ثلاثية التفاوت

محمد العريان

 

لاجونا بيتش ــ شهدت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي اختُتِمَت مؤخراً عدداً غير قليل من مظاهر الانفصال. وكان أحد أكثر هذه المظاهر بروزاً ذلك البون الشاسع بين مصالح المشاركين في المناقشات حول التفاوت والافتقار المستمر إلى خطة عمل رسمية تسير عليها الحكومات في التصدي له. وهذا يمثل فشلاً عميقاً للخيال السياسي ــ والذي يحتاج إلى العلاج على وجه السرعة.

هناك سبب وجيه لارتفاع مستوى الاهتمام على هذا النحو الحاد. ففي حين ضاقت فجوة التفاوت بين البلدان، فإنها شهدت اتساعاً ملحوظاً داخلها، سواء في البلدان المتقدمة أو النامية. وكانت هذه العملية مدفوعة بتركيبة من قضايا مادية طويلة الأجل وأخرى بنيوية ــ بما في ذلك الطبيعة المتغيرة للتقدم التكنولوجي ــ وصعود الخصائص الاستثمارية المميزة لمبدأ "الفائز يستأثر بكل شيء"، ومحاباة النظام السياسي للأثرياء ــ كما كانت مشحونة بقوى دورية عاتية.

في العالم المتقدم، تمتد جذور المشكلة إلى قدر غير مسبوق من الاستقطاب السياسي، والذي أعاق الاستجابات الشاملة وفرض عبئاً ثقيلاً على سياسات البنوك المركزية. ورغم أن السلطات النقدية تتمتع بقدر من الاستقلال السياسي أكبر من ذلك الذي قد تتمتع به هيئات صنع السياسات الأخرى، فإنها تفتقر إلى الأدوات اللازمة للتصدي بشكل فعّال للتحديات التي تواجهها بلدانها.

في الأوقات العادية، قد تدعم السياسة المالية السياسة النقدية، بما في ذلك من خلال الاضطلاع بدور في عملية إعادة التوزيع. ولكن هذه ليست أوقاتاً عادية. ففي ظل الجمود السياسي الذي يعوق التوصل إلى استجابة مالية لائقة ــ بعد عام 2008، لم يقر الكونجرس الأميركي أي ميزانية سنوية، وهي أحد العناصر الرئيسية في أي حكم اقتصادي مسؤول، طيلة خمس سنوات ــ اضطرت البنوك المركزية إلى دعم الاقتصادات بشكل مصطنع. وللقيام بذلك، اعتمدت على أسعار فائدة قريبة من الصفر وتدابير غير تقليدية مثل التيسير الكمي لتحفيز النمو وخلق فرص العمل.

وبعيداً عن كونه منقوصا، فإن هذا النهج يحابي على نحو مستتر الأثرياء، الذين يستأثرون بحصة كبيرة غير متناسبة من الأصول المالية. ومن ناحية أخرى، أصبحت الشركات متزايدة العدوانية في الجهود التي تبذلها لتقليص فواتيرها الضريبية، بما في ذلك من خلال ما يسمى بظاهرة الانقلاب، والتي تنقل بموجبها مقارها إلى ولايات قضائية حيث الضرائب أقل.

ونتيجة لهذا فإن أغلب البلدان تواجه ثلاثية من التفاوتات ــ في الدخل والثروة والفرص ــ والتي إذا تركت لحالها تعزز بعضها البضع، مع ما قد يترتب على ذلك من عواقب عميقة الأثر. والواقع أنه من وراء العواقب الأخلاقية والاجتماعية والسياسية المترتبة على هذه الثلاثية يكمن تخوف اقتصادي عميق: فبدلاً من خلق الحوافز للعمل الشاق الجاد والإبداع، يبدأ التفاوت بين الناس في تقويض الدينامية الاقتصادية، والاستثمار، وتشغيل العمالة، والرخاء.

ولأن الأسر الغنية تنفق حصة أصغر من دخولها وثرواتها، فإن اتساع فجوة التفاوت يترجم إلى انخفاض الاستهلاك الكلي، وبالتالي إعاقة التعافي الاقتصادي في الاقتصادات التي يثقل كاهلها بالفعل نقص الطلب الكلي. وتعمل مستويات التفاوت المرتفعة اليوم أيضاً على إعاقة الإصلاحات البنيوية اللازمة لتعزيز الإنتاجية، في حين تقوض الجهود الرامية إلى معالجة الجيوب المتبقية من المديونية المفرطة.

الواقع أنها تركيبة خطيرة تؤدي إلى تآكل التماسك الاجتماعي، والفعالية السياسية، ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحالي، والإمكانات الاقتصادية في المستقبل. ولهذا السبب، كان من المحبط للغاية أنه برغم ارتفاع الوعي بخطورة اتساع فجوة التفاوت، فشلت اجتماعات صندوق النقد الدولي/البنك الدولي ــ التي حضرها الآلاف من صناع السياسات والمشاركين في القطاع الخاص والصحافيين، والتي ضمت حلقات دراسية حول التفاوت في البلدان المتقدمة والمناطق النامية على حد سواء ــ في إحداث تأثير حقيقي على الأجندة السياسية.

ويبدو أن صناع السياسات على اقتناع بأن الوقت غير مناسب للتقدم بمبادرة هادفة لمعالجة التفاوت في الدخل والثروة والفرص. ولكن الانتظار لن يؤدي إلا إلى زيادة المشكلة استعصاءً على الحل.

الواقع أنه من الممكن ــ بل من الواجب ــ اتخاذ بعض الخطوات لمنع اتساع فجوة التفاوت. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، سوف تساعد الإرادة السياسية المتواصلة في سد الثغرات الهائلة في التخطيط العقاري والمواريث، فضلاً عن النظام الضريبي المطبق على الأسر والشركات، والذي يستفيد منه الأثرياء على نحو غير متناسب على الإطلاق.

وعلى نحو مماثل، هناك مجال لإزالة الممارسة العتيقة البالية المتمثلة في فرض الضريبة على "رسوم الأداء" في صناديق التحوط وصناديق الأسهم الخاصة بمعدلات تفضيلية. ومن الممكن إدخال إصلاحات أكثر عمقاً على الطريقة التي يتم بها دعم ملكية المساكن وفرض الضريبة عليها، وخاصة عند المستويات الأعلى للأسعار. وقد سيقت حجج قوية لرفع الحد الأدنى للأجور.

لا شك أن مثل هذه التدابير لن تؤثر على التفاوت وعدم المساواة إلا قليلا، غير أن ذلك التأثير سوف يكون مهماً وواضحا. ومن أجل تعميق تأثير هذه التدابير، فإن الأمر يتطلب اتخاذ موقف أكثر شمولاً في التعامل مع سياسة الاقتصاد الكلي، على أن يكون الهدف الواضح إعادة تنشيط وتصميم جهود الإصلاح البنيوي، وتعزيز الطلب الكلي، وإزالة أعباء الديون المفرطة. وهذا النهج من شأنه أن يساعد في تقليص العبء السياسي الهائل الذي تتحمله البنوك المركزية حاليا.

لقد حان وقت ترجمة هذا الاهتمام العالمي المتعاظم بالتفاوت إلى عمل منسق متضافر. فبعض المبادرات قد تتعامل مع التفاوت بشكل مباشر؛ في حين تعكف أخرى على نزع فتيل بعض القوى التي تتسبب في دفعه واتساع فجوته. ومن خلال العمل المتضافر تستطيع هذه المبادرات أن تقطع شوطاً طويلاً نحو تخفيف عائق خطير يحول دون تحقيق الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية للجيل الحالي وأجيال المستقبل.

* رئيس المستشارين الاقتصاديين في اليانز وعضو في اللجنة التنفيذية الدولية، كما يرأس مجلس التنمية العالمية للرئيس باراك أوباما

https://www.project-syndicate.org/

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 27/تشرين الأول/2014 - 2/محرم/1436

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1436هـ  /  1999- 2014م