قيم التقدم: الاكتفاء الذاتي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: من الاهداف الأساسية التي تسعى الى تحقيقها الدول والمجتمعات الواعية، هي أن تكتفي ذاتيا، وتؤمِّن موارد متنوعة لسد احتياجات المجتمع، في مجالات الأمن الغذائي بصورة خاصة، وحتى تتمكن الدولة من الوصول الى نتيجة واقعية علمية عملية جيدة في هذا الجانب، لابد أن يتم توظيف جوانب اخرى عديدة لتحقيق خزين استراتيجي دائم، تشترك في انتاجه وتوفيره أطراف كثيرة، تتوزع على الجانبين الفكري و المادي، منها صناعية وزراعية وسواها، أما الطريق نحو تحقيق هذا الهدف بصورة دقيقة، فهو يتمثل بالتمسك الجاد بقيمة الاكتفاء الذاتي، واعتمادها في التخطيط والتنفيذ، ونشرها كقيمة عملية يلتزم بها الجميع ويسعون الى قطف ثمارها.

وتشير التجارب التاريخية والراهن، الى مجتمعات ودول كانت متأخرة، واستطاعت أن تطوّر نفسها، وتنمّي طاقاتها، وتستثمر رؤوس الاموال الفكرية والمادية المتوافرة لها، لكي تكتفي ذاتيا، وقد تحقق لها ذلك لسبب واضح، أنها جعلت من قيمة الاكتفاء الذاتي أمرا لا مناص منه، والتزمت تلك المجتمعات بقيمة الاكتفاء الذاتي على الصعيدين الرسمي والأهلي، بمعنى أوضح، كان هناك اصرار للفرد ومكونات المجتمع على الالتزام بهذه القيمة المتقدمة، لأنهم آمنوا بدرجة تامة بما سيحصلون عليه من نتائج باهرة ترتقي بالدولة والمجتمع، كذلك كان هناك سعيا حكوميا حثيثا في مجال الايمان والتزام العملي بقيمة الاكتفاء الذاتي.

بمعنى أدقّ، أن الجهد الرسمي وضع في حساباته بمجال التخطيط والتنفيذ، اعتماد قيمة الاكتفاء الذاتي بصورة لا تقبل النقاش، أي أن السعي لتحقيق هذا الهدف لن يكون محل رفض او قبول من حيث الانجاز، بل ليس هناك بديل عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في المجالات كافة، وهذا لن يتحقق بصورة اكيدة، إلا عندما يؤمن الفرد والجماعة إيمانا كاملا بهذه القيمة، بالاضافة الى إيمان الدولة والسلطات التنفيذية باعتماد قيمة الاكتفاء الذاتي كهدف لا يمكن أن يتم تجاهله أو تأجيله مهما كانت المبررات او الاسباب التي تستدعي التأجيل أو الإلغاء!.

ولا شك أن هناك خطوات تمهيدية مادية وفكرية، تعمّق ايمان المجتمع والدولة بقيمة الاكتفاء الذاتي، بمعنى ينبغي توضيح هذه القيمة لعامة الناس بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية او المعرفية، فالجميع مسؤول ومدعو للمشاركة في دعم هذه القيمة وترسيخها في المحيط العملي الرسمي والأهلي، ولابد أن تقوم النخب والجهات المعنية ببناء الدولة والمجتمع، بتوضيح الأهمية القصوى التي تمثلها قيمة الاكتفاء الذاتي اذا ما اردنا ان نرتقي الى مصاف الدول المستقرة المتطورة.

ولا يمكن لشعب مستهلِك أن يمسك بناصية قيمة الاكتفاء الذاتي، لأنه يستدعي وجود شعب منتِج دؤوب حيوي، واذا اراد العراقيون تحقيق الاكتفاء الذاتي على الاصعدة كافة، فما عليهم إلا الانتقال من نمط العيش الاستهلاكي الى نمط العيش الانتاجي، وهذا ينطبق على الفرد والجماعة، وينسحب على الدولة والحكومة والمنظمات والاتحادات والمؤسسات الأهلية، بمعنى أكثر وضوحا، ليس هناك احد او جهة او مؤسسة حكومية او رسمية مستثناة او معفاة من هذه المسؤولية البالغة الاهمية.

ونعني بها مسؤولية التمسك التام بقيمة الاكتفاء الذاتي، من اجل الوصول الى الهدف الأهم متمثلا بتحقيق قفزات مهمة في مجالات الانتاج، بأشكاله وانواعه ومجالاته كافة، بمعنى اننا محتاجون الى التطور الفعلي في مجالات الزراعة، والتجارة، والصناعة، والتعليم، والصحة، والامن وغيرها من المجالات التي تصون قيمة الفرد، وتحمي كرامته وحقوقه، وسوف ينعكس ذلك على المجتمع كله، فضلا عن انعكاسه الاكيد على الحكومة والدولة بمجملها، وبهذا يمكن أن نبدأ في الخطوات الاولى التي تقودنا الى تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولكن قبل ذلك علينا كأفراد ومجتمع، وكمسؤولين، أن نؤمن أولا بقيمة الاكتفاء الذاتي، وبأهميتها القصوى، وبما ستحققه لنا من نتائج فعلية كبيرة في مجال التحوّل من الاستهلاك الى الانتاج.

وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تعاني منها الدول والمجتمعات المتأخرة، ومنها العراق بطبيعة الحال، لأننا لسنا هنا في مجال تفضيل الذات او تمجيدها، وانما نحن بصدد نقد الذات العراقية حتى تغادر مكانها الحالي، و واقعها المؤسف الذي يؤكد ان هذا البلد هو ومجتمعه يعاني من ظاهرة مستشرية، تتعلق بكونه تحوّل من شعب منتِج الى شعب مستهلِك يصدّر النفط ويستورد الطعام والملابس والاحتياجات الاخرى التي تديم الحياة، وهو وضع شاذ بطبيعة الحال، يُسأَل عن اسبابه قادة الدولة السياسيين، ولماذا لا تتحرك الحكومة وصنّاع القرار لوضع حد للنمط الاستهلاكي المستشري بين العراقيين، والانتقال الفوري بعد توفير الخطوات العملية المطلوبة، الى الانتاج، وهذا لن يتحقق بطبيعة الحال، من دون أن نفهم ونقدّر ونؤمن بقيمة الاكتفاء الذاتي، وأن يعمل الجميع، لاسيما اصحاب صناعة القرار والتشريع والتنفيذ، حتى نتمكن كدولة ومجتمع من نشر قيمة الاكتفاء الذاتي، كسلوك واسلوب عيش يمضي قُدُماً لإدامة الحياة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 16/تشرين الثاني/2014 - 22/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م