نموذج للتطرف في شروحات القرآن

ياسر الحراق الحسني

 

لقد تبين من خلال الأوضاع في سوريا والعراق تحديداً أن الجماعات الإرهابية كانت تنظيم داعش أو النصرة أو غيرهما اكتسحا مدناً كبيرة بحجم الموصل في حين عصت في وجههما قراً صغيرة لا تغزى إلا على جثامين ساكنيها. ترى في المشهد قراً كردية تقاوم بشراسة المد الإرهابي ومدن كبرى تسقط في يد وحوش هذا المد من دون مقاومة الأهالي. وهذا انما يترجم حقيقة وجود مجتمعات حاضنة للإرهاب إن لم نقل إنها تتبنى مبادئ ارهابية في التعبد. وعليه تدعيش هذه المجتمعات هي مسألة وقت فقط. ولقد تكلم الدكتور عدنان إبراهيم بكل صراحة عن عشعشة الإرهاب في النصوص الدينية وامتداد آثاره في المناهج التربوية. وإذا كان دور السلطات المختصة في البلدان الإسلامية إعادة هيكلة المناهج التربوية، فإن طرح النصوص الدينية للنقاش هو دور كل مثقف. وهذا هو الباعث في هذه الورقة على استخراج نموذج لشروحات فرضت على النص القرآني معاني متطرفة أصبحت زبوراً للجماعات الإرهابية في العالم الإسلامي. هذه وقفة مع نموذج الآية الرابعة من سورة محمد.

نص الآية والواضح من المعنى

 {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَٰلِكَ وَلَويَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُو بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ}.

قبل إستعراض الإشكال الحاصل حول شرح أو تفسير هذه الآية بسبب تصرفات المفسرين، من المهم جداً أن نشير إلى حصول إجماع على أن هذه الآية تتعلق بظروف الحرب وتخص المحاربين من المشركين لا المدنيين غير المشاركين في الحرب. وهذا ما عبر عنه بن كثير في مستهل تفسير للآية بقوله: "يقول تعالى مرشداً إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين"1. ويؤيد عدم إهتمام الشريعة الإسلامية بغزو ومحاربة أرباب الديانات الأخرى قيام النبي بإرسال دعوات سلمية إلى زعماء من ديانات أخرى لم يحذرهم فيها بإرسال الجيوش الجرارة، انما كان تحذيره أن عليهم إثم شعوبهم كما هو في نص الرسالة إلى كسرى المشهور والذي جاء فيه:" (..) فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك."2. وهذا دليل واضح على أن الإسلام دين دعوة وليس دين دولة كونية في شكل خلافة كما يزعم البعض.

من الواضح أن الحديث عن ضرب الأعناق في حرب السيوف في القرن السادس للميلاد له علاقة بالتغلب على الخصم. في الآية يوجد شرط وتقييد لضرب الأعناق في الحرب. الشرط هو "إذا لقيتم" والقيد هو "حتى إذا أثخنتموهم". ويشتهر في قواميس اللغة العربية كون فعل لقِي له استعمالات متعددة منها "لقِي عدوَّه" أي قاتله وحاربه. هنا يكون إشتعال الحرب بين جيشين شرط لضرب الأعناق وليس كما كان يفعل في بعض الأحداث التاريخية وبرر له المفسرون ما أدى إلى إستعمال التطرف المعاصر لهذه التبريرات كما سنرى. ثم إن اثخان العدو موجب لإيقاف العدوان وإما العفو عن الأسرى أو الشروع في عمليات تبادلهم حتى إذا لم تكن الحرب منتهية بصفة نهائية لورود حديث المن والفداء قبل أن تضع الحرب أوزارها. فإذن الآية تأذن بالهجوم في حالة حصول الحرب بالطريقة المتعارف عليها في حينها مشجعة على وقف الهجوم عند التغلب حتى إذا لم يعن ذلك إنتهاء الحرب محاولة جعل المن والفداء خاتمة للحرب. وهذا هو بسيط المعنى الذي سنرى كيف تكلف في تعقيده المفسرون لأهداف أو لمصالح لا يسعنا التطرق لها في هذه الورقة.

تعقيدات المفسرين وابتداع التطرف

مما جيء به وتم ادخاله لغاية قول عدد من المفسرين أن هذه الآية نسخت لإبطال شق العفو عن الأسرى أو مبادلتهم. وكذلك تفنن المفسرون في تحييد عبارة "ضرب الرقاب" عن معناها الطبيعي والمعقول المتماشي مع مبادئ الدين الإسلامي لتصبح تبريرا مقدساً لممارسة طقوس ذبح الإنسان الهمجية التي عرفها التاريخ الإسلامي وايذاناً للتمثيل بالجثث. وهذا أمر ملحوظ على أرض الواقع في ممارسات التيارات الإسلامية المتطرفة التي تتشبث باجتهادات السلف. فقال بن كثير أن الآية منسوخة وينسخ معها التشجيع على مبادلة الاسرى أو العفو عنهم نسختها آية تعطي للحاكم الحق بإعدام الأسرى إن شاء. والآية الناسخة هي: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}3. وتحتاج الآية الناسخة بحثاً مخصصاً نلخص الحجة التي تدحض سوء إستعمال هذه الآية للتأسيس لنظرية دار حرب المخالفين في الديانة فيما يلي:

1-لا يوجد من المفسرين من نفى تشجيع الإسلام على فضيلة العفو. فما دام العفو عن الأسرى يدخل تحت العنوان الشامل للعفو فإن تشجيع الآية الأولى عليه مسألة ثابتة وباقية ما بقي العفو مما يشجع عليه الإسلام.

2-القول إن الإسلام يأمر بقتل المشركين حيثما وجدوا إستناداً على آية السيف، وأنها شرعت تدابير زمن التمكين ناسخة تدابير زمن الاستضعاف لا يصمد لثبوت عفو النبي عن الطلقاء وهو المهيمن على الوضع بعد تحرير مكة.

3-إعطاء الأسبقية لآية السيف والقول بأنها نسخت ما قبلها قول خطير يجعلها تنسخ معظم القرآن وتتناقض معه وتجعل الإسلام دين السيف. فمثلاً يشرح القرآن الموت والحياة فيقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُو الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}4. وآية السيف كما شرحها الإسلام السياسي العتيق وإن افترضنا جدلاً أنها تنسخ التدابير العسكرية والمبادئ الأخلاقية فإنه لا يمكن الإعتقاد بأنها تنسخ علة الخلق التي هي الإبتلاء. والابتلاء موجب لإمتلاك الارادة وامتلاك الإرادة موجب لحرية المعتقد.

4 -في زمن توازن القوى النووية لا يمكن تطبيق آية السيف. وعلى إفتراض وجود حاكم إسلامي نووي، فإنه لا يمكن له أن يغير على المشركين لأن في ذلك فناء الإسلام والمسلمين والمشركين معاً.

وإذا كان القرآن صالح لكل الأزمان فإما هذه الآية ليست صالحة لهذا الزمن أو أنها لا تعني ما قدمه المفسرون.

وهناك نقاط أخرى حول آية السيف تناقش في محلها.

من الغريب أنه رغم ذكر بن كثير أن معظم المفسرين نفوا نسخ آية {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} بآية السيف، فإن الشافعي في تفسير بن كثير يقول بأن للحاكم أن يقتل الأسير إن شاء أويستعبده! ومن طريف ما جاء به القرطبي قوله في عبارة فضرب الرقاب: "وقال {فضرب الرقاب} ولم يقل فاقتلوهم، لأن في العبارة بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حز العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وعلوه وأوجه أعضائه"5. أي أن القرآن يشجع على ممارسة القتل ليس بالطريقة المتعارف عليها في القرن السادس للميلاد، بل إنه يشجع على القتل بأبشع صوره. من هنا نستنتج أن الاستعباد والقتل بأبشع صوره يوجد له مبرر ديني في تفاسير أقدس كتاب عند المسلمين الذي هو القرآن.

 القضية لا تقف عند التبرير فقط، بل إننا لما نقرئ التفسير نستشعر نزعة تحريضية مجنونة على قتل الإنسانية حتى تدخل في الإسلام وقتلها بطريقة بشعة لا أساس لها في مبادئ الإسلام السمحة. ويكفي دليلاً على عدم إسلامية ما لفقه المفسرون حول معاني القرآن أنك تجد أقرب الناس إلى الرسول، والأعلم بين تلامذته بإجماع الجميع الإمام علي بن طالب له سيرة خالية من البدع المتطرفة التي ذكرها المفسرون. ولو كانت محاربة أهل الديانات الأخرى واجب على نحو الابتداء وفرض الإسلام بالقهر والقتل بأبشع صوره من الإسلام لكان الإمام علي أول الممارسين. لكن حدوث هذه الممارسات من أطراف امتلكت الحبر والريشة والورق جعل من الممكن إيجاد وإدخال تفسيرات لممارسات حادثة على القرآن كي لا يقدح في اصحابها.

إن وجود مجتمعات بأكملها تحتضن الإرهاب الديني في منطقتنا ليس بصدفة. إن القضية تتعلق بنشأة المجتمعات وتطبعها مع نمط ديني تعبدي فيه من صور الإرهاب والتطرف ما أصبحنا نرى انعكاساته على أرض الواقع. ولا تنفع الضربات الجوية في إقتلاع جذور الإرهاب، كما لا تنفع التجربة الديموقراطية في مجتمعات تربت على ثقافة الموت. إن الإرهاب الديني في صورته الإسلامية يحارب في القرن السادس للميلاد ويحارب فيما يسمى بالعصر الذهبي وعصر المماليك. المنطقة الإسلامية في حاجة إلى ثورة ثقافية شاملة وشجاعة تعيد كتابة التاريخ بأيادٍ مستقلة عن السياسة وعن السلطة. إن للتطرف الديني في التاريخ لبالونات قد انتفخت وحان وقت فرقعتها.

...............................

1. تفسير إبن كثير، آية 4 ، سورة محمد (النسخة الإلكترونيات العالمية).

2. البداية والنهاية، الجز4، بعثه إلى كسرى ملك الفرس.

3. التوبة، آية 5.

4. الملك، آية 2.

5. تفسير القرطبي، آية 4 ، سورة محمد (النسخة الإلكترونيات العالمية).

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 16/تشرين الأول/2014 - 21/ذو الحجة/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م