الامام السجّاد، عليه السلام، واستمرارية النهضة الحسينية

 

شبكة النبأ: من الطبيعي أن تأخذ المسيرة منحىً عاطفياً أكثر من أي شيء، فلقد عاش أهل المدينة مع الحسين وتعوّدوا عليه، ورأوا في وجوده و وجود جدّه بعلمه وهيبته، وخلقه، وشجاعته، وغيرته وبكل مكارم الأخلاق، واليوم يسمعون بوصول أهل بيته قرب موطنه، خرجوا معه ورجعوا وحدهم، ولكنهم يحملون رسالته.

إنهم على مقربة من المدينة، مدينة جدهم، ومسقط رأسهم، وموطن أحبتهم، ما أصعب اللقاء...! ما أصعب الدخول إلى المدينة وهم على هذه الحالة!

من هذا المنطلق نرى أن مسرة الركب الحسيني لم تكتف بالالتزام الظاهري العاطفي فحسب، بل أنه عُني بالجانب المبدأي والمنهجي أكثر، واستمر على ذلك في أشكال مختلفة، وسواء كان ذلك على شكل إقامة العزاء والمأتم، أو استمرار البكاء، أو إلقاء الخطب أو بث الأدعية العالية المضامين، أو غير ذلك، والغاية من كل ذلك هو تنوير الأفكار وإيقاظ المجتمع من السبات العميق الذي استولى على جميع أفراده، ما خلا من تمسك بالقرآن والعترة… إنها لحظات صعبة.

الإمام يوفد بشير بن حذلم

إن المتتبع لمسيرة الركب الطاهر من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام، يدرك أن الإمام زين العابدين، عليه السلام، كان هو القائد وصاحب الراية الحسينية الخفّاقة، وكان يخرق الإعلام المشوه، ويكشف الحقائق أمام الناس، فكان نهجه وسلوكه، نهج الفعل والتأثير لا الإنفعال والتأثر.

ومن هذا المنطلق نفهم سرّ إيفاد الإمام، الشاعر، بشير بن حذلم، إلى المدينة، فلقد تمكّن – بصفته رسول الإمام وبكونه شاعراً قوياً ومؤثّراً - من التأثير في المجتمع حتى كاد أن يقلب الوضع في المدينة، بحيث تحرّك أهل المدينة إلى خارجها لاستقبال آل بيت رسول الله، واستثمر الإمام هذه الفرصة وألقى عليهم كلمته.

قال ابن طاووس: قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها – المدينة- نزل علي بن الحسين، فحط رحله، وضرب فسطاطه، وأنزل نساءه، وقال: يا بشير، رحم الله أباك، لقد كان شاعراً، فهل تقدر على شيء منه؟

قلت: بلى، يابن رسول الله، إني لشاعر، فقال، عليه السلام: فادخل المدينة وانْعَ أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة.

وقال: فلما بلغت مسجد النبي رفعت صوتي بالبكاء وأنشأتُ أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرارُ

الجسم منه بكربلاء مضرّجٌ

والرأس منه على القناة يُدارُ

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أُعرّفكم مكانه...

حال المدينة عند سماع الخبر

قال ابن طاووس عن بشير بن حذلم، أنه قال: سمعت جارية تنوح على الحسين وتقول:

نعى سيدي ناعٍ نعاه فأوجعا

فأمرضني ناع نعاه فأفجعا

أعيني جوداً بالمدامع واسكبا

وجوداً بدمع بعد دمعكما معا

لى من دهى عرش الجليل فزعزعا

وأصبح أنف الدين والمجد أجدعا

على ابن نبي الله وابن وصيه

وإن كان عنا شاحط الدار أشسعا

ثم قالت: ايها الناعي جددت حزننا بأبي عبدالله، وخدشت منا قروحاً لما تندمل، فمن أنت يرحمك الله؟

قلت: أنا بشير بن حذلم، وجّهني مولاي علي بن الحسين، وهو نازل موضع كذا وكذا... مع عيال أبي عبد الله الحسين ونسائه.

قال بشير: فما بقيت في المدينة مخدّرة ولا محجبة، إلاّ برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههنّ، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوما أمرّ على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله.

الإمام يخطب في أهل المدينة

قال بشير: فتركوني مكاني وبادروا، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع فنزلت عن فرسي، وتخطيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط.

وقال: ...وكان علي بن الحسين‏ داخلاً فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك عن العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبكاء وحنين النسوان والجواري والناس يعزونه من كل ناحية فضجت تلك البقعة ضجة شديدة.

فأومأ، عليه السلام، بيده أن اسكتوا فسكت الناس فورتهم، فقال:

"الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى وقرب فشهد النجوى نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وألم الفجائع ومضاضة اللواذع وجليل الرزء وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة.

أيها القوم: إن الله وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة، قتل أبو عبد الله الحسين،  عليه السلام، وعترته وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان وهذه الرزية التي ليس مثلها رزية.

أيها الناس! فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها؟ فلقد بكت السبع الشداد لقتله وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار والملائكة المقربون وأهل السماوات أجمعون.

يا أيها الناس: أي قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أي فؤاد لا يحن إليه؟ أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصم؟!

بين يدي الخطاب الرسالي

إن هذا الخطاب مع قصره يحتوى على أمور مهمة نذكر منها:

1- تركيز الإمام السجاد على حمد الله وثنائه المستمر وعلى كل حال وفي كل الظروف.

2- بيانه لما وقع في عالم الكون، وأن العوالم بما فيها من البحار والسموات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة بل أهل السموات. بكت على الحسين، وأن ما حدث من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأفضعها وأمرها وأفدحها.

3- بيانه عمق ما ارتكبه الجيش الأموي من الفاجعة، بحيث لم يمكن أن يقع أبشع منها، وأنه لم يعهد في التاريخ.

 4- إن الإمام السجاد بهذا الخطاب أوقظ الناس، و وجههم على لزوم اتخاذ موقف من هذه الفاجعة، وهذا يتضح من قوله، عليه السلام: "أي قلب لا ينصدع لقتله أم أي فؤاد لا يحن إليه أم أي سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام و لا يصم".

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/تشرين الثاني/2014 - 25/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م