منطق العنف وحقوق الجماهير

محمد علي جواد تقي

شبكة النبأ: منطق السلم او اللاعنف، من المفاهيم المحببة الى النفوس والقريبة الى الفطرة الانسانية، ورغم خلوه من التعقيد والغموض، فقد انبرى علماء ومفكرون للتنظير والبحث لمزيد من التعميق والتكريس في النفوس والوجدان ثم السلوك العام، وان تكون له  مساحة واسعة في الحياة.

لذا نجد أن معظم الابحاث والنقاشات حول هذه القضية يتم توجيهها نحو اصحاب القرار والمتنفذين ومن بيدهم الحل والعقد في المجتمع والدولة، اكثر ما يوجه الى الناس العاديين، وهم في ذلك مصيبون، لان النخبة والطبقة الحاكمة هي القادرة على التأثير على الثقافة والسلوك العام، لاسيما اذا صدرت من أناس يعدهم الناس ممثلون عنهم في اتخاذ القرار، وممن انتخبهم في سياق نظام ديمقراطي على شاكلة الانظمة الديمقراطية في العالم – مع الفارق طبعاً-، فالناس الذين يرون في السلم والوئام الوسيلة المفضلة والآمنة للتعامل فيما بينهم بما تمليه عليهم فطرتهم، يُفاجأون احياناً بتصرفات ومشاهد عنف غريبة من سياسيين ومتنفذين في الدولة، فيهتزّ جدار الأمن والسلم الذي يستندون عليه، ويخال الى بعضهم أنه مجبر على تغيير سلوكه ومسايرة الوضع الجديد والتخلّي عن حالة الوداعة والسلمية والخوض مع الخائضين لتحقيق ما يريد او على الاقل الحصول على حقوقه، عندما تسود لغة القوة والعنف.

وهذا ما يُخشى عليه في العراق (الديمقراطي) الذي يتوقع الكثير ان يتطور سياسياً واجتماعياً على أمل التطور الاقتصادي والازدهار المعيشي. ربما ليس من الجديد سماع ابناء عن اقتحام قوة مسلحة مدعومة من جهة معينة لمبنى او مؤسسة بهدف تغيير قسري في الادارة والرئاسة لصالح الجهة تلك، كما حصل في محافظة الديوانية مؤخراً، على خلفية نزاع سياسي على منصب رئاسة مجلس المحافظة بين كتلتين سياسيتين في البرلمان. بيد ان المشكلة الحقيقية على الارض، انعكاس هذا السلوك على الشارع العام، وتحول هكذا اعمال، صغيرة كانت أم كبيرة، الى ثقافة دراجة في المجتمع، علماً إن المجتمع العراقي بالأساس مثقل بتركة كبيرة من الثقافة العنيفة واللاسلمية التي تركها نظام حزب البعث وشخص صدام، وهذا بحد ذاته مثار تساؤل حول الدور المطلوب من النخبة الحاكمة في هذه المرحلة التاريخية والمصيرية من تاريخ العراق، وفيما ينادي الجميع بضرورة "إعادة البناء"، بل والسؤال الآخر؛ ماهية هذا البناء...؟ وهل هو يقتصر على الجسور والمباني الجميلة والشوارع المعبدة وامثالها...؟

عندما يجري الحديث عن السرقة باستخدام العنف المسلح، مثل السطو على المصارف او الاشخاص في بيوتهم ومحالهم التجارية او حتى "التسليب" في الشوارع، يتصور البعض أن مردّ هذه الظاهرة الى الفقر والحاجة وحالة الطبقية الاجتماعية، في حين نلاحظ أن استخدام العنف لتحقيق مصالح مادية يظهر على الساحة هذه الايام من قبل جماعات متنفذة ذات امكانات عالية، مثل السيارات المضللة والاسلحة المتطورة وحتى الملابس الخاصة بالقوات المسلحة، وربما مع عدد لا بأس به من بطاقات التعريف النافذة في كل مكان...!

احد الاصدقاء روى لي حادثة "تسليب" في وضح النهار في العاصمة بغداد لعائلة كانت قد سحبت مقداراً من المال من احد المصارف، حيث اوقفتها سيارة مضللة وترجل منها اربعة مسلحين ملثمين وطلبوا منهم الاموال فوراً تحت تهديد السلاح. هذه الحادثة رسمت في ذهني صورة الاجراءات الامنية المشددة التي يحرص عليها المسؤولون العراقيون، لاسيما من هم في الدرجة الاولى (...)، حيث عدد السيارات المضللة وافراد الحماية بالعشرات والمعدات العسكرية وغير ذلك، وهم في ذلك معذورون لانهم تركوا بصمات العنف ولغة القوة والقسوة في النفوس، فلا يتجرأوا على الثقة بالناس اذا ما ارادوا – جدلاً- ان يستخدموا سيارات عادية بحيث يراهم المارة والناس، كما هو الحال في معظم الدول الغربية (الديمقراطية)، إذ يتوقع هذا المسؤول او ذاك أن يأتي اليه تصرف عنيف من أي مواطن في الشارع او في سيارته.

إن السلم واللاعنف ليس فقط ثقافة يطّلع عليها المثقفون ويسعوا الى تكريسها في الواقع الاجتماعي، إنما هي نهج يضرب في عمق وكيان الدولة التي تنشد حقاً وصدقاً، النظام الديمقراطي الذي يوفر الامن والاستقرار والتقدم للناس، لذا فان الناس ربما يكونوا محبين للسلم والاستقرار، كما هو رغبة كل انسان سوي، لكن اذا كانت طريقة ادارة الناس من قبل بعض المتنفذين من النخبة السياسية الحاكمة – ولا نقل جميعهم- تتسم بالعنف، ويروج للمقولة: "لابد أن تأخذ حقك بالقوة"، و "إن لم تكن ذئباً أكلت الذئاب"، وغيرها من المقولات الشائعة، فان الناس سيجدون انفسهم امام خيار صعب وهم تحت وطأة الضغوطات القاسية من كل حدب وصوب. فان لم يتسلحون بالقوة والرهبة فانهم ربما يتعرضون في أي لحظة لاعتداء بالسرقة والسطو والعدوان بأي شكل من الاشكال، ولن يكونوا قادرين على استيفاء حقوقهم والاقتصاص من الجاني الغادر.

ان العراق الذي يواجه خطراً داهماً ورهيباً ليس من جماعات وعصابات دموية، إنما من فكر دموي وتفكيري، بحاجة اليوم اكثر من أي وقت آخر، الى قاعدة رصينة من الامن والاستقرار يستند اليها ليستشعر الثقة بالنفس وبالمسؤول عنه أمنياً وسياسياً وادراياً، مما يجعله مطمئناً على ما يخلفه وراء ظهره عندما يتوجه لقتال الاعداء، وأن يجد امامه عدواً واحداً لا غير، هو الذي يهدد كرامته و ارضه وثرواته.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/تشرين الثاني/2014 - 16/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م