قيم التقدم: الإلتزام

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يرى بعضهم أن هناك تناقضا بين الحرية والالتزام، ويعتقد هؤلاء أن الانسان اذا كان ملزما بانتهاج نوع من السلوك، ينطوي على بعض التحديدات، فإنه في هذه الحالة سيخسر حريته او جزءا منها، ولذلك يدعو هؤلاء الى عدم فرض تفكير او سلوك مسبق على الانسان، ويعتقد هؤلاء أن الانسان لا ينحو الى الشر اذا كان حرا في تفكيره وسلوكه، وغالبا ما يردد ويؤمن أصحاب هذا الرأي، بأن الانسان ينبغي أن يبقى ذا حرية تامة في خياراته وتفكيره، ونحن نتفق معهم بطبيعة الحال في هذا الجانب، ولكن هناك فارق مهم بين ما نؤمن به نحن، وبين ما يدعون إليه حول قيمة الالتزام.

إننا كمسلمين إنسانيين، نؤمن بحرية الانسان، وندعو لحمايتها من التجاوز، ولكن ثمة قيمة أثبتت أنها تُسهم بطريقة فعالة في تطوير المجتمع، ونقله من حيز التخلف والجهل والعشوائية، الى فضاء التطور والانفتاح والتقدم، تلك القيمة هي قيمة الالتزام، وهذه القيمة لا تتعارض مع الحرية كما يظن او يتوهم دعاة الحرية المطلقة، كما ان التجارب والوقائع أثبتت بما لا يقبل الشك، بأن الحرية بلا حدود او ما يطلق عليها بعضهم بالحرية المطلقة، تسببت بأضرار فادحة لبعض المجتمعات التي ذهب بعض مفكريها وفلاسفتها، الى اهمية وحتمية عدم تحديد حريات الانسان في التفكير والسلوك!.

نحن بطبيعة الحال مع الافكار المتحررة، وندعم الفكر الحر، ولكننا لا يمكن أن نطلق العنان لسلوك الانسان، فالاخير كما تؤكد العلوم كافة، ينطوي على تركيبة نفسية معقدة، نجد فيها الخير والشر يتصارعان بلا هوادة، واذا بقيَ الانسان من دون روادع وضوابط ومحددات وضعية واخلاقية وعرفية وما شابه، فإن نظام الغاب هو الذي سيحكم المجتمع، لهذا لابد من انتهاج طريق معتدل وسطي، لا يكبّل الحرية، ولا يطلق العنان للانسان في أفعاله من دون التزام.

إن قيمة الالتزام لا تشكل حاجزا بين الفرد وحريته، بل على العكس من ذلك تماما، فقيمة الالتزام تقوم بدور المقوّم للحريات المنفلتة، ونعني بها عندما يظن الانسان انه يستطيع أن يفعل كل شيء استنادا الى مبدأ الحرية، لكن الحرية نفسها ترفض الانفلات، على العكس من دعاتها الذين يرون ان الانسان يميل الى الخير من دون ضوابط او توجيه أو حتى تذكير بأن الحرية ينبغي أن تُستثمَر وتستخدم في محلها.

ولعل أهم ما تدعو إليه قيمة الإلتزام، ليس تكبيل الحرية الفردية والجمعية، بل تذهب هذه القيمة الى الرفض المطلق للتجاوز على حريات الآخرين، فضلا عن اهمية ضبط السلوك وضبط التفوّه بما لا يسبب ضررا للآخر، وهذا الشرط الذي تدعو إليه قيمة الالتزام لا يشكل تجاوزا على الحرية بقدر ما يدعو الى استخدامها بالطريقة التي تفيد الفرد والمجتمع.

وما يؤكد أهمية قيمة الالتزام، وما يدل على أهمية حضورها في حياة المجتمع كقيمة من قيم التقدم، تلك النجاحات الكبيرة التي يحققها الانسان الملتزم والحر في وقت واحد، على العكس من الانسان الذي لا يراعي طبيعة التعامل مع الآخرين، ولا تحكمه او تضبطه اخلاق او اعراف او حدود تسهم في تقويم الانسان فكريا وعمليا، وهذا الفارق بين الانسان الملتزم والانسان المنفلت، هو الذي يثبت أهمية قيمة الالتزام، وأفضلية أن لا نمارس حريتنا مثل فرس بلا لجام، يوجّه مساراتها واتجاهاتها، فالحرية عندما لا يتم توجيهها نحو المسارات الصحيحة، غالبا ما تقود صاحبها نحو الانحراف، وهذه نتيجة حتمية لعدم اهتمام الانسان بقيمة الالتزام.

علما ان هذه القيمة تدخل في ادق التفاصيل التي تتعلق بالانشطة الانسانية المتنوعة، بل تتعلق في اصغر النشاطات، فعلا وتفكيرا، حتى الكلمة الواحدة ينبغي أن تغادر فم الانسان وفقا لقيمة الالتزام التي توجب عدم التسبب بالاذى للاخر، حتى بالكلام وليس بالفعل فقط، فالفعل المادي قد لا يتفوق على التأثير المعنوي، وتبعا لذلك قد يكون الضرر المادي اقل بكثير من المعنوي الذي يحدث بسبب عدم الالتزام بالكلام المناسب، وينسحب هذا الامر على مختلف نشاطات الانسان التي ينبغي أن تخضع لقيمة الالتزام حتى لا تسبب أذى ماديا او معنويا للاخرين، وهذا سوف يزيد من حميمية العلاقات الانسانية بين افراد المجتمع، وهذا هو السبب في تطور المجتمعات الحرة الملتزمة في الوقت نفسه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 19/تشرين الأول/2014 - 24/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م