها من أداء دورها إزاء المجتمع.

فالمجتمع المستقر المتطور الذي يتطلع الى الأفضل دائما، يرتكز على مجموعة من المنظومات والبنى التي تساعده على ولوج التقدم من اوسع أبوابه، وهذا لا يمكن تحقيقه من دون منظومة اخلاقية رصينة تحكم أفكار وسلوك افراد ومكونات المجتمع، واذا تم محاصرة الحوزة وقمعها، واذا شرعت الحكومة بالتضييق على الحوزة العلمية ومشاريعها، فإنها ستكون عاجزة عن التأثير الأخلاقي في المجتمع، وبهذا سوف يكون المجتمع عرضة للتدمير الاخلاقي دائما، وثمة معادلة واضحة ودقيقة تنطبق على هذا الأمر، تنص على ما يلي: كلما كانت الحوزات مقموعة ومحجَّمة، كلما كانت اخلاق المجتمع ضعيفة ومهددة بالتدمير!.

لذلك تبذل الانظمة السياسية القمعية كل ما في وسعها، لكي تمنع الحوزات من اداء واجباتها ودورها في بناء المنظومة الاخلاقية للمجتمع، وعندما يتم قمع وتهميش الحوزات العلمية حكوميا، فإن الهدف الأول من ذلك هو منعها عن اداء دورها الاخلاقي حيال المجتمع عموما، وشريحة الشباب منه بصورة خاصة، كونهم يشكلون القاعدة المهمة لبناء الدولة وتطويرها، من خلال مهاراتهم وقدراتهم ومواهبهم وطاقاتهم الكامنة، لذلك يحتاج الشباب والمجتمع عموما الى حماية المنظومة الاخلاقية وتطويرها، وهذا الدور لا يمكن أن يقوم به سوى الحوزات العلمية، لأنها اكثر المؤسسات التوجيهية قدرة على القيام بهذا الدور الاخلاقي المهم، بسبب قوة تأثيرها على الناس من الفئات العمرية كافة، وهذا التأثير يتأتى بشكل دائم من طبيعة العلاقات المتماسكة بين الحوزات العلمية وبين عموم افراد ومكونات المجتمع، نتيجة للثقة التي يكنها عموم الناس بالحوزات، التي اثبتت انها المدافع الأمين والمؤثر عن حقوق الفقراء وسواهم ممن يتم التجاوز على حقوقه وحرياته حكوميا.

ولا يُخفى عن أحد أهمية الاخلاق في بناء المجتمعات، لذلك يؤكد المعنيون في علم الاجتماع والمختصون في شؤونه، أن الاساس الأهم الذي يقوم عليه البناء المجتمعي هو منظومة الاخلاق الرصينة المتوازنة، القادرة على ضبط الفكر والسلوك لعامة الناس، وخلافا لهذا الامر، لا احد يستطيع أن يضبط إيقاع حركة الشارع، حتى لو كان نظام الحكم دكتاتوريا متسلطا على رقاب الشعب، فعندما تتم الاساءة للناس، في وضح النهار كما تفعل الحكومات الفاسدة، فلا احد يستطيع أن يعرف عواقب رد الفعل للمجتمع، عندما يثور ضد الظلم.

لذلك من مصلحة الحكومات ان تتطور منظومة الاخلاق للمجتمعات، وهذا هو دور الحوزات العلمية، أما عندما تهمل الحكومات اهمية هذا الجانب، وتقوم بمحاصرة الحوزات العلمية وقمعها، وتقليص دورها في البناء الاخلاقي للمجتمع، فعلى هذه الحكومات القمعية أن تتلقى نتائج أعمالها غير المدروسة، لأن جميع المجتمعات تقوم على التماسك والتوازن وامتلاك البنية الاخلاقية المتينة، التي يكون دورها ضبط حركة الشارع، من خلال ضبط مشاعر الناس وتشذيبها من الاحتقان والضغائن والاحقاد والتحامل وما شابه من مشاعر، ربما تصبح شرارة لإشعال حرائق لا احد يستطيع إطفاءها.

لذلك على الحكومات وحكامها، أن يفهموا دائما أهمية أن تكون الحوزات العلمية حرة حتى تستطيع القيام بدورها الإصلاحي الضابط للمجتمع ومكوناته كافة، وهذا الامر سوف يصب في صالح الحكومة، ويجعلها على رأس مجتمع منضبط، ينطوي على بنية أخلاقية رصينة، تمكنت الحوزات العلمية من خلال عدم تحجيمها أو قمعها، أن تؤدي دورها المهم في حماية البنية الاخلاقية لعموم المجتمع، وهو أمر ينبغي أن لا يستهين به الحاكم او حكومته أياً كانت الأهداف والمبررات.

لذلك من الأخطاء الجسيمة التي ترتكبها الحكومات، عندما تحد من حرية الحوزات العلمية، وتقوّض دورها الأساس في حماية وتطوير المنظومة الأخلاقية للمجتمع، لأن الحوزات إذا كانت مكبلة من الحكومات، بعدد من الإجراءات الرسمية الضاغطة، عند ذاك لا يمكنها أداء دورها الأخلاقي التربوي الذي يجعل من المجتمع أكثر توازنا وبصيرة وفهماً، لما يبتغيه من أهداف وتطلعات، لا تُثقل كاهل الحكومة إلا إذا أهملت دور الحوزات العلمية في هذا المجال، وحاصرتها، وقيّدت حريتها، ومنعتها من القيام بدورها في حماية المنظومة الأخلاقية للمجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/تشرين الثاني/2014 - 25/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م