السياسة النقدية والخروج عن قواعد اللعبة

حاتم حميد محسن

 

بقدر ماتبدو عليه ظروف الاقتصاد العالمي من سوء فإننا نستطيع حاليا الاطمئنان بان الاوضاع لم تكن في اي مكان من العالم بنفس درجة السوء التي كانت سائدة عام 2009 او ظروف الكساد الكبير عام 1931. ولا تشبه ايضا اي من السيناريوهات الشديدة الخطورة.

هناك الكثير من الاسباب للاعتقاد ان العالم سيستمر بالعمل في السنوات القادمة مثلما استمر في السنتين الاخيرتين. لكن مخاطرة الهبوط الاقتصادي الجديد والمؤذي، مع انها لاتزال صغيرة، لكنها تنمو باستمرار. تلك المخاطرة المتنامية هي نتيجة لإعادة ظهور مقلق ومدهش لظاهرة نقدية لم نشهد مثيلا لها منذ ظهور نظام الذهب gold standard في الثلاثينات من القرن الماضي.

من السهل جدا رؤية كيف ان نظام الذهب الذي مورس بين الحربين العالميتين الاولى والثانية أدخل الاقتصاد العالمي في مشاكل خطيرة. في شكله المثالي، كان الافتراض ان نظام الذهب يعمل بطريقة جذابة. الاقتصادات في ظل نظام الذهب ربطت عملاتها بالذهب ومن ثم بجميع العملات الاخرى المقيّمة بالذهب. عندما يعاني بلد ما من عجز كبير في ميزان المدفوعات، فلابد من حدوث تسوية بشكل اوتوماتيكي. لكي تدفع الدولة للاستيرادات الفائضة عن الصادرات هنا تظهر الحاجة لكي يتدفق الذهب من الاقتصاد ذي العجز. وبسبب ان كل النقود في دائرة التداول ضمن الاقتصاد يجب ان تستند على الذهب بنسبة معينة، فان تدفق الذهب يُجبر البنك المركزي لسحب النقود من الاقتصاد مولّداً انكماش. هبوط الاسعار سيرفع من تنافسية الاقتصاد ذي العجز، وفي النهاية سيُغلق العجز ويتوقف تدفق الذهب نحو الخارج. التسوية ستكون أسهل بعملية موازية في حالة الاقتصاد ذي الفائض، تدفق الذهب نحو الداخل سيسمح بالتوسع في العرض النقدي وبظهور التضخم، الذي بدوره يقلل التنافسية ويوقف تدفق الذهب.

غير ان هناك مشكلة محتملة في هذه الديناميكية. وهي ان مخزون الذهب سينخفض، وبالتالي سينفد من الاقتصاد، وعليه لا بد من ترك النظام. لكن المخزون يمكنه ايضا ان يرتفع الى مالانهاية. وهو ربما يعمل جيدا اذا كان فائض البنك المركزي من الذهب لا يتّبع "قواعد اللعبة" ويختار كبح تدفق الذهب للداخل بدلا من توسيع عرض النقود. البلد الذي ينتهك القواعد (لأنه لا يريد القبول بتضخم مرتفع او الإضرار بموقعه الاقتصادي التنافسي) سيضغط على الاقتصاد العالمي بطريقتين: بسحب الذهب من النظام النقدي العالمي، وبفرض العبء التام للتسوية على الاقتصادات المصابة بالعجز.

والآن عملياً، نرى الاقتصادات تنتهك قواعد اللعبة بشكل روتيني. ولكن قبل الحرب العالمية الاولى لم تحطم هذه الانتهاكات الاقتصاد العالمي لعدة اسباب. اولا، المخزون الكلي للذهب كان يرتفع بفضل المناجم الجديدة، لذا كانت هناك ميول تضخمية في النظام inflationary bias (1)ثانيا، مخزون الذهب كان نسبيا في توازن جيد في العالم الغني، ولذا فان معظم الاقتصادات ربما تشهد استنزافا لبعض الوقت دون اثارة الخوف من خفض قيمة العملة. وثالثا، كان هناك مستوى جيد من التعاون بين البنوك المركزية، التي امتنعت معظمها من اتخاذ خطوات قد تزعزع النظام (مثل رفع اسعار الفائدة فوق المستويات السائدة في اقتصادات العجز).

ان نظام الذهب القصير الأجل الذي ساد بين الحربين العالميتين كان، من جهة اخرى، فوضويا. بريطانيا عادت الى الذهب بعملة مرتفعة القيمة وبقليل من احتياطي الذهب.

بالمقابل، فرنسا عادت الى نظام الذهب بعملة ذات قيمة مخفّضة فقامت بابتلاع كميات كبيرة من الذهب مما ادّى بالتالي، في الفترة من 1927 الى 1932 الى ارتفاع حصتها من احتياط الذهب العالمي من 7% الى 27%. لم تقم اي من الاقتصاديات ذات الفائض بمساعدة الدول ذات العجز، التدفق الداخلي الفرنسي استمر لأنه لم يسمح بكثير من التضخم. وعلى عكس ذلك، الاقتصاديات ذات الفائض نراها احيانا رفعت السعر استجابة لزيادة السعر في الاقتصادات ذات العجز، لكي تحمي نفسها من تدفق الذهب للخارج. النتيجة كانت حصول ضغوط انكماش عالمية deflationary pressure.(2) هذا بدوره ضغط على الاقتصادات والمدينين مسببا رعبا مصرفيا عزز الانكماش وحوّل الكساد الى اسوأ زلزال اقتصادي في العصر الصناعي الحديث.

وبعد الحرب العالمية الثانية، حاول العالم مرة اخرى بناء نظام لسعر الصرف الثابت لكنه فشل مرة اخرى. الانهيار في النظام الذي حدث في السبعينات من القرن الماضي جاء كنتيجة للضغوط التضخمية inflationary pressures (3) بدلا من الضغوط الانكماشية، وكان بالنتيجة اقل ضررا للاقتصاد العالمي: وهو الدرس الذي سينتبه له جيدا صناع السياسة الحاليين. ومنذ ذلك الحين، تطور النظام النقدي العالمي الى نظام مختلط. منطقة اليورو تشبه نظام الذهب. بعض الاقتصادات تمارس تعويم حر للعملة- بما فيها امريكا، التي عملتها هي الشكل المسيطر على احتياطات الصرف الاجنبي العالمي. ومعظم العالم يستعمل نظام تعويم الصرف الموجّه "managed float"، حيث تتدخل البنوك المركزية احيانا لتحجيم القفزات الكبرى او لتحريك سعر الصرف.

السؤال المهم هو هل ان النظام العالمي سيقع في مثل ذلك الفخ الذي حطم نظام الذهب في فترة الحربين العالميتين؟. الاعتقاد التقليدي الشائع يقول كلا. القليل من البنوك المركزية نسبيا استمرت في الدفاع عن تثبيت العملات الصعبة، وهي لذلك لديها نفوذ حر في مقاومة الضغوط الانكماشية. اسعار الصرف هي بشكل عام حرة في التكيف لغلق عدم التوازن العالمي، مقللةً الحاجة للانكماش في اقتصاديات العجز من اجل الحفاظ على التنافسية. الاستثناء الكبير، في النقطة الاخيرة هو منطقة اليورو، حيث ان إعادة التوازن الداخلي تتطلب بالفعل تسوية في كلفة العمالة النسبية. غير ان هذا يجب ان يكون امراً سهلا نظراً لأن البنك المركزي الاوربي حر في عمل السياسة النقدية وان الصرف الخارجي للعملة الموحدة هو ذو مرونة تامة. وعندما ضربت الازمة المالية الكبرى العالم عام 2008 بدأت الاسواق تخشى من الانكماشات الخطيرة. لكن البنوك المركزية استجابت بسرعة وبقوة. ولذلك لم تكن حدة الركود العالمي، بنفس درجة خطورة الكساد الكبير في الثلاثينات.

ان مراقبة الاحداث الاقتصادية للسنوات الاخيرة تكشف لنا تهديدين رئيسيين. الاول هو القيود الواسعة النطاق المتعلقة بمستوى الصفر للفائدة zero lower bound. في مناهج تدريس الاقتصاد تعلّمنا ان الصدمة السلبية negative shock (4) في اقتصاد ما يجب ان لا تجعل الاقتصادات الاخرى ذات الاسعار العائمة للصرف تنظر باستياء لذلك الاقتصاد، لأن بنوكها المركزية المستقلة يمكنها تعويض الضغوط الانكماشية. وبما ان اسعار الفائدة هبطت الى ما يقرب من الصفر في الأعوام 2008-2009، فان السياسة النقدية في اغلب الدول الغنية لا يبدو لديها صدمات تعويضية تامة. وفيما اذا كان هذا الفشل يعود الى ضعف البنك المركزي او عدم الارتياح لمحفزات قيد مستوى الصفر للفائدة، فان النتيجة واضحة: السياسة النقدية لا تعوض كليا الخسائر التي تهب من الخارج. ذلك يقودنا الى النقطة الثانية: وهي الانهيار في التعاون النقدي. في عام 2008-2009 كانت البنوك المركزية العالمية متحدة في تصميمها للحفاظ على العالم بعيدا عن الكساد. حتى الصين، مع انه لا يمكن القول انها تعاونت مع البنوك المركزية العالمية الغنية، لكنها عملت جهدها لإبقاء اقتصادها يعمل بقوة. هذا بدوره، منح العالم مصدرا للضغوط التضخمية.

الآن لم نعد في ذلك العالم. الصين تبدو حاليا لديها طاقة فائضة ونسبة التضخم لديها تهبط بسرعة. ولا يوجد هناك اقتصاد كبير آخر يعمل لتزويد ضغوط تضخمية، او يتضخم طوعيا لمنع الانكماش وتسهيل التسوية في الاقتصادات الاخرى. الولايات المتحدة هي المرشح الاكثر احتمالا لهذا الدور، لديها بنك مركزي يخفف من حجم تسوياتها حتى عندما تكون نسبة التضخم في حالة هبوط او دون المستوى المخطط له.

ذلك يترك العالم في موقف خطير جدا. العدد الكبير والمقلق من البنوك المركزية هي في موقف صعب لا تستطيع فيه التعويض بسهولة عن الصدمات الانكماشية. والبنوك المركزية التي هي في موقف جيد تستطيع فيه تقديم حوافز تضخمية هي بوضوح ترفض القيام بهذا العمل. انها لا تطيع "قواعد اللعبة". ذلك بسبب انها تعتقد ان لا حاجة للقيام بهذا في ظل عالم معظمه يعمل بأسعار صرف مرنة. غير ان قيود مستوى الصفر لسعر الفائدة يبيّن ان هناك حاجة، لأن الضغوط الانكماشية في اقتصاد معين تنتشر بمقتضى الاستجابة النقدية غير الكافية. لابد لجهة ما تتولى قيادة الطريق في سحب الاقتصاد العالمي من قيود مستوى الصفر.

 لكن الاقتصاديات التي تبدو اكثر قدرة على انجاز هذا وهي في المقام الاول امريكا يعني – انها ستضيف الى موجة التباطؤ في نسبة التضخم بدلا من الوقوف ضده. الاقتصاد العالمي لا يزال اقل هشاشة مما كان عليه في الثلاثينات وربما يصبح اكثر فعالية، لكن قد لا يوجد وقت كاف لذلك بسبب الحلقة الضعيفة الشديدة الخطورة المتمثلة بمنطقة اليورو. الضغوط الانكماشية هناك تؤكد اهمية الاتحاد الاقتصادي والسياسي الذي هو غير مؤهل جيدا لمواجهة التحدي. كما ان تفكك منطقة اليورو، ان حدث، سوف يولّد ازمة اقتصادية خطيرة لمجاراة الكساد.

مصرفيو البنوك المركزية وهم في المقاعد الخلفية يفتخرون بانفسهم في السنوات الاخيرة لكونهم ارشدوا العالم للبقاء بعيدا عن كساد ثان، غير ان المهمة لم تُنجز بعد.

The Economist, monetary policy, Breaking the rules, October 21st 2014.

.......................................

الهوامش

(1) وهي اجراءات تقوم بها الدولة لجعل البطالة دون المستوى الطبيعي، مما يرفع الاجور ويزيد نسبة التضخم. تحدث الظاهرة عندما تكون السياسة النقدية والمالية اختيارية بدلا من ان تكون على اساس القاعدة.

(2) الضغوط الانكماشية تشير الى هبوط الطلب المتراكم الذي يقود الى انخفاض نسبة النمو او هبوط في الناتج المحلي الاجمالي وبالتالي انخفاض في نسبة التضخم.

(3) الضغوط التضخمية هي الاسباب الكامنة وراء التضخم. وتشير الى الضغوط في كلا جانبي العرض والطلب التي تسبب ارتفاع في المستوى العام للاسعار. هذه الضغوط هي السبب في زيادة الانتاج لتلبية او لتجاوز طلب المستهلك، او في زيادة الاسعار نتيجة لنقص العرض. الضغوط التضخمية تدفع الاقتصاد للتعديل طبقا لظروف العرض والطلب. حدوث التضخم يحط من قيمة العملة مسببا انخفاض في الاستثمار فيثبط الدول الاخرى من قبول ديون من بلد التضخم.

(4) الصدمة السالبة تحدث اما في جانب الطلب او في جانب العرض. في حالة الطلب تؤدي الصدمة السالبة الى قلة الطلب على السلع والخدمات. بينما تؤدي الصدمة الايجابية الى زيادة الطلب، مثال على صدمة الطلب الايجابية قيام الدولة بزيادة الانفاق او خفض الضرائب او زيادة الاستثمار مما يقود الى زيادة الطلب المتراكم وزيادة الدخل القومي. بالنسبة الى صدمة العرض السالبة او قلة العرض فهي تحصل نتيجة حدث غير متوقع يخفض العرض من السلع والخدمات كما في حالة قرار منظمة اوبك بخفض الكميات المصدرة من البترول في السبعينات، حيث ترتفع الاسعار وينتقل منحنى العرض المتراكم الى اليسار. التقدم التكنلوجي الذي يؤدي الى زيادة الانتاجية هو مثال على صدمة العرض الايجابية، حيث تنخفض الاسعار وينتقل منحنى العرض المتراكم الى اليمين. وفي مجال السياسة النقدية نجد هناك ميلا عاما لدى الحكومات في الاستجابة للصدمة السلبية وذلك بإرخاء السياسة النقدية عبر تخفيض سعر الفائدة، الامر الذي يؤدي الى تعزيز الثقة وتنشيط الانفاق بما يمنع الانهيار في المخرجات والاستخدام.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 8/تشرين الثاني/2014 - 14/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م